بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
أبو فراس الحمدانى.. عصى الدمع من بين القصائد التي تم تحلينها وغناؤها تبرز قصيدة “أراك عصى الدمع”للشاعر الفارس أبى فراس الحمدانى(320 – 357 هـ / 932 – 968 م)،وهى قصيدة ذات حكاية تتناقض مع ما يتصوره الكثيرون ممن حفظوها أو رددوها بعد غناء أم كلثوم لها.فللوهلة الأولى يرددها الكثيرون على أنها قصيدة عاطفية يناجى فيها الحبيب محبوبه ذا الأنفة والكبرياء يناشده الرأفة بحاله والاستجابة لمشاعره.لكن الحقيقة أن القصيدة تروي بطولة أبي فراس الحمداني وإخلاصه لسيف الدولة الحمداني والذي كان يرى في أبي فراس الحمداني ـ فضلا عن كونه شاعراً شهدت له بلاغته وقصائده التي قربته من بلاط ابن عمّه سيف الدولة الحمداني ـ فارساً قرّبته صولاته وجولاته في شمال الدولة الحمدانية (شمال سوريا) في صد هجمات الروم للذود عن حكم بني حمدان.
ولأنه لم يتخلف عن ساحة الجهاد فقد وقع في أسر الروم مرتين وتمكن بشجاعته من تخليص نفسه من الأسر مرتين إلى أن يقع في الأسر للمرة الثالثة ويحكم الروم قبضتهم عليه فكتب أبو فراس الحمداني إلى سيف الدولة ليرسل للروم فدية خروجه من الأسر. وصلت رسائل أبي فراس الحمداني إلى ابن عمه الحاكم سيف الدولة فتجاهل الأخير هذه الرسائل بفعل الواشين والكارهين لعودة أبي فراس الحمداني وإخبارهم لسيف الدولة أن خروجه من الأسر سوف يقدّمه بنحو ما إلى سدة الحكم آنذاك نظير صيته في ساحات المعارك وادّعائهم طمع أبي فراس في الحكم، فطالت بأبى فراس ليالي النفي والأسر. فصب حزنه وشجونه في عدة قصائد كانت نهايتها قصيدة “أراك عصيّ الدمع ” وهو يصف نفسه ببيان عاشق مخلص لبلاده وحاكمها. وعندما وقعت هذه القصيدة في يدي سيف الدولة استشعر فيها العاطفة الصادقة لأبي فراس الحمداني واستذكار مآثره وفضله في حماية فما كان من سيف الدولة إلا أن جهز جيشه لاستعادة حلب التي وقعت في أيدى الروم، فحررها وأخرج جميع الأسرى من سجونهم بمن فيهم أبو فراس الحمداني. ولم تطل حياة أبى فراس فقد مات شابا في السادسة والثلاثين من العمر،ومما يرويه الرواة ماقيل إنه آخر شعره وهو يحتضر ؛إذ قال لابنته يوصيها:
أبنيتي، لا تحزني كل الأنام إلى ذهاب
أبنيتي، صبراً جميــلاً للجَليلِ مِنَ المُصَاب!
نُوحِي عَلَيّ بِحَسْرَة ٍ! من خَلفِ سترِك وَالحجابِ
قُولي إذَا نَادَيْتِني، وعييتِ عنْ ردِّ الجوابِ:
زينُ الشبابِ، “أبو فرا سٍ، لمْ يُمَتَّعْ بِالشّبَابِ!
وما لايعرفه كثيرون أيضا أن قصيدة”أراك عصى الدمع” غنتها أم كلثوم أكثر من مرة وبأكثر من لحن لأكثر من ملحن؛حيث غنت أم كلثوم أول مرة هذه القصيدة عام 1926 باللحن الذي وضعه في وقت سابق عبده الحامولي (وهو من قام بغنائها على الأرجح).
وفي منتصف الأربعينيات غنت أم كلثوم هذه القصيدة بلحن مختلف جديد وضعه الشيخ زكريا أحمد.وفي عام 1965 غنت أم كلثوم القصيدة بلحن ثالث وضعه رياض السنباطي، وهذا اللحن هو الأكثر شهرة بين جمهور أم كلثوم خصوصاً أنه مصورٌ تليفزيونياً،وتدخلت أم كلثوم لتغيير بعض ألفاظ القصيدة الأصلية،فمثلا غنت :نعم أنا مشتاق،وكان الأصل :بلى طبقا للقاعدة اللغوية في إجابة الطلب المنفى”أما للهوى نهى عليك ولا أمر”،ورفضت أم كلثوم غناء الصحيح نحويا فكسرت القاعدة وغنتها نعم رفضا للفظ “بلى”خوفا من رفض الجمهور للفظ البلى!
وفى بيت آخر غيرت لفظة “لآنسة في الحى شيمتها الغدر”
وغنتها”لفاتنة في الحى شيمتها الغدر”فرفضت لفظة آنسة لشيوعها في عصرنا الحالي بمعنى الفتاة البكر،بينما لفظة فاتنة يتماشى أكثر ويتماهى مع الجانب العاطفى الذى اتخذته القصيدة شكلا لها.
كلمات القصيدة كما غنتها أم كلثوم:
أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ، أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟
نعم أنا مشتاقٌ وعندىَ لوعة ٌ، ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ
إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى وأذللتُ دمعاً منْ خلائقهُ الكبرُ
تَكادُ تُضِيءُ النّارُ بينَ جَوَانِحِي إذا هيَ أذْكَتْهَا الصّبَابَة ُ والفِكْرُ
معللتي بالوصلِ، والموتُ دونهُ، إذا مِتّ ظَمْآناً فَلا نَزَل القَطْرُ!
وفيتُ، وفي بعضِ الوفاءِ مذلة ٌ لفاتنة ٍ في الحي شيمتها الغدرُ
تسائلني: ” منْ أنتَ ؟ ” ، وهي عليمة ٌ، وَهَلْ بِشجى ً مِثْلي عَلى حَالِهِ نُكرُ؟
فقلتُ، كما شاءتْ، وشاءَ لها الهوى : قَتِيلُكِ! قالَتْ: أيّهُمْ؟ فهُمُ كُثرُ
وقلبتُ أمرى لا أرى لي راحة ً، إذا البَينُ أنْسَاني ألَحّ بيَ الهَجْرُ
وقالتْ: ” لقد أزرى بكَ الدهرُ بعدنا! فقلتُ: “معاذَ اللهِ! بلْ أنت لاِ الدهرُ.
Discussion about this post