بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
بل لعلها كانت تعشق قبلها دائما ـ في زمن كانت الأذن هي سيدة الإحساس الأولى ووسيلة استقبال الترفيه الوحيدة قبل أن تمتلك الصورة مجال الفرجة وتعطيل حاسة الخيال كثيرا ـ زمننا الأول صبيانا وشبانا يافعين كانت موجات الإذاعة تمتلك حواسنا وتسيطر عليها، كانت الأعمال الإذاعية حتى أوائل السبعينيات هي وسيلة متابعتنا للأعمال الفنية والبرامج الشهيرة التي ارتبطنا بها سنوات طويلة؛فلم يكن التليفزيون حتى بداية السبعينيات وسيلة ميسورة لدى غالبية الشعب خاصة في الريف وقد كان التيار الكهربائى نوعا من الرفاهية المقصورة على المدينة غير المتاحة في القرى. وكانت أجهزة التليفزيون مثلا في القرية معدودة ويتم تشغيلها بالمولدات الكهربية ،فباستثناء بيوت قليلة جدا بالقرية لم يكن هناك أجهزة تليفزيون سوى بالمقهى وفى الوحدة المجمعة حتى دخل التيار الكهربى منتصف السبعينيات وبدأت دور القرية تستقبل أجهزة تليفزيون ببطء ملحوظ، وكذلك الأمر بالمدينة رغم انتشار التيار الكهربى هناك بمعظم الأحياء غالبا، فقد عاصرت حيا مثل منشية الصدر الذى سكنّاه بعد نزوحنا إلى القاهرة عام 1965 ، وكنا نستعمل لمبة الجاز أو الكيروسين حيث لم يكن هناك تيار كهربى بالبيوت، وكان هناك ببعض الميادين أجهزة تليفزيون وفرتها الحكومة للترفيه عن المواطنين وأتذكر من تلك الأماكن التي كنا نتردد عليها حديقة القبة الفداوية بالعباسية،وحديقة عرب المحمدى فقد كان هناك جهاز تليفزيون يتم تشغيله لبعض الوقت لرواد الحديقة من المواطنين ،خاصة بعد فترة نكسة 5يونيو 1967 وكانت الحاجة شديدة لانتشال الناس من كآبة جو الهزيمة المرة،فكان نشر أجهزة التليفزيون بالميادين يلعب هذا الدور.
في ذلك الزمن وحتى انتشار التليفزيون بعدها بكثرة كان الراديو مسيطرا على آذان المواطنين ويلعب مع الصحافة الورقية دور البطولة في إعلام المواطنين وتوعيتهم وترفيههم ببرامجه ومسلسلاته التي كنا نحفظ مواعيدها كما كنا نحفظ مواعيد بقية برامجها وتلاوات القرآن اليومية بأسماء قراء كل يوم وليلة ومواعيد نشرات الأخبار، وتنوعت أيامها اهتمامات المستمعين بكل موجة إذاعية حسب نوعية استماع الناس، فالبرنامج العام للنشرات والمسلسلات مابعد الخامسة والربع وقرآن السهرة في الثامنة حتى الثامنة والنصف ثم الفترة الإخبارية بعد تلك التلاوة بأصوات ارتبطت بها أسماعنا وآذاننا وصاروا بعد ذلك كبار الأسماء في الإذاعة والتليفزيون .أما صوت العرب فللبرامج القومية التي تهم المواطن العربى عبر الوطن العربى كله،وما أدراك ما صوت العرب طوال الستينيات والسبعينيات وما لعبه من أدوار قومية.أما الشرق الأوسط فكانت البنت الدلوعة للإذاعة مدللة في برامجها وأدائها لاتتبع المألوف فتتابع الموضة وصرخات البرامج الشبابية التي كانت أحيانا تستفز تحفظ البعض من الكبار. ويقف خارج تلك المنافسة إذاعتا القرآن الكريم وأم كلثوم بعد إنشائها فالأولى صالحة للاستماع في أي وقت طوال فترة إرسالها ولم يكن هناك موجات تعمل طوال 24ساعة،والثانية لها مستمعها الخاص الذى يعرف تسلسل مطربيها وترتيبهم فيتابع من يهواهم ثم ينقل المؤشر إلى إذاعة أخرى وهكذا.
وقمة المتابعة للموجات الإذاعية المختلفة بالطبع كانت شهر رمضان المبارك بما كانت الإذاعة تعده من برامج منوعات وفوازير ومسلسلات وسهرات وأعمال سنوية امتد تقديمها عشرات السنين ,كان على قمة تلك الأعمال من حيث الاستمرارية والمتابعة الفوازير بصوت آمال فهمى التي كانت مرتبطة لدى المستمعين كل يوم جمعة بعد الصلاة من الواحدة والنصف حتى الثانية والنصف عصرا ببرنامجها الرائد الشهير”على الناصية” ،وانتقلت بزخمها وجماهيريتها الطاغية إلى البرنامج العام مابعد الإفطار بتقديم الفوازير التي تنوعت من عام إلى عام في موضوعاتها وأفكارها ولم تفقد بريقها قليلا إلا مع دخول التليفزيون حلبة الصراع على انتباه المشاهد بفوازيره المصورة وعالمها العجيب،وفى ذات الإطار الخيالى كان أشهر أعمال الإذاعة رمضانيا مسلسل “ألف ليلة وليلة” بالصوت العميق المخيف أحيانا للراحلة زوزو نبيل وهى تلعب دور شهرزاد وتبدأ الحلقة بجملتها الذائعة”بلغنى أيها الملك السعيد ذو الراى الرشيد ….”،حتى تتثاءب ويصاحب تثاؤبها صياح الديك وهى تقول “مولاى” ، ولتنتهى كل حلقة بالجملة الأخرى الشهيرة للراحل عبدالرحيم الزرقانى :”وأدرك شهريار الصباح فسكتت عن الكلام المباح”..وكما حدث في الفوازير واستيلاء التليفزيون على مستمعيها ليصيروا مشاهدين لها على شاشته حدث أيضا مع ألف ليلة وليلة التي انتقلت بأجوائها الأسطورية الخيالية المجسدة تصويرا وأداء وإمكانيات مبهرة وقتها للعين عبر حلقات تليفزيونية لعدة سنوات،وتحتدم المنافسة وتشتد حيرة المتابع بين أذنيه وهو يستمع إلى الإذاعة وعينيه وهو ينتقل إلى الشاشة الصغيرة.لكن ماجمع أذنيه وعينيه مابين فوازير الإذاعة ونظيرتها التليفزيونية،وكذا ألف ليلة الإذاعية ومنافستها التليفزيونية أن مؤلف كل منها لسنوات طويلة كان شاعرا واحدا هو الشاعر الراحل طاهر أبو فاشا رحمه الله ، وهو مايستحق استكمالا للحكاية مع ذلك الشاعر الذى كان من ظرفاء عصره وأكثرهم عطاء متنوعا بين الشعر والكتابة واستلهام التراث ومعاصرة الأحداث فإلى الغد إن شاء الله.
Discussion about this post