بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى…
هزيمة يونيو..الجذور والنتائج
(1)
هل كانت 5يونيو هي ذلك اليوم الأغبر في تاريخ مصر وماتلاه من أيام نحسات خمسة شكلت بعدها حرب الأيام الستة مابين إسرائيل ونفسها؛بعد أن خرج الجيش المصرى فعليا من المعركة المهينة؟
معظم الآراء اتفقت على أن 5يونيو بدأ يوم قرر عبدالناصر التدخل في اليمن .كان عبدالناصر يعتقد أن لواء من القوات الخاصة المصرية مصحوبا بسرب من القاذفات المقاتلة، يمكنه أن يحمي الجمهوريين في اليمن، وكان ناصر يتطلع إلى تغيير النظام اليمني منذ 1957، وفي يناير 1962 وجد الفرصة سانحة لتحقيق تطلعاته، وذلك بدعم حركة الضباط الأحرار اليمنيين بالإيواء والمال وعلى موجات إذاعة صوت العرب، وكان عبدالناصر يعتقد أن قدر مصر هو مواجهة الاستعمار. والمسألة اليمنية لعبدالناصر أو لأى حاكم مصرى مهما كانت الأحداث تساوى أهمية مضيق باب المندب، وكل الحروب التي دخلتها مصر رغبة أو إرغاما تؤكد هذا الوضع الاستراتيجي لباب المندب.
وفى كتاباته عن سيرة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ذكر السير “أنتوني ناتنج” عوامل عديدة دفعت الرئيس المصرى لإرسال قوات مصرية الي اليمن، ومن بينها انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة عام 1961، وكان عبد الناصر يريد استرجاع هيبته بعد انفصال سوريا. وكان انتصار عسكرى سريع وحاسم، يمكن أن يعيد قيادته للعالم العربي. وكانت لعبد الناصر سمعته المعروفة كمعادٍ للاستعمار، وكان يريد طرد البريطانيين من جنوب اليمن، ومن ميناء عدن الاستراتيجي المطل على مضيق باب المندب.
في بداية الثورة اليمنية، في سبتمبر 1962، قرر جمال عبدالناصرإرسال ثلاث طائرات حربية وفرقة صاعقة وسرية من مائة جندى إلى اليمن، في مهمة ظنها سهلة حينذاك، ولكنه تفاجأ أن هناك من يعترض علي هذا القرار، وهو رفيقه كمال الدين حسين، عضو مجلس قياده الثورة، الذي اعتبر قراراً كهذا يشتت الجيش عن مهمته الأساسية، في حربه مع عدو إسرائيلي متأهب علي الدوام، مذكّراً بكم الخسائر التي تحملتها ميزانيه الدولة، من جراء مغامرة الوحدة مع سوريا، التى انتهت بالانفصال المرير.
وطبقا لرواية نقلها الكاتب الصحفى الراحل وجيه أبو ذكرى في كتابه “الزهور تدفن في اليمن” انتهت المناقشة بأن أسمع عبد الناصر زميله “من المنقّي خيار” كما يقول المثل المصرى الشهير، وذكّره بفشله في وزارة التعليم، وطلب إنهاء الاجتماع “لأن كمال تعبان ولازم يستريح”. وبدأ كمال، فور انتهاء الاجتماع استراحة طويلة، في ظل الإقامة الجبرية في الاسكندرية.
سافرت القوات المصرية إلى اليمن، ولم تكن تعرف شيئا عنها ولا عن طبيعتها أو طبيعة الحرب التي ستخوضها.. ولم تكن مستعدة لها، ولم تكن حرباً بالشكل المفهوم بل كانت “حرب عصابات”كر وفر، وفتح الطرق التي تقطعها القبائل اليمنية، أرسلت مصر سرية صاعقة ثم وصل العدد إلي “55” ألف مقاتل مصرى في اليمن.
وحاربت القوات المصرية في اليمن أصنافاً كثيرة من البشر، ومرتزقة من كل مكان في العالم، ولم تكن تعرف العدو من الصديق، وهل هذا يؤيد الجمهورية أم ضدها، وكانت طبيعة العدو الذى تقاتله القوات المصرية تتميز بالغدر والخيانة. بالإضافة إلى طبيعة الأرض وصعوبة التحرك عليها، خاصة المنطقة الجبلية التي كانت تعسكر بها القوات المصرية، وكثرة الأحجار الصخرية، وتأثيرها الخطير على أحذية الجنود التي كانت تنتزع نعالها في مشوار واحد، فتصاب أقدام الجنود من الصخور وتدمي أصابعهم.
ومع قلة المياه وطول المسافة وخطورتها علي موارد المياه في الوادى، واحتمال تلوثها بفعل العدو، وصعوبة وصول التعيينات ـ الغذاء ـ الطازجة من “صنعاء” إلي مواقع القوات، وإذا وصلت فمعظمها يصل تالفاً، فضلا عن صعوبة وصول الصحف والمجلات وخطابات البريد، بالإضافة إلى مشكلات الإجازات ونقل الجنود من وإلي مطار “صنعاء”، لقضاء الإجازة في مصر، كانت مشكلة معقدة وليس لها حل.لأن الطقس في اليمن كان متقلبا بشدة، حيث البرد شديد ليلا ودوامات الأتربة الصاعدة إلي أعلي والحاملة لكل أتربة اليمن، وشدة الحرارة في الوديان، والبرودة القاسية في الجبال، وكان هذا يتطلب وفرة في البطاطين والملابس الصوفية ليلاً، وملابس أخرى خفيفة نهاراً.
هكذا كتب أحد معارضى ناصر في قرار التدخل في اليمن،لكن على الجانب الآخر رد منتقدو هذا الربط بين اليمن وهزيمة يونيو ويتساء أحدهم وهو الكاتب عمرو صابح: لماذا يوجد هذا الربط الدائم بين وجود جزء من الجيش المصرى فى اليمن فى الفترة من 1962-1967 وبين كارثة 5 يونيو 1967؟
ويجيب مفندا السبب الرئيسى في كارثة يونيو:
هنا لابد من مراجعة الدور السعودى فى حرب اليمن وفى التحريض على حرب 1967 وهذا الدور يأتي فى إطار الرؤية الغربية العامة بأن عبد الناصر تعدى كل الخطوط الحمراء بمساندته لثورة اليمن ماديا وعسكريا، وأصبح من اللازم تحطيم نظامه والإطاحة به بعدما تجرأ على إرسال جيشه إلى منابع كنز الحضارة الغربية ومحركها الرئيسى (البترول)، ومناداته الدائمة (أن بترول العرب للعرب، ويجب أن يتم استخدامه كسلاح لتحقيق المصالح العربية)، هذا بالإضافة لأسباب أخرى مثل عدائه لإسرائيل ورفضه الصلح معها، ومحاربته لقوى الاستعمار القديم والجديد، وبنائه لنموذج تنموى اقتصادى واجتماعى خارج منظومة الاحتكارات الرأسمالية الغربية، وسعيه للتصنيع، وإنتاج الأسلحة والصواريخ، ومشروع مصر النووى، كل تلك الأسباب مجتمعة مع تأييده لحرب اليمن شكلت السبب الرئيسى لضربة يونيو 1967.
ورغم النزاعات الدموية التاريخية و الخلافات الحدودية بين أسرة حميد الدين فى اليمن و الأسرة الحاكمة السعودية كانت السعودية الخائفة من انتقال الثورة إليها هي التى بدأت التدخل فى ثورة اليمن بالتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا، فقد وقفت السعودية بضراوة ضد الثورة اليمنية وعملت على إجهاضها وتبنت الأمير البدر باعتباره إمام اليمن كما قامت بتمويل القبائل اليمنية بالكميات اللازمة من السلاح والذهب وبالفعل يسقط العقيد على عبد المغنى أحد أهم قادة الثورة اليمنية وهو يدافع عن مدينة صعدة اليمنية ضد هجوم قبلى سعودى يمنى، وتتحالف السعودية مع بريطانيا التى كانت تحتل جنوب اليمن ويقابل الأمير فيصل بن عبد العزيز(ولى العهد والحاكم الفعلى للسعودية) السير دوجلاس رايت رئيس جهاز المخابرات البريطانى الذى يقول للأمير (إن نجاح الكولونيل ناصر فى الحصول على موطئ قدم لمشروعاته الانقلابية فى الجزيرة العربية، وهى أهم مصادر البترول واحتياطاته فى العالم، هو نذير شؤم يجب أن تتعاون الأطراف كلها، ممن لهم مصلحة فى ذلك على مقاومته ودحضه).
وبالفعل يبدأ تعاون سعودى أردنى رغم الحساسيات السعودية الهاشمية بالاشتراك مع بريطانيا التى أقلقها ما اعتبرته مشروعات ناصر المستمرة لطردها من آخر معاقلها شرق السويس، وتكاد الثورة تجهض لولا طلبها المساعدة من القاهرة، فيطلب الثوار اليمنيون من الرئيس عبد الناصر حماية جمهوريتهم الوليدة حتى لا يسقط اليمن مرة أخرى تحت الحكم الإمامى المتخلف، وبالفعل يدعم الرئيس عبد الناصر الثورة اليمنية عسكريا بقوات مسلحة مصرية فى عملية كبرى كان اسمها الكودى (العملية 9000).
ولكن يبقى السؤال :ألم يرفض كمال الدين حسين، عضو مجلس قياده الثورة، قرار التدخل فى اليمن والذى اعتبر قراراً كهذا يشتت الجيش عن مهمته الأساسية، في حربه مع عدو إسرائيلي متأهب علي الدوام، مذكّراً بكم الخسائر التي تحملتها ميزانيه الدولة، من جراء مغامرة الوحدة مع سوريا، التى انتهت بالانفصال المرير، وكيف رد عبدالناصر على هذا الرفض بالسخرية من رفيقه وإحالته إلى التقاعد؟ ألم يرفض هيكل كما كتب وصرح التدخل العسكرى في اليمن ونصح صديقه عبدالناصر بعدم التدخل العسكرى المباشر؟ وأخيرا ألم تكن حرب اليمن فعلا هي السبب في حرب يونيو والهزيمة العسكرية المهينة في تاريخ الجيش المصرى المنهك بالتدخل في اليمن والموجوع بممارسات قياداته وقتها ومغامراتهم وغيابهم عن المشهد الحرج للمنطقة كلها؟ ألم يكن هذا التدخل هو السبب الرئيسى لما جرى ؟
أعتقد أن الإجابة على تلك التساؤلات موجودة بوضوح فى كتاب المفاوضات السرية بين العرب و إسرائيل – الجزء الثانى – للأستاذ محمد حسنين هيكل، حيث نجد الوثيقة التالية:
سجل السفير الأمريكي فى جدة (باركر هارت) فى برقية إلى وزارة الخارجية الأمريكية (وثيقة رقم 36651/43 بتاريخ 19 أغسطس 1964) محضر مقابلة جرت بينه وبين الملك (فيصل بن عبد العزيز)
يقول السفير الأمريكى:
اتصل بى البروتوكول صباح أمس لإبلاغى أننى مطلوب فى الطائف فى الساعة 4:15 ولم يعطنى البروتوكول أى إيضاحات فيما عدا أن هناك طائرة سوف تحملنى إلى الطائف بعد الظهر. استقبلنى الملك فيصل فى قصر الشبرة فى الساعة التاسعة مساء فى حضور السقاف وفرعون، وقال الملك إن هناك شيئا حدث وهو يريد إخطارى به بنفسه كصديق شخصى لى و كممثل لبلد صديق له و لأسرته، ثم قال الملك إنه خلال يومين سابقين (يومى 13 و 14 أغسطس) قامت ثلاث طائرات مصرية باختراق المجال الجوى السعودى جنوب شرق جيزان فوق مناطق قبائل الحارث و أبو عريش، وإن هذه الطائرات قامت بعدة دورات على ارتفاعات منخفضة فى محاولة ظاهرة للاستفزاز، كما أن لديه معلومات من داخل اليمن تؤكد أن هناك قوات مصرية تتحرك صوب الحدود السعودية، وقد حاولت أن أسأل الملك بإلحاح عن تفاصيل أكثر بشأن هذه المعلومات، ولم يكن لديه شئ لا عن حجم هذه القوات و لا عن تسليحها و لا عن مواقعها، و قد قال الملك إن هذه التطورات تثير فى ذاكرته ما سبق أن سمعه عن مؤامرة بين مصر و العراق و الأردن (!) لغزو وتقسيم بلاده على النحو التالى: حسين يأخذ الحجاز، والعراق تأخذ المقاطعة الشرقية، واليمن تأخذ الجنوب، و باقى المملكة يدخل تحت سيطرة ناصر.
قال لى الملك أيضا إن ناصر أوحى إلى صديقه الصحفى هيكل بأن ينشر خطة عن منظمة عربية للبترول، ثم أضاف إن السعودية محاصرة، وقد لا تكون السعودية دولة كبيرة أو قوية، ولكنها دولة تريد أن تحتفظ بأراضيها و شرفها، و إذا كان ناصر كما هو واضح يريد أن يضع يده على المملكة متصورا أن (فيصل) سوف يقف ساكتا فى انتظار أن يخنق، فهو مخطئ فى ذلك، وأشار الملك إلى أنه سوف يقاوم عسكريا، و هو قد اتخذ عدة قرارات يريد أن يبلغنى بها.
ماذا كانت تلك القرارات الخطيرة.. ذلك مأسوف نستعرضه غدا ان شاء الله.
(.فقرات من كتابى: أصحاب القرار بين الجنة والنار).
Discussion about this post