بقلم : لينا إسماعيل
عندما أطلق أرسطو قبل آلاف السنين عبارته الشهيرة (الفن مرآة الحياة) كان يسمو به إلى مرتبة الشاهد الحقيقي على الواقع الذي يخلد ملامح حية لمراحل تاريخية من الأحداث الإنسانية على مر العصور، وفي خضم عصف الأعمال الدرامية التي غزت أوقاتنا خلال العقد الماضي وانتشار ظاهرة التريندات حاليًا على مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب احتلت الدراما المرئية مرتبة الصدارة بين مختلف الفنون من حيث الانتشار والتفاعل بين فئات المجتمع ، باعتبارها منفذاً سهلاً ومتاحاً في كل وقت نحو العالم, وغدت بالفعل مرآة للحياة وخاصة المعاصرة بعد أن كسرت طوق الإسقاطات البائدة وتخلت عن أدوات التلميح والترميز باتجاه المباشرة والجرأة في الطرح التي كان لا مفر من انتهاجها وسط ما نشهده من طوفان التغيير على مجمل الأصعدة ومواكبتها؛ ولكن هل ارتقت الدراما لتكون شاهدًا محايدًا وموضوعيًا، وبالتالي أخلاقيًا على العصر؟ النتيجة أننا غدونا نتفاعل تدريجياً مع سلاح ذو حدين ومكمن الخطورة ما حمله هذا الفن بين طيات المتعة والتسلية من تأثيرات تفكيرية وسلوكية على شرائح المجتمع العمرية والثقافية والاقتصادية خاصة بعد أن انحرفت أهداف الكثير من صناع الدراما نحو التجارية على مبدأ العرض والطلب في ظل شراهة القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي المسيطرة على أوقات واهتمامات الناس التي تلقفت كل أنواع الفنون الأخرى أيضًا من سينما وأعمال مسرحية ووثائقية على مدار الساعة. وازداد خطر الدراما فداحة في ظل الحرب الطاحنة التي عشناها والتي فجرت ينابيع ثرة من الحكايات الدرامية على اختلاف انتماءات كتابها وثقافتهم وتياراتهم الفكرية والسياسية، والأهم النبض الوطني والروحي لديهم، وملأت دراما الحرب في سورية تحديدًا مجمل الفضائيات؛ باختصار احتلت الدراما حالياً أولوية الانتشار والمتابعة والتأثير في إيصال صورة مفرزات الأزمة بدقائقها المعيشية وتفاصيلها المأساوية إلى كل بيت عربي، ولكن من وجهة نظر كاتب مداده الحس الوطني العالي، وكتاب آخرين مدادهم سياسة القنوات التي ستشتري وتروج على اختلاف اتجاهها السياسي وموقفها من الحرب على سورية .
وبالتالي فإن ما تطرحه الدراما من أحداث وسلوكيات تحولت في أذهان الناس خاصة خارج حدود البيئة المعنية إلى واقع حقيقي ، بنت عليها قناعاتها ومواقفها غالبًا ولنا في ذلك مثال حي في رسم صورة المرأة السورية التي تم تناولها قبل عدة سنوات مسلسلات البيئة الشامية، وقد عكست نظرة عامة لدى العالم العربي لا تمت بصلة لواقع المرأة فعليًا وكان ذلك أخف الضرر الناتج عن بروز الورق الدرامي التجاري بعد أن عكست بعض الأعمال الدرامية الأخرى صورة مشوهة عن المرأة المعاصرة أيضًا بما فيها من سطحية فكرية وفوضى أخلاقية وانفلات اجتماعي لا نجده إلا في قاع المجتمع ،كما كل المجتمعات الأخرى. وهو الأخطر كونه اعتمد على تجسيد حالات فردية استثنائية مهما اتسعت، ومن الإجحاف بحقيقة المجتمع السوري وقوامه الحي تسليط الضوء على مدار عشرات وعشرات الساعات الدرامية على نقيضه بحجة أن الدراما حكاية لجانب من الحياة الإنسانية التي يجب أن تكون مثيرة ليكتب لها النجاح؛ ومن قال أن الإثارة تكمن في الحالات الخارجة عن المألوف بسلبياتها فحسب وبمفردات حوار هابطة وسلوكيات هدامة تقدم على طبق من الإغراء كمن يدس السم في الدسم ، حتى وإن نالت عقابها في الحلقة الأخيرة بمعالجة ساذجة غالبا ؟
اليوم لا يمكن لأحد إنكار أهمية الدراما في حياتنا وتأثيرها في العقول والسلوك بما توفره من امتداد زمني للمسلسلات وأجزاءها التي تمتد لأعوام ما يساهم في تعديل الآراء وتشكيل الاتجاهات وإبراز صورة فنية قد تنجح أو تفشل في تجسيد الواقع؛ الدراما اليوم سفير حقيقي للوطن الذي يحقق أعلى نسبة مشاهدة وتفاعل؛ والعنصر الأهم في صناعة الدراما على عكس ما يرى كثير من أصحاب الشأن هو النص الذي يجب أن يكون أمانة في عنق كل من ينصب نفسه مستقرئاً للمرحلة وناقلاً درامياً لها ولأي حدث أو ظاهرة اجتماعية تمس الوطن …إنها مسؤولية جسيمة لم ندرك مدى أهميتها وإيجابيتها في تكوين رأي عام قويم وفهم حقيقي لما يجري على الأرض وما يكابد المواطن السوري والعربي عمومًا وستكابده الأجيال القادمة نتيجة ترددات هذه المرحلة على المستقبل بقدر ما يلعبه من دور سلبي قاتم في تشويه الواقع فيما إذا كان الكاتب منحازاً أو قاصراً عن فهم حقيقة ما حصل ويحصل وإيصاله للمشاهد، وإذا كانت الدراما المرئية تساهم في تشكيل القناعات باعتبار أن (محاكاة الحياة أشد استهواء للعوام من الناس من الحياة نفسها) كما يقول أرسطو, وأن ما تحققه المتابعة الدرامية من تأثير وانتشار تعجز عنه آلاف الخطب والكتب والمواعظ، فلماذا لا يتم تطويع الدراما لخدمة قضايا المجتمع وتزويد الأجيال بمفاهيم الحق والخير والجمال والقيم السمحة وإثارة الوعي الذاتي والتفهم الحقيقي للواقع وكيفية مواجهته من خلال معالجات أخلاقية لا تعارض ديانة المجتمع وعاداته، ووفق الأصول الفنية المتطورة التي تجسد الآلام الجماعية والمعاناة الشعبية، بالتوازي مع طرح الحلول الناجعة واستثارة فطرة الخير والتعاضد والسمو بالأهواء نحو الايجابية التي نحتاج والتي نجحت في تقديمها بعض الأعمال الدرامية السورية والمصرية باقتدار فعلي حقق نسبة مشاهدة عالية , وإذا كانت النصوص الدرامية قد تجاوزت ضوابط الرقابة والتقييم بحكم اجتياز حدود الرفض أو القبول المحلي فإن من واجب الجهات المعنية محليًا وعربيًا على الأقل الأخذ بيد كتاب الدراما الوطنيين واحتضانهم والارتقاء بورقهم من خلال التوجيه والتصويب وإنشاء مراكز تأهيل وصناعة لكتاب الدراما باعتبارهم اليوم ثروة وطنية لابد من دعمها لإنتاج أعمال درامية ذات سوية فنية عالية قادرة على المنافسة والتشويق ولكن بما يليق بجوهر الإنسان السوري والعربي عمومًا ، وطبيعته التي يغلب عليها الخير الاجتماعي والوسطية الدينية والروح الحضارية التي شكلت عوامل صموده في وجه الأزمات العاصفة.
Discussion about this post