بقلم الأديبة والشاعرة
مجيدة الفلاحى … المغرب
ورقات من سيرة امرأة سلالية
ـــ عاملات المزارع ـــ
” كيَّاكلو عْرَقْنا ويْسَرْقوا رزقنا”
(1)
مع بزوغ الخيوط الأولى من شمس كل يوم جديد، تغادر “شعيبية” بيتها، بعدما تكون قد اعتنت بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، من طبخ وكنس وغسل ملابس. تأخد زجاجة بلاستيكية معبأة بالشاي، وكسرة خبز محشو بما تيسر من فلفل أخضر مقلي أو بيض مسلوق، تأخد فوطة، تلف بها وسطها، تلف منديلا طويلا على رأسها، ومنديلا آخر تلثم به وجهها، لتحميه من أشعة الشمس الحارقة، ومن صقعة البرد القارس، ومن نظرات الفضوليين وعيون الذئاب الآدمية، تنتعل صندلا بلاستيكيا، ثم تخرج على أطراف أصابعها، تجر وراءها باب بيتها القصديري، وتقفله بالضبة، متجنبة أن تحدث أدنى صرير، تاركة أطفالها يغطون في نوم عميق، لتركب عربات نقل ” بيكوب” تتكدس فيها مع عشرات من النساء من مختلف الأعمار، ملثمات الوجوه مثلها، رسم الفقر والقهر بعض آياته على جبينهن وعلى أكفهن التي تشتهي الحناء فلا تجد غير الشقاء. كلهن صباح كل يوم، يقمن بالأعمال المنزلية نفسها قبل أن تحملهن ” البيكوبات أو الجرارات” صوب الضيعات والمزارع المجاورة، للاشتغال في زراعة الخضر والفواكه أو جنيها، مقابل ثمن بخس وأجر زهيد، دراهم معدودات لا تسمن ولا تغني، ولا تدفع عنهن عضة الجوع والمرض.
إنهن العاملات الزراعيات، أو العاملات في المزارع والحقول والضيعات، أو العاملات الفلاحيات. إنهن الفلاحات اللواتي بلا أرض إلا أرض الأجداد، هي الإرث المشترك مع القبيلة، هي إرث الجماعة والسلالة التي يصر الذكور على حرمانهن منها. وتركهن فريسة لأصحاب المال، يجعلون من جهد عضلاتهن سمادا للأرض، ومن عرقهن ماء يسقون به حقولهم.
شعيبية واحدة من عاملات المزارع والضيعات في منطقة الغرب، حالها حال باقي نساء المنطقة الفقيرات، الفاقة والعوز أرغمهن على الخروج إلى العمل، من أجل كسب لقمة عيش حلال، بعرق جبينهن، لمساعدة الزوج في إعالة أسرهن، ودرء غائلة الجوع والحاجة عن أطفالهن الصغار، أو للقيام بما لم يستطع أن يقوم به من أدوار.
في الماضي القريب، كان من العيب والعار أن تشتغل المرأة في الضيعات أجيرة لدى الآخرين. وأقصى ما كانت تتكسب به، هو أن تخدم في بيوت بعض الميسورين، وتعود إلى بيتها بما جادت به عليها سيدة الدار. عدا ذلك فقد كانت المرأة حرمة، إن لم تعمل في حقول أهلها فلن تؤجر ساعدها لأحد.
بحنين جارف تتذكر شعيبية ذاك الزمن فتقول:
” لمرا كانت وباقا تخدم داخل وبرا الخيمة، من يعوك الفروج حتى لعشا يقول الله أكبر، لمرا تخدم في أرض بوها كما خوتها الرجال، بنات لخوايج لي مسك عليهم الله، هما لي ماكانوش يخدمو برا. كان دي فاندي لمرا تخدم بلخلصة عند لخراين.”
ثم تردف قائلة:
” هاذ الشي من كانو الوالدين حكام، وكان الخو يمضغك ما يسرطك، وكان كانون واحد جامعنا، عرف لقبيلة ماشي كلو كان خايب ومفلس غير بنادم الله يهديه”
(2)
ستسلك الطريق السيار صعودا نحو الغرب، حيث تقطن شعيبية وأخواتها، فتتراءى لك على مد البصر، أراضي خضراء شاسعة، ممتدة أطرافها على مئات الهكتارات من السهول الخصبة، تؤثتها غابات وضيعات وبيوت بلاستيكية، منتشرة على جانبي الطريق، توحي لك حتمًا بأن سكانها يعيشون في بحبوحة ورفاهية ويسر وسعة.
تسابق الزمن ك ” البراق ” عبثا، تود الوصول إلى هناك في أسرع وقت.
يثيرك ما أبصرت، ويهز وجدانك، إنها جنة الأرض، تمسك على قلبك الذي يكاد يفر من بين ضلوعك، منتشيا بهذا التغيير والتحول الذي دب في أوصال المنطقة التي كانت مجرد مروج وغابات للرعي، و لاتملك أمام ما ترى إلا أن تبارك، وتشكر الله على عنايته ونعمه التي أسبغها على أهل المنطقة.
تنعرج يمينا لاستكمال الطريق إلى حيث تقطن شعيبية، تعبر تضاريس قبائل الغرب، وتغوص فيها من الداخل وعن قرب، تصاحبك تلك الطبيعة المشرعة على أقصى مداها، بما تحتويه من مظاهر الجمال، غابات وأراض خضراء ممتدة إلى ما لا نهاية. وكلما تقدمت بعمق الغرب، وتوغلت فيه، إلا وازدادت دهشتك، وانعقد لسانك، و غص حلقك بحرقة السؤال. لقد رأيت ويا ليتك لم تر، واكتفيت وتمنيت لو عدت أدراجك وأكملت الطريق السيار مبتعدا عن مشاهد تحز في النفس والقلب.
خير كثير، وبؤس شديد !!
الوصول إلى الغرب ” العميق” وليس غرب “الواجهة”، يتطلب مشقة كبيرة وعناء لا يوصف، طرق مهترئة و متآكلة، غياب شبه تام للبنية التحتية، والمرافق الضرورية، وكأن قراه خاوية على عروشها، لا يسكنها بشر ولا يفرخ فيها طير! تعيش على وقع التهميش والمعاناة، كما تعيش على وقع الاستثمارات والمشاريع الكبرى، أينما وليت وجهك هناك بيوت بلاستيكية وضيعات ووحدات للإنتاج الصناعي ، وغابات تقتلع من جذورها لتصبح ضيعات ومزارع، دون أن يكون لهذه الطفرة التي شهدتها المنطقة، أثر ملموس على قراها المنسية وساكنتها المقهورة . وإن كان للقهر وجوه متعددة وسبل كثيرة ومتنوعة
فُتحت الأبواب أمام الكبار على مصراعيها، ليغتنوا ويتوحشوا على حساب أهالي المنطقة وخيراتها. الزراعات الجديدة المتطورة والعصرية لم تعد تنتظر كرم السماء وسخاءها، في حين يستمر صغار الفلاحين، البسطاء، في استجداء خبزهم اليومي بالدمع والعرق واستجداء السماء لتمطر وانتظار الأرض لتزهر ؟
استثمارات كبيرة كانت في حاجة إلى يد عاملة ضخمة ومتنوعة لتزرع وتجني، وتدور العجلة فوق بسطائها ومعدميها.
تتذكر شعيبية ذلك التغيير الذي طرأ على قرى المنطقة وأهاليها فتقول مرة أخرى:
” في لول احنا لمساكن عيالات ورجال فرحنا بالخدمة وبفلوسها، باش نتعاونو على زمان. من بعد بان لينا تمارة كثيرة، وفلوسها قليلة. تنخدمو من لفجر حتى لعشية، حاشاك بحال بغل الطاحونة، غير بسعد لبراني، ــ لي جا ياكل عرقنا ويدي رزقنا ــ . بزاف منا ماعندهم لا أوراق، ولا حقوق، تايخدمو أكثرية لعيالات وحتى الطفلات. لي خدمناه تاناكلوه تا حاجة ما تزادت علينا غير القهرة و تقواس ظهر”
زادت مظاهر الفقر والاستغلال والإهمال وسوء الرعاية في منطقة فلاحية من أهم مناطق الوطن إنتاجا وتصديرا.
المرافق الضرورية من مراكز صحية ومدارس إن وجدت، وعلى قلتها، غير كافية، ولا تلبي حاجيات الساكنة. كما أن هناك مرافق أخرى مغلقة، بنايتها متآكلة، يعلو أبوابها ونوافذها الصدأ والغبار.
بمرارة تقول شعيبية :
” لمرا إلى بغات تولد، خاصها تضرب لكيلومترات، ولادنا حتى هما باش يقراو خاصهم يمشيو على رجليهم كيلومترات، كاع لبنات حبسناهم من لقراية، على حقاش الدنيا تخلطات، ولينا باغيين غير نزوجوهم باش نتهناو”
اعتادت شعيبية وهي طفلة أن تحلم، وأن تنسج بأحلامها خيوطا للأمل. كانت أحلامها خاصة جدا. تمنحها سعادة لا توصف ونشوة قصوى، تحملها بعيدًا عن واقع يكاد أن يخنقها، لم يخطر ببالها يوما وهي تنسج آمالها وأحلامها، أنها ستتزوج من رجل فقير، بل شبه معدم “ولد باب الله ” كما تقول عنه. كما لم تتخيل يوما أن يزج بها في ” البيكوب” وتحمل كالعبيد إلى المزارع و الضيعات، لم تتخيل حقا أن يكون مصيرها وعيشها قطعة من الألم والعذاب، هذا المصير الذي لا يختلف عن مصير مثيلاتها من النساء المقهورات في منطقتها، اللواتي يعاملن وفق مخلفات عصور العبودية والإقطاع . قهر تتقاسمه المرأة والرجل ولكن المرأة تتجرع مرارته مضاعفة، تعب في الداخل والخارج، وألم في الجسد والروح، وعقوق من الذكور ومن المجتمع.
غير الحيف والجور من صوت شعيبية، ومن شكلها، تمشي وهي مثقلة بمآسي الماضي والحاضر، تجتر الأيام ذاتها وتكرر الأحلام نفسها. وكل يوم، مع بزوغ الخيوط الأولى لشمس نهارجديد، تغادر بيتها، بعدما تكون قد اعتنت بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، من طبخ وكنس وغسل ملابس. تأخد زجاجة بلاستيكية معبأة بالشاي، وكسرة خبز محشو بما تيسر من فلفل أخضر مقلي أو بيض مسلوق، تأخد فوطة، تلف بها وسطها، تلف منديلا طويلا على رأسها، ومنديلا آخر تلثم به وجهها لتحميه من أشعة الشمس الحارقة، ومن صقعة البرد القارس، ومن نظرات الفضوليين وعيون الذئاب الآدمية، تنتعل صندلا بلاستيكيا، ثم تخرج على أطراف أصابعها، تجر وراءها باب بيتها القصديري، وتقفله بالضبة متجنبة أن تحدث أدنى صرير.
هكذا تريد القبيلة للشعيبية ومثيلاتها، أن يعملن ولا يحدثن أدنى صرير. فالمرأة في عرف القبيلة، هي التي لا تزعج الذكور بكثرة الأسئلة.
Discussion about this post