…المدرسة بين الأمس واليوم…
تاريخ الأجيال يكتبه الأطفال احيانا… تكتبه محفظاتهم وادواتهم وحركاتهم وبراءتهم ، وهنا أردت أن اتكلم عن فترة زمنية من القرن الماضي كان فيها للمحفظة شكل مغاير عن اليوم وللطفل طبع مغاير أيضا لا يدرك فحواه الا من عاش تلك الفترة الزمنية وظلت الذكريات راسخة في ذهنه، يراها في جدران القاعة المزدانة بالصور والمعلقات وجداول الضرب، وفي السبورة السوداء والطباشير الأبيض والملون وفي اللوحة الكرتونية وكراس”فرقاطة” و”حنبعل” وقرطاج” والمقاعد الخشبية القديمة والمحبرة المنغرسة في الطاولة بحبرها البنفسجي الذي يوزّعه حارس المدرسة على الاقسام بداية الأسبوع و الريشة بنوعيها للخط العربي والخط الفرنسي ومسطرة المعلم توقّع ضربتها على المكتب في حصّة الحساب الذهني معلنة عن البداية و النهاية، وجرس المدرس حين يرنّ معلنا عن خروج التلاميذ للراحة أو الاذن بانتهاء الدروس…
اليوم تبدّلت أشياء كثيرة.. بقيت هذه المشاهد عالقة بأذهان الجيل القديم الذي بدوره واكب تطورات الجيل الجديد، فما هو الفرق بين محفظة الأمس واليوم وبين تلميذ الأمس واليوم؟
كانت محفظة الأمس أصيلة ووفية وقوية وثابتة على العهد مثل شاريها وبائعها وحاملها… تتحمّل ضربات الزمن و خدوش الاطفال، يحملها التلميذ من السنة الأولى إلى السنة السادسة فلاتتنكر ولا تصرخ معلنة التعب ولا تطالب بالتغيير حتى يجدّدها الوالد للابن أو الابنة متى استطاع لذلك سبيلا او عند انتقاله الى التعليم الثانوي فرحا بنجاحه و تكريما له…محفطة الأمس لم تكن تؤلمها وخزات الإبرة وهي تتراقص على جسدها من يد الخياط وهو يرقّعها
لتصير أقوى وأمتن وأطول عمرا.. ثم تنتقل المحفظة القديمة إلى الأخ او الأخت او الجار لتواصل الرحلة حتى ينتهي أجلها… كانت المحفظة تحمل في طياتها أهمّ المعلومات بأقلّ الكتب و الكراسات فلا تثقل ظهر التلميذ أو تحدث له اعوجاجا في الفقرات ثم تأتي غالبا بنتائج مشرّفة و معلومات راسخة تؤهل التلميذ إلى أرقى المستويات..
اليوم صارت المحفطة مختلفة الأشكال، متعدّدة الألوان..سريعة التبدّل..كثيرة الدلال..منتفخة.. ضخمة الشكل لكثرة ما تحمله من أدوات و كتب حتى نكاد نفكّر في شراء نقّالة لنقلها حتى باب الفصل…وهي كثيرة الضجيج بقرقعة عجلاتها وهي تجرّ على المعبد او على الرصيف ، و في كثير من الأحيان تتحوّل الأمّ الى تلميذ فتحملها او تجرّها عوضا عن ابنها او ابنتها رأفة بالغصن الطري..و بعد سنة دراسية يقضيها التلميذ بهذه المحفظة متعبا ضائعا بين فوضى الكراسات و الكتب والأدوات..تأتي النتائج غالبا هزيلة او في ظاهرها جيّدة و في باطنها ضعيفة و يصحّ القول في تعليمنا المنهار ” تسمع جعجعة ولا ترى طحنا”
أما عن التلميذ فقد صار متذبذبا بين كثرة الكراسات والكتب، ضائعا بين العناوين و الطلبات ممّا أبعده عن التركيز والاهتمام زاده الدخول إلى عالم الانترنات والانشغال بالألعاب في “الطابلات” في حين كان يقبل على الكتب بشغف وعلى العمل بجدّ حين كان للمعلّم هيبة وللتلميذ حدود وللولي اعتبار إذ يتّفق الثلاثة على الاحترام المتبادل والعمل الجدّي للظفر بالنجاح والتفوق…يومها كان التلميذ قنوعا، مطيعا، مؤمنا بقدرات الأب المادية، متفهّما لوضعه، فلا يثور ولا يتطاول ولا يرتمي على الأرض في حركة هستيرية لتنفيذ اغراضه… يومها كان إذا رأى المعلم في الشارع يحمرّ وجهه خجلا فيسلّم باحترام أو يختفي من شدّة هيبته ووقاره..
اليوم ونحن نرى ما نرى من ضعف المدرسة التونسية وانهيار المنظومة التربوية نأسف لابتعاد جيل ذهبي كان يحترم القيم الراقية في الشارع والأسرة والمؤسّسات ويؤمن بالتوافق والترابط بين الولي والتلميذ والمربّي ، ونأمل ان يتصدّى المسؤولون لهذه الظواهر الخطيرة فيعملون بحزم ووطنية واخلاص لتتبّع اسباب الانحلال الأخلاقي والحدّ من فوضى البرامج والأدوات( ان وجدت) والقضاء عليها ليسترجع التعليم مكانته والدولة هيبتها كانتا فيما مضى مفخرة في الداخل والخارج.
…بقلم الأديبة حسيبة صنديد قنّوني…
Discussion about this post