بقلم / أمين بورواق
في واحدة من أهم تجاربه في عملية التعلم، أحضر عالم الفسيولوجيا الروسي (إيڤان باڤلوڤ) كلباً سليماً من الناحية الصحية، ثم أجرى له عمليه جراحيه بسيطة، حيث شقّ فتحه صغيرة في رقبة الكلب، وأدخل من خلالها أنبوب لتجميع وقياس إفرازات الغدد اللعابية.
قام بتجويع الكلب أكثر من يوم ثم دخل بالطعام، فوجد أن لعاب الكلب قد سال عند رؤية الطعام. قام بعد ذلك بقرع جرس قبل أن يقدم الطعام، لكن الكلب لم يفهم مغزى هذه الحركه، فصار يحرك رأسه فقط. ثم كرر الحركة نفسها عدة مرات، إلى أن عرف الكلب أن صوت الجرس نذير على قدوم الطعام، وبعد ذلك صار يقرع الجرس دون إحضار الطعام، فحصل على الاستجابة نفسها المرتبطة بمشاهدة الطعام، أي أن لعاب الكلب سال لمجرد سماعه لصوت الجرس؛ ومن هذه التجربة وضع باڤلوڤ نظريته حول رد فعل الارتباط الشرطي.
نلاحظ في حياتنا اليومية أشياء مشابهة لهذه التجربة؛ فعندما نطرق على جدار حوض الأسماك – مثلاً – عدة طرقات، ثم نضع لها الطعام، ونكرر ذلك عدة مرات، نجدها في النهاية تتحرك نحو مصدر الصوت حتى دون طعام. كذلك في حظائر الدجاج، عندما تفتح ربة البيت باب الحظيرة، أو تطرق على الوعاء الذي به الطعام، تسارع الدجاجات إليها لارتباط فتح الباب، أو طرق الوعاء بتقديم الطعام.
ذات يوم، كنت أتجول في شوارع إحدى المدن العربية، فقادتني قدماي إلى ساحة كبيرة مزدحمة، وكأنها مسرحاً لمهرجان شعبي كبير؛ فقد كانت مكتظة بالباعة، ومروضي الحيوانات والأفاعي، ومقدمي ألعاب تعتمد على خفة اليد والخداع البصري. ولكن ما شد انتباهي وجود شاب يحمل في يده “رِقّا”، وأمامه على الأرض كتكوتاً صغير الحجم ضعيف البنية، وبعد أن يجمع ما تيسر من النقود من المتحلقين حوله، يبدأ في الضرب على الرق بإيقاع جميل، فينطلق الكتكوت راقصاً على ذلك الإيقاع. صفقنا له جميعاً ثم غادرت المكان على أن أعود في آخر النهار لأتحدث مع ذلك الشاب. تجولت في الساحة، وشاهدتُ ما شاهدتُ من صنوف التخلف والجهل.
بُعيد الغروب بدأ الجميع في لملمة أمتعتهم وأدواتهم، حينها انطلقت صوب صاحبي، وعندما رآني تبسم قائلاً: لقد انتهى عرض اليوم يا أستاذ، قلت: أعلم ذلك، ولكنني أرغب في التحدث إليك، قال: تفضل، ولكن باختصار من فضلك، فكما تعلم أنني منذ الصباح وأنا هنا، وكما تراني أمامك، تَعِب مُنهك، قلت: اطمئن فلن آخذ من وقتك الكثير ، كنت أرغب في إشباع فضولي عن كيفية جعل كتكوت صغير يرقص على أنغام الرق، تبسم صاحبي قائلاً: كل حرفة ولها أسرارها يا سيدي، قلت: نعم، صدقت، ولكنني في شوق كبير لأن أعرف سر هذه اللعبة، قال: يا سيدي لو أفشينا أسرارنا، لبطل العجب، ولأفل نجمنا، وضاع جمهورنا وزبائننا. كذلك سيتعلم صنعتنا كل من يهب ويدب، قلت : صحيح، ولكنني لن أغادر المكان حتى أعرف سر هذه اللعبة .
بعد جدال ونقاش جعلني في ضعفٍ ووهن وعناد يُلزمني أن أدفع ما يطلبه هذا الشاب، وأعترفُ أنه قد نجح في ذلك .
وأخيراً، بعد أن عرف أنني غريب عن تلك البلاد، طلب مبلغاً لا بأس به، وحكى لي الحكاية قائلاً: يا سيدي نحن هنا نضع مجموعة من الكتاكيت في طاجن كبير، ونوقد الغاز أسفل الطاجن، وفي تلك الأثناء نقوم بالعزف على الرق، ومع تكرار ذلك، نجد الكتكوت كلما سمع دقات الرق ظنّ أن النار قادمة؛ فيصير يقفز خائفاً من سطح الطاجن الساخن وليس راقصاً كما تظن يا سيدي. تبسمت وقلت له: إن ما تفعله هو تطبيق لإحدى نظريات التعلم لباڤلوڤ، فهل درست علم النفس؟ قال: لا يا سيدي فأنا لا أعرف القراءة ولا الكتابة، قلت، ولكن لذلك حكاية يا سيدي، فقد كان لي شقيق سُجن لمدة طويلة، وكانوا ينقلونه يوميا من زنزانته إلى غرفة التعذيب، ثم يعودون به، وبعد فترة أُطلق سراح أخي وخرج من السجن وهو في حالة سيئة جداً، لا نعلم هل هو مريض أم ممسوس كما يقولون، وظل منذ خروجه قابعاً في غرفته، منطوياً على نفسه، وكلما سمع صوت قرقعة مفاتيح أو أقفال أو باب يُفتح، يصاب بنوبة من الهلع .. أظن أنّ هذا هو باڤلوڤنا الذي نعرفه يا سيدي.
Discussion about this post