بقلم … ميَّادة مهنَّا سليمان
قراءتي النّقديّة لرواية (مَنَّا) قيامة شتات الصّحراءِ
في موقع الشّرق الأوسط نيوز الأردنيّ:
منذ أسبوع أنهيت رواية (مَنَّا) /قيامة شتات الصّحراء، للكاتب الجزائريّ الصِّدِّيق حاج أحمد الزّيوانيّ، ومن الجيّد أنّي أنهيتها قبل حلول شهر رمضان المبارك، فالعطش كامنٌ بين صفحاتها، يلاحق فكر القارئ ويحاصره، ولا مناص من الشّعور بالحرّ في تلك الرّحلة الصّحراويّة المريرة الّتي زخرت بها الرّوايات العالميّة والعربيّة، ومنها (منَّا)، رحلة الأزواديّين في هربهم من الجفاف الذي قتل الكثيرين منهم، وأستذكر ما قاله الكاتب عبد الرّحيم العلّام:
“شكّلت “الصّحراء” فضاءً إبداعيًّا مركزيًّا في الإبداعات العالميّة، ولم تكن الرّواية العربيّة بمنأى عن توظيف “الصّحراء” فيها واستيحائها تخييليًّا، لما يشكّله هذا الفضاء من أهميّة، وقيمة، وخصوصيّة، ورمزيّة، وإيحاءات موازية، فقد ساهمت الرّواية العربيّة بنصيب وافر في إثراء ما أصبح يسمى بـ”رواية الصّحراء”، باعتباره مغايرًا روائيًّا فرض نفسه، هو أيضًا، ضمن بقيّة المغايرات الرّوائيّة الأخرى السّائدة.”
وعليه نرى جليًّا في رواية (مَنَّا) الحقل الدّلاليّ لتلك البيئة القاسية عبر كلمات:
رمل، ضمور، جفاف، يباس، صحراء، قحط، يباب…بوادي، الجدب، ظمأ.
يعزّز ذلك وصف الكاتب وتصوير الحياة في تلك الأيّام الأليمة بدقّة:
(جفاف آنية الحليب)
(تكلُّس جلود شِكاء اللبن)
(ضمور ضرع البقرة)
(العرّافون تكهّنوا بالقحط فنادوا:
يوقي يوقي ياقروني!!
بلاغة تهكّميّة تدلّ على الحسرة)
ويضيف الكاتب:
“كلّ القرائن المدبوغة بمخيلة إنسان الصّحراء باتت تشي بمجيء عام (يالطيف)!
الأمطار احتشمت على غير العادة، المراعي قحطت، المواشي ضاعت، تاه الإنسان.”
وكيف لا يتوه الإنسان، والماء هو سرّ الحياة، ونبع العيش المطمئنّ الآمن، يقول الله تعالى:
“وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ”
﴿٣٠﴾ الأنبياء
وقد لفت نظري في الرّواية أنّها تزخر بأسماء أشخاص غير مألوفة بالنّسبة لنا كسوريّين:
(بتّو، هكتا، لولة، بادي، الشّمنمناسي، أخمادو
غلواتة….)
وكذلك أسماء الأماكن بدت غريبة لي، لكن كنت سعيدة بالتّعرّف عليها مثل:
(مركوبة، وادي تيلمسي، جبال أدغاغ إفوغاس، جهة صحراء منَكا، قبيلة إموشاغ قبيلة أولَمْدن، أودية تقمارت، أنمكن، أشربا، وادي مرَت، وادي تاغليت).
وفي رحلة الموت تلك، يقول بادي:
“عرفتُ بعد سنين طويلة من محرقة الصّحراء، أنّ هذه الإبل لم تكن متاعَنا في هجرة الشّتات فحسب، إنّما وطننا المتأرجح على سنامها.”
وحين يأتي الخبر بأنّ الجزائر فتحت مراكز إغاثة ببرج (باجي مختار) لمن سيأتون من صحراء تيلمسي، وتيمياوين، وتين زواتين، وعين قزّام، يقول بادي بأسى:
“ليس أشدّ على المرء من مغادرة مضارب طفولته قهرًا”
والحديث عن قلّة الماء يصاحبه أحاديث عن الجوع والحرمان، فالماء عصب الحياة، وشريان استمراريّة وجودها، نقرأ هذا الوصف للكاتب بعد استراحة المسافرين للتّزوّد بالطّعام، وشيء من الرّاحة:
“الجوّ شبه بارد قليلًا في الخارج، مواويل إبليس، ووتريّات أحزانه تبدو أكثر صخبًا بالمجتمع النّسويّ المتاخم لنا، العشاء هذه الليلة جماعيّ، نفدَت مؤن معظم العائلات فتكرّم التّجّار التّواتيّون بحفلة العشاء، تزوّدوا من معارفهم.. ببعض الأرزّ مع لحم القديد، ظهرَ لي.. أنّه ليس كقديد خِماص المواشي الضّائعة، الّذي شبعنا منه، وتَخِمنا قبل قرار مصير الرّحيل التّاريخيّ..”
وبعد ذلك تتجسّد المعاناة في حروفه بوصف طقس شرب الشّاي، هذا الطّقس المحبّب الّذي افتقدوه بسبب قطعهم مسافات طويلة عبر رحلة مُضنية:
“أضيفَ لهذه الجلسة طقس الشّاي المبجّل، لن أصف جوقة الفرحة التي تزوّقَت بها وجوهُ الحضور رغم الأحزان، بعد صيام بعضهم عنه منذ أسابيع، خالي (بتّو) أعرف عنه، وعن أبي عزّة النّفس، لكنّهما -هذه المرّة- عجِزا عن غمّ بهجة نفسيهما..”
وتسير القافلة، وتستمرّ رحلة البحث عن الماء، وتتوالى قصص الموت، الموت الّذي يصفه لنا في بداية الرّحلة قائلًا:
“أوقظتني جلجلةُ أصواتٍ صادحة… علمتُ بعدها موتَ الجدّة…”
تقول إحدى شخصيّات الرّواية:
“مجيء الموت بالتّقسيط أهون من هجومه المباغت”
ويكمل بادي في وصف مهيب لحالات الموت الجماعيّة للبشر والحيوان في تلك المحرقة:
“كُلُّ الّذي أذكره أنّنا صّلينا ليلًا على جماعة مستفيضة من الموتى، فيهم الشّيوخ، والعجائز، والأطفال، لن نتحدّث عن النّوق والحمير الهالكة….”
تزخر الرّواية بأحداث كثيرة، ومنها ما يحيلنا إلى قضايا العروبة، والقوميّة العربيّة من خلال انتقال التّارقي إلى المشرق (معتقل أنصار، أو معسكر عين الصّاحب) في ريف دمشق، حيث نلمح فيه تجمعًا متعدّد الأعراق، ويشير الكاتب إلى ذلك من خلال شخصيّات:
(يحيى الفلسطينيّ
كاظم العراقيّ
الضّابط الليبيّ….)
ويصف لنا المعتقل وصفًا دقيقًا، ثمّ يقول:
“دخل بادي ورفاقه الثّلاثة معه بقيّة العرب عالمهم الجديد، عالم حافل بكشكول الذّهنيّات العربيّة المختلفة ..”
رواية (منّا) قيامة شتات الصّحراء، كلّ كلمة بعد العنوان تحيل إلى رمز؛ ف”القيامة” حياة، وهي الهدف من الرّحلة للنّجاة من العطش، والموت المحتوم.
و”الشّتات” فراق، ومعاناة، وحلم دائم بِلمّ الشّمل، وبلوغ الغاية.
و”الصّحراء” تَيه، وضياع، وطريق الموت الّذي لا بدّ من اجتيازه، للعبور إلى ضفّة الحياة الآمنة المستقرّة، المُعشبة، الوارفة الطّمأنينة، والّتي أساسُها: الماء!
أخيرًا:
بالتّوفيق للكاتب، وجدير بالذّكر أنّ الرّواية
ضمن القائمة القصيرة المرشّحة لجائزة البوكر لعام ٢٠٢٣، وهي صادرة عن دار الوطن اليوم للنّشر والتّوزيع.
بقلم ….ميَّادة مهنَّا سليمان… سورية
Discussion about this post