ندوة بعنوان( فلسفة السّعادة )في المعهد العالي للدكتوراه في كلية الآداب والعلوم الانسانية والاجتماعية.
تقديم: الدكتورة بهيّة أحمد الطشم
مقدّمة:
نبدأ من موضوع السّعادة عسى أن ننتهي اليها….فمعناها اللفظي لا يُحيط بمعانيها الكثيرة والعميقة في قلب نفوسنا…وما نقوله ازاءها هو جوهر يعبّر عنه وعينا ببعض الكلمات,ولكنّ معانيها
قاطبةً تتمركز في لائحة كل ما نريد,نحب,نتمنى ,نرغب ونطمح.
لا مناص من أن ننظّم سعادتنا حتى تتضاءل تعاستنا ,ومن أن نتوقف طويلاً عند عزاء ولو كان الوحيد في حال كان لسعادتنا مشكلة مع القدر,فذلك هو الاجتهاد الشخصي في تخليص أمنية من أعنف جلاّد وهو اليأس.
انطلاقاً من ذلك, انطلقت أفكارنا في مسارها نحو تأمّل الأفكار السّعادوية لأبرز الفلاسفة ازاء ملكة أفكارنا (السّعادة) كونها: ضرورة,ارادة,قوة منفعلة وفاعلة ,فالارادة في طلبها هي أول خالق لها.
ومع أنّنا نتصوّر جُزراً سعيدة حافلة بما لا يُحصى من النجاحات,لكنّ الثابت أنّ السّعادة ليست ابنة شيء واحد محدّد,على اعتبار أنّ الأشياء تتفاوت من حيث درجة خيّريتها وكمالها مع محاولتنا لاستقطاف بعض آياتها.
ولا غرابة في ذلك, لأن شوقنا للسعادة منصرفُ اليها بطبعنا ,ذلك أنّ مصير الانسان كما يقول القديس أوغسطين في الاعترافات :”يُقلقه البحث عن السّعادة,فكلُ يبحث عنها ويرغب بها…”
ترسّخ السّعادة التوازن النفسي- الاجتماعي وتفعّله كمعيار يحفّز اواليات الممكنات ,فحقنا السّعادوي المستحق يستحق الاهتمام الأهم والأصعب في التحقيق.
والسؤال الأكبر الذي يطرح نفسه كاشكالية كبرى:هل من معيار ثابت للسعادة؟
2
ويستثير هذا السؤال أسئلة أخرى هي أصداء له:
ما هي مقتضيات السّعادة؟
هل يكفل العقل وحده التماس السّعادة؟
كيف تتجلّى ثنائية الحكمة والحماقة في السعادة؟
أحقيقيّة هي السّعادة اللامتناهية؟
سنناقش في هذه الندوة نقاشاً حيوياً هذه الأسئلة التي تطرحها قلوبنا قبل عقولنا عبر القاء الضوء السّاطع على القضايا ذات الصلة بالسّعادة كفلسفة حياة وأبرزها: الحرية,الألم, المعرفة والفضيلة,الألم,الزواج والحكمة .
واذا ما تطرّقنا الى التعريف الاتيمولوجي للسّعادة,فانّه مهما اجتمعت ألفاظ اللغات قاطبة ,فهي لا تفسّر السّعادة الاّ بالسعادة.
ذلك أنّ التعبير عنها لا يُوازي الاحساس بها ,لكنّنا نستشرف معانيها من دمعة فرح,ضحكة صادحة,لقاء حبيب ,انجاز طموح …..واشراق الأمل.
ولأنّ السّعادة هي تلك اللذّة التي لا لذّة بعدها,وهي تُغني عن كل لذّة ,ثمّ انّها تمنح السّلام الداخلي, ولأنّ التعريفات بصدد فلسفة السّعادة لا تنتهي كما أمنيات النفوس لتحقيقها,
لذلك آثرنا:
أولاً: التوقف عند أبرز التعريفات والمفاهيم النخبوية بصددها رغم أنّ سبر غورها يكاد يكون من أمتع الأمور المُغرِية:
– انّ الصّحة والغنى والجمال هي من أهم الاعتبارات للسّعادة عند ايمانويل كانط.
– الفضيلة هي طريق السّعادة وهي متحققة في أعماق ذات الانسان الذي بلغ مرحلة الكمال.(أرسطو)
3
– انّ الحصول على السّعادة رهن بالوصول الى أعلى درجة من تحقيق الذات.(ابراهام ماسلو مؤسس علم النفس)
– السّعادة هي الشّعور بالقوة.(نيتشه)
– التأمّل هو جوهر السّعادة عند ابن سينا.
– الحقيقة هي موطن السّعادة عند ابن رشد.
-الليبيدوla libido أو اللذّة الجنسية هي محور السّعادة عن رائد التحليل النفسي .
– الحُب الالهي هو سعادة النفس في تذوّق أجلّ نور عند ابن عربي.
– العقل والحرية هما أبناء السّعادة الجبرانية.
وتجدر الاشارة الى أنّ الفروقات في النظرة الى السّعادة بحدّ ذاتها هي الفوارق في النظرة الى الطرق المؤدية اليها,ولكنّ الأهم هو أن تكون السّعادة حقيقية,ليست مزيفة أو واهمة,
ذلك أنّ السّعادة هي ضرورة قصوى تحتّمها حاجاتنا اليها حتى نبني عليها مقتضياتها.
ولأنّ القليل من السّعادة لا يُغني عن الكثير,ومقياسها نسبي متأرجح بين الشخص والآخر,فالسّعادة هدف قبل التحقق والهدف سعادة متحققة,ولا أهمية لسعادة غير مرتكزة على العقل.
يبيّن الدكتور ايلي متشكنوف (1916) الحائز على جائزة نوبل في الطب في عام 1908 من خلال كتابه تحت عنوان:”دراسة في الطبيعة الانسانية :محاولة في وضع فلسفة متفائلة.”,وذلك نظراً لأصالة أفكاره في الاضاءة على أهم المبادىء السّعادوية.
نستلهم من هذا الكتاب : “أنّ الانسان يعّذبه عدم الانسجام في طبيعته,وكونه فريسةً لثلاث مصائب ألا وهي:”المرض,الشيخوخة والموت.”
4
ويقترح ميتشكنوف حلّ في النظرة الى هذه الأمور:قِوام الحل:هو العلم,اذ يكفي أن يقتنع الناس بقوة العلم الكاملة,ولا بدّ أن يدرسوا فنّ حُسن الحياة,فنّ حُسن الشيخوخة وفنّ حُسن الموت,وذلك بالعزوف عن اللذّات الضارّة , والأخذ بسياسة عقلية.
وفي الصّدد عينه يقول سبينوزا في مستهلّ كتابه:”اصلاح العقل”: “لا تتعلّق بشيء,ولا بالانسان ولا بالحيوان ولا بالأسرة,ولا بأي شكل من أشكال الوجود لأنّها كلها فانية.”
اذاً,تقوم السّعادة على أن نريدها أولاً وثانياً : العمل على تحقيقها,ولكن العَصب يكمن في الاعتدال بتطبيق مفهومها .”فالوسط العادل” هو الذي يعيّنه العقل بالحكمة تبعاً للظروف وتختاره ملكة الفضيلة.
– ثانياً: مستلزمات السّعادة النفسية: الحُب,الأمل في سرمدية الأفكار,الاطمئنان, الطموح,الحرية,الانسجام أو التوازن النفسي.
نستحضربعض العبارات الذهبية بصدد أهم مستلزمات السّعادة:
– الحُب :لقد أوصى مؤسس علم الاجتماع أوغست كومت بحفر هذه الكلمات على قبره:”الحُب مبدؤنا,النظام قاعدتنا والتقدّم غايتنا.”,ولا غرابة أنّنا بالحُب نستدعي السّعادة الى أنفسنا بطرفة عين.
– الطموح:هو سرّ اهزال اليأس,وفي هذا السّياق يعتبر “أريك فروم” ( 1980) في مؤلّفه ثورة الأمل ” أنّ الأمل مُلازم لكل فرد,وهو استعداد داخلي لدى الفرد,بأن يكون هو نفسه وشرط ضروري لوجود الانسان مُوجّهاً الى تطوير الطاقة الداخلية للشخصية.”
ومن المهم أن نرتكن على حجّة الطموح,ولعلّ أهمّ ما في أي فكرة ناجحة هو انتقالها من الطموح الى الواقع,لا معنى لفكرة مهما كانت طَموحة ان لم تجد الواقع الذي تتحقق فيه أو ان بقيت حبيسة الأذهان…
5
– العقل هو الطريق الى السعادة عند ديكارت,فالسّعادة المرتكزة على مشيئة العقل هي خير أنواع السّعادة.
وما أروع أن نستذكر بجدير الاعجاب أقوال أفلاطون صاحب المُحاورات العُظمى في الفلسفة(أم العلوم) سيّما فيدون,فايدروس ,.وغيرها.. اذ يقول بصدد فلسفة السّعادة: “انّي أؤكّد أنّ من يرغب في السّعادة,عليه أن يطلب الاعتدال ويهرب من التطرّف بأقصى سرعة تستطيعها رجلاه….”
و”الحياة المفضّلة ليست الخالية من الحكمة ولا حياة الحكمة الخالية من اللذّة,بل حياة خليط من الاثنتين,أي حياة لذّة وعقل وحكمة.”
ذلك أنّ السّعادة المرتكزة على العقل هي الأوفر حظاً في الاستمرارية ونلتذّ فيها أكثر لأن الأنسجام فيها يضمن أو يكفل تجانسها مع ذواتنا.
ثالثاً: نظرة علم النفس لسيكولوجيّة السّعادة:
نستقرأ عبارة رائعة من كتاب الاشارات والتنبيهات لابن سينا: “الجسم هو آلة النفس”,أو كمال أول لجسم طبيعي آلي.”
وفي الصّدد عينه ,نستنبط من نظرة التحليل النفسي التي رسّخها فرويد Freud ,رائد التحليل النفسي بأنّ نظرة علم النفس الى موضوع السّعادة لا تختلف عن نظرة النفس اليها,فالنفس هي مخزن الانفعالات,الدوافع,المشاعر.
من هُنا تبرز ضرورة الاصرار على أهميّة الحياة لتصير ذات شأن بجهود أنفسنا المتحررة من اليأس.
ذلك أنّنا نعيش على الصّحة الجسدية وكذلك على الصّحة النفسية ,وبالمقابل نستنتج بأنّ الصّحة النفسية للأفراد تصنع الصّحة النفسية للمجتمع.
انّ سلوكياتنا هي وحدات القياس التي تقيس مدى سعادتنا وهي بمثابة المؤشر على امكانية التوافق مع أنفسنا نفسها من ناحية ومع العقل الجمعي من ناحية أخرى.
6
ولا نغفل أهميّة انفعالاتنا,تصرفاتنا ,مشاعرنا وسائر مواقفنا هي بمثابة بانوراما واسعة عن أنفسنا,ولا غرابة أن يكون سقراط صاحب الفضل في ارساء الخطوط الأولى لعلم النفس منذ آلاف السنين عندما أطلق عبارته الرائدة في مجال السيكولوجيا, الابستمولوجيا والانترويولوجيا والمحفورة على أعمدة معبد دلفوس:”اعرف نفسك بنفسك”Know your self.
وتجدر الاشارة الى أنّ مساءلة النفس هي الخطوة الأساسية على طريق السّعادة الحقيقية, ولكن بشرط أن لا تكون النفس بمثابة الجلاّد على نفسها,وانّما تُضفي لغة الحكمة على المونولوج الذاتي ابّان الاختلاء بالنفس لمدة زمنية لا تتعدى دقائق معدودة يومياً وقبل الدخول في مملكة النوم (مرتع اللاوعي وعالم الاسقاطات النفسية المتنوعة…..).
ومن الحريّ بنا التأكيد على أنّ طيف سعادتنا,غالباً, ما يُطلّ من باب جهدنا الدؤوب في سبيلها,ذلك أنّنا نستشرف سعادتنا من معالم المُعاناة التي تُصقل النفوس وهي السبب لوجود العُظماء,ولطالما كانت العبقرية بمعظم أسبابها وليدة الأمل,ويتجلّى ذلك أكثر ما يتجلّى في السِيرة الميمونة (لجبران خليل جبران,توماس اديسون,طه حسين….)
ولعلّ نظرية ماسلو(مؤسس علم النفس) في تفسير الدوافع الانسانية لتحقيق الأفعال السعيدة تشكل ركيزة أساسية في الاضاءة على تصنيف الحاجات بشكل تسلسلي والتي تنمّ بأغلبها عن أهداف تنشد بيت القصيد:السعادة, وفقاً لنماذج الشخصيات المتباينة:
أولاً: الحاجات الفيزيولوجية
ثانياً: حاجات الأمن والأمان
ثالثاً حاجات الحُب والانتماء
رابعاً :حاجات تقدير الذات
خامساً:حاجات تحقيق الذات
7
سادساً:حاجات الفهم والمعرفة
سابعاً: التسامي
والجدير بالذّكر أن اشباع هذه الحاجات يختلف من شخص الى آخر,وتتباين درجة الأهمية لهذه الحاجات وفقاً لنموذج كل شخصية وسمات الأطباع فيها.
وفي الخلاصة,يمكننا أن نُجمل ونستنبط أبرز النتائج من مقاربة فلسفة السّعادة على الشكل التالي:
– ليس من المبالغةً القول بأنّنا غالباً لا نستطيع قراءة السّعادة الاّ بشخصانية.
– السّعادة هي شرع وجودنا ,والحكمة هي العلّة الأسمى للسّعادة.
– التحرر الذاتي هو من أهم القناعات السّعادوية.
– السّعادة هي ارادة الحياة في زمن الموت المتعدد الوجوه والأشكال.
– ضرورة امتلاك رغباتنا في احكامٍ مُعقلن.
– انّ اكتشاف عَظمة النفس هو نقطة التحوّل في السّعادة الحقيقية.
– ليس هناك قانون فيزو- كيميائي حاسم للسّعادة عموماً,اذ لا سعادة مُطلَقة تؤطّرها نظرية واحدة وبشكلٍ مُطلق.
– انّ ادراك السّعادة والاحساس بها ليس عمليةً علمية,لذا, فنحن نتأثّر وننفعل بأبعاد الفعل السّعادوي الشاسع,والتي لا تحدّها تفاصيل ,وانّما تقترب منها العناوين الكبيرة.
– انّ خير ما نعبّربه عن سعادتنا هو:الاحساس الفعلي بها كي لا نصرف يوماً واحداً في التعاسة العقيمة.
اذاً,نسعى لأن تكون السّعادة في المقام الأول هي أداء روحنا,ولأنّ مواقف الحياة تتأرجح بين السّعادة واللاسعادة,لذا نجهد لتكون السّعادة متحالفة وواقعنا…
8
وبالرغم من أنّنا لا نستطيع التقاط حدود محدودة ونهائية لسعادة مُطلقة.
ولكن,أين عالمنا- اليوم- من عدالة السّعادة وسعادة العدالة؟
وكيف نحوّل السّعادة شعوراً شمولياً؟
وتبقى الأهمية الراجحة هي للموضوعات السّعادوية التي توفّر السّعادة المشتركة في العالم عبر التقديم الماكرولوجي لعالم الحياة الأفضل.
Discussion about this post