بقلم دكتور ….
عاطف معتمد
رغم شهرتها في القرون الأخيرة باسم “الطور” أو “سيناء” إلا أن جغرافية قدماء المصريين كانت تعطيها مسمى ” بـيا ” والتي تعني في اللغة المصرية القديمة “أرض التعدين” أو “أرض المعدن”.
على هذا النحو كانت الأهمية التعدينية لسيناء منذ آلاف السنين توازي الأهمية الاستراتيجية وتعادلها. وكان النحاس هو هدف التعدين الأول.
يعرف الأثريون في غرب سيناء موقعا لمناجم النحاس في وادي “النصب” قرب معبد حتحور عند سرابيط الخادم.
إذا نظرت للخريطة المرفقة ستجد نظيرا لسرابيط الخادم في صحراء النقب في فلسطين يضم مناجم قديمة للنحاس في “المنيعة” وهو الاسم الذي تسميه إسرائيل “تمنة”.
“تمنة” مسمى توراتي استخدمته إسرائيل لتعطي المكان ربطا بقصص اليهود في أسفار العهد القديم.
الاسم الإسرائيلي للمكان مستمد من سفر “القضاة”. في الأصحاح 14 من هذا السفر تظهر “تمنة” أرضا يسكنها “شمشون” البطل الخارق في القصص الشعبي اليهودي.
ونظرا لطبيعتها الجيولوجية الفريدة والمدهشة جعلت إسرائيل جنوب النقب قرب طابا وخليج العقبة متنزها طبيعيا وجيولوجيا وأركيولوجيًا يجتذب سائحين من كل حدب وصوب في نفس المنطقة العربية التي تسمى “المنيعة”.
ورغم أن سياسة تهويد الأسماء العربية في فلسطين لا تقف على أسس موثوقة إلا من قصص التوراة والعهد القديم بشكل عام إلا أنه في حالتنا هذه قد نجد جذرا لغويا بين المنيعة و”تمنة timna” وذلك إذا نطقنا الأخيرة “تمناع” وكل منهما يعطي المعنى العربي لصفة المنعة والمناعة والامتناع عن السقوط أو الهزيمة.
لا توجد أية دلة أثرية لأسفار العهد القديم، بينما توجد نقوش أثرية لدولة قدماء المصريين في جنوب فلسطين، التي جاءت هنا لأسباب جيوسياسية وتعدينية لاستخراج النحاس.
عملت إسرائيل على الترويج لجغرافية حصرية في فلسطين وفقا لسرديات بعض أسفار العهد القديم وأخفت في المقابل آثار للشعوب العربية أو التاريخ المصري الأقدم.
في موقع المنيعة (تمنة) أطلقت إسرائيل على جزء مهم من هضبة الصخور الرملية عند مناجم النحاس اسم “أعمدة سليمان” في إشارة إلى اسم الملك سليمان الذي يؤمن به أصحاب الديانات السماوية نبيا كريما وله مكانة كبيرة في التاريخ العبراني.
لا يوجد أي دليل أثري أو نقش أو أثر للملك سليمان في المنطقة سوى هذا الاسم الذي فرضته إسرائيل على الجبل المؤلف من صخور رملية يعود عمرها لنحو 500مليون سنة.
لكن في السنوات الأخيرة أفرجت إسرائيل عن صور وخرائط ومعلومات عن آثار مصرية في المنيعة تضم معبدا لحتحور (تماما كما في سرابيط الخادم) ونقوشا لعملية التعدين بالتفصيل ونقوش تمجيد لملوك مصر القديمة، كما أقامت إسرائيل متحفا لأدوات التعدين التي استخدمها قدماء المصريين في الموقع لاستخراج النحاس.
بدهي أن “أعمدة سليمان” المقطوعة في صخور الحجر الرملي كونتها الطبيعة ولا دخل لنبي الله سليمان فيها. فهذه الأعمدة هي في الأصل فواصل وتصدعات في الجبل استغلتها لاحقا عوامل التعرية من مياه جارية ورياح فبدت كالخوانق المحاطة بأعمدة تفتح على بوابات معبد كبير.
الآثار المسجلة في جنوب فلسطين حيث دولة إٍسرائيل الآن بها سجلات أثرية لقدماء المصريين ومناجم لاستخراج هذا المعدن المهم ضمن حدود دولتهم القديمة التي وصلت في فترات عديدة إلى مشارف آسيا الصغرى (تركيا الحديثة) فضمت مصر حينها بلاد الشام وأجزاء من بلاد العراق.
لماذا أطلقت إسرائيل على هذه الأعمدة في جنوب النقب الفلسطينية ومشارف سيناء مسمى “أعمدة سليمان”؟.
تبحث إسرائيل عن أي زعم ديني لإيجاد نسب أو صلة بجغرافية فلسطين وسيناء.
ذهبت إسرائيل الحديثة إلى سفر “إرميا” ووجدت فيه وصفا تحليليا لمعبد سليمان أو “بيت الله” في أورشليم (القدس).
من أكبر المصائب التي حلت ببني إسرائيل عقابا لهم على عبادة آلهة أخرى غير الله – وفقا لسفر إرميا – وقوعهم أسرى لجيوش بابل التي أتت من جنوب العراق لتدمر مملكتهم في أورشليم وذلك قبل 2600 سنة مضت.
في الأصحاح الأول من سفر “إرميا” يخاطب الرب هذا النبي مشجعا إياه ومساندا لعزيمته قائلا “ها أنذا قد جعلتك اليوم مدينة محصنة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض…”
لن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي سيرد فيها ذكر النحاس في سفر إرميا دلالة على أهمية هذا المعدن في الحماية والحصانة.
ففي منتصف السفر ذكر تفصيلي لأعمدة النحاس التي تقف على مدخل معبد سليمان في القدس والتي ستكون مطمعا ونهبا لغزو العراقيين الذين يحملون في تلك الفترة مسمى “الكلدانيين” أو ما يصطلح على تسميته بدولة بابل الثانية.
وفقا لسفر إرميا قام ملوك بابل بقتل زعماء اليهود وأسر الشعب اليهودي وسبيه، كما قاموا بنهب الأعمدة النحاسية التي كانت على باب المعبد الكبير.
في الخريطة في أول تعليق وضعت أهم الأماكن التي جاء ذكرها في تلك الفترة خاصة المعارك التي خاضها المصريون ضد بابل وما تضمنه ذلك من الصدام مع اليهود في “مجدو”.
كان انتصار المصريين على اليهود في “مجدو” (609 قبل الميلاد) خطوة ضرورية لمواصلة استعادة السيطرة على بلاد الشام وملاقاة الكلدانيين في المعركة الفاصلة في “كركميش” (605 قبل الميلاد) والتي خسرها المصريون وانسحبوا على إثرها من كل الإقليم لصالح القوة البابلية الصاعدة التي سيطرت على فلسطين وبلاد الشام .
واليوم وبعد 2600 سنة من هذه الأحداث التي بها بعض من التاريخ المدعم بمصادر وحفائر ونقوش، وبعض من السرديات الدينية التي يصعب إيجاد أي سند أو توثيق لها سوى البلاغة الأدبية، أقامت إسرائيل من منطقة المنيعة في جنوب النقب متحفا طبيعيا ومتنزها بريا وموقعا جيولوجيا خاضعا للحماية.
اختارت إسرائيل الأعمدة الطبيعية في الحجر الرملي فأطلقت عليها “أعمدة سليمان” (انظر الصورة في التعليق الثاني على هذا البوست) وأصبح هذا الاسم أحد أشهر الأسماء على وسائل البحث على الإنترنت للعثور على خليط من الجيولجيا والآثار والتاريخ والترويج السياحي في إسرائيل.
كانت المفاجأة أن وجد الإسرائيليون في هذا المكان في جنوب فلسطين عديدا من الآثار المصرية والنقوش وبقايا تعدين النحاس ومعبدا لحتحور .
أقرب مكان لأعمدة سليمان من الأراضي المصرية تجده عند طابا الواقعة على رأس خليج العقبة.
إذا زرت طابا فبوسعك هناك إذا كان الجو صافيا أن ترى بعينيك المجردتين ميناء العقبة في الأردن على الضفة الأخرى من الخليج، كما بالطبع يمكنك رؤية ميناء الـ “مرشرش” أو “أم الرشراش”.
تأمل إسرائيل في تغيير اسم خليج العقبة ليصبح “خليج إيلات” وذلك في الأبحاث التي ينشرها جغرافيون إسرائيليون في كبريات الدوريات العالمية.
يحلو لكثير من الجغرافيين المصريين اعتبار بلادهم ذات موقع عبقري، ويسير في ذلك الخَـلـَف على درب السَلَف. والحقيقة أنه لو كانت هناك مدرسة جغرافية فلسطينية قوية ولم يتشتت علماؤها طيلة القرن العشرين لقرأنا عندهم أن فلسلطين عبقرية الموقع أيضا وأنها حلقة الوصل بين الشرق والغرب وأن صحراء “النقب” هي الجسر الوحيد الذي يصل آسيا بإفريقيا ويلحم المشرق العربي بمغربه.
ليس ثمة تنافس بين مصر وفلسطين، وما يجب أن يكون، فالفوز بلقب “عبقرية الموقع” لا يتعارض بين الموقعين، لأن كلا من “سيناء/ نقب فلسطين” أرض واحدة، ومن يتحكم فيهما أمسك بقلب العالم العربي والشرقين الأدنى والأوسط، وقبض – دون مبالغة – على عنق الإقليم الذي نعيش فيه.
يقول الجغرافي الإنجليزي ماكيندر “في عام 1904 إن من يتحكم في شرق أوروبا (انظر الحرب في أوكرانيا اليوم) فقد تحكم في قلب الأرض، ومن يسيطر على قلب الأرض يسيطر على العالم،
وقبل ماكيندر بآلاف السنين قال قدماء المصريين:
من يتحكم في سيناء والنقب فقد تحكم في قلب الأرض، ومن يسيطر على قلب الأرض يسيطر على العالم.
Discussion about this post