في ليلة باردة من ليالي ديسمبر تحلق أفراد العصابة حول زعيمهم يقتنصون الفرص لكيل المديح له، وللاستمتاع بطرائفه ولطائف قصصه. فزعيمهم “الدون” مشهور بحلو كلامه وجميل قصصه وعذوبة صياغته للكلمات، وهو أيضاَ معروف بكرمه وسخاءه على أتباعه، وبعشقه للمديح، ولمصاحبة النساء الجميلات. كما عرف عنه بطشه وقسوته وجبروته على من لا يدين له بالطاعة والولاء. أمضى الرهط بعض ليلتهم في مسامرة وحديث وضحك ولهو.
وقبل أن يتفرق الجمع آخر الليل، وصل أحد أفراد العصابة، وجلس بجانب الدون، وهمس في أذنه بعض كلمات؛ فتغيرت ملامح وجه الدون واكفهرت، وظهر الغضب عليه، وصاح: أوقال ذلك؟ فرد عليه تابعه وقال: وأكثر من ذلك. صمت الدون، وصمت من حوله، ثم قال يجب أن يوقف أحدكم هذا الكابيلو عند حده. فلا يكاد يمضى يوم دون أن يتحدث عني بالسوء، ويسخر مني أمام الخاصة والعامة. صمت ثانية، ثم نظر إلى “ماكسميليو” وهو شاب قوي البنية ينتظر فرصة ليصبح من بين خاصة الدون، وقال له “ماكس، ألم يكن “كابيلو شرايفر” من بين أصحابك في المدرسة؟” قال ماكسميليو “كان صديقي الحميم منذ وعينا على هذه الدنيا، بل كنا كالأخوين. لا نتفرق إلا في آخر الليل. فقد كانت أمي ابنة خالة أمه. لكنه – وللاسف – ترك رفقتي، وابتعد عني منذ التحقت بالعائلة، وصرت واحدا منكم”. صمت الدون وقد قرر أمرا. ثم قام وأوعز للجميع، فقاموا لينصرفوا.
غادر الجمع، ومشى الدون مرافقا لهم إلى باحة المنزل، وقد أحكمت يده الامساك بيد ماكسميليو، وسار به بعيداً عن الآخرين. غرس الدون أصابعه في مرفق يد ماكسميليو وعينيه في عينيه، ثم قال له “اليوم يومك يا ماكس. اليوم تثبت ولاءك للعائلة، واخلاصك لعرابها. لا يطلع الصبح حتى تأتيني بخبر عن كابيلو”. قال ذلك، ثم سار إلى سيارته، وفتحها، ثم تناول من صندوقها خنجراً مصنوعاً من الذهب الخالص ناوله لماكسميليو، وقال له “هذا الخنجر الذهبي لك – بعد أن تقتل كابيلو به”. ثم أضاف “طعنة واحدة من هذا الخنجر المسموم تكفي لتكتب بها مرسوم ولاءك وعلو مكانتك بين أفراد العائلة”. طأطأ ماكسميليو رأسه وقال: “لكن كل ما فعله كابيلو أن قال بعض كلمات، وهو – كما تعلم – كثير الكلام مهزار. أنقتله بكلمات؟!” فرد عليه الدون: “بل نقتله بأقل من ذلك، إنها هيبة العائلة يا أحمق! وهيبة العائلة من هيبة عرّابها. اليوم يقول كلمات، وغداً أتدري ما قد يفعل! نتغدى به قبل أن يتعش بنا. إمض ولا تعد إلا بالخبر الطيب”..
مضى ماكسميليو مسرعاً، وقد تأبط شراً من ذهب. مضت سريعاتٍ سويعاتٌ من الليل، وقبل أن يطلع الفجر، عاد ماكسميليو، وفي يده خنجر ينقط دما وقد تناثرت على ملابسه بقع حمراء. بصوت مرتجف أخبر الدون بانه قتل كابيلو وهو يتظاهر بالفرح والنصر، ولكن عينيه الزائغتان وصوته المهتز كانا يخبران بغير ذلك. تجاهل الدون اهتزاز صوته وارتجاف كلماته، وقال له أنت اليوم بطل العائلة!
استمتع ماكسميليو بعلو شأنه بين أفراد “العائلة” لفترة لم تطل. ومرت الأيام، ونسي أفراد العائلة “بطولته” لتلك الليلة. ثم مرت سنين، ومعها طوى الزمن والنسيان كل ذكرى لتلك الليلة. رحل ماكسميليو إلى مدينة بعيدة، وأقام فيها. تذكر القصص والروايات أنه – وفي ليلة باردة من ليالي ديسمبر – تسلل إلى بيت ماكسميليو رفيق له – كان يحسبه أخاً وفيا – لسرقة خنجر ذهبي سمع أن ماكسميليو يمتلكه، وأثناء مغادرته البيت بعد عثوره على الخنجر الذهبي تنبه له ماكسميليو، فما كان من المتسلل إلا أن طعن ماكمسيليو العجوز بالخنجر الذهبي. تذكر القصص والروايات أن ماكسميليو وهو يحتضر قال لقاتله: لم تظلم، دم بدم، غدر بغدر، خنجر بخنجر، والبادىء أظلم…
Discussion about this post