الريحاني …. والدكتوراة في ((حتى ))
مجلة الرواد
في فيلم الأيدي الناعمة – إنتاج 1963 م تقريبا – يؤدي صلاح ذو الفقار دور العاطل ، على الرغم حصوله على الدكتوراة في النحو – تحديدا في ” حتى ” – متعلّلا بعدم قدرته على تدريس أي علم سوى النحو . لكنه يقبل رفقة البرنس ( أحمد مظهر ) ، والمبيت معه في القصر ، ومشاركته أزمة نزع أملاكه بعد ثورة يوليو م1952. يضطر د. حمودة إلى الصبر على نزوات البرنس شوكت ، وما فيه من جنون عظمة ، والعمل عنده سكرتيرا ، وطاهيا ، وخادما ، حتى تتغير الأحداث ، ويصبح زوج ابنته مع تبدل المفاهيم في عقل البرنس ، وتسلل القيم التي أشاعتها الثورة في المجتمع : المساواة ، والعدل ، و..و.
- في عام 2008م ، و في فيلم رمضان مبروك أبو العلمين حمودة – لمحمد هنيدي – نطالعُ نموذجا مضحكا لمدرس اللغة العربية : أضحوكة للطلاب ، فقيرا من الرزانة ، تافها ، يتزوج إحدى المغنيات ، ويقبل أن يجمع ما يتساقط عليها من نقود المعجبين ، وهي ترقصُ على خشبة المسرح . لكن المخرج يتدارك الأمر ، ويُنهي الفيلم نهاية سعيدة بعودة زوجته إلى الاحتشام وقبولها الحياة معه في القرية الصغيرة البريئة من هذا كله في معالجة ، بلغت الغاية من السخف والتفاهة .
أما فيلم غزل البنات فهو صرخة الدفاع عن مدرس اللغة العربية .
ولعلّ تسمية مدرس اللغة العربية بـ أستاذ ” حمام ” دالٌ في ذاته على حال هذا المدرس : ضعفه ، وقابليته للالتهام – على موائد الأغنياء خاصة – وهذا ما تردد على مدار الفيلم من إشارات مقصودة تُنبّه إلى دلالة الاسم من خلال الخلط المُتعمد بينه وبين البط والفراخ والإوز .. والباشا يُعقب في كل ذلك بالضحك ، أو بتأكيد أنّ هذا كله ممّا يُؤكل . فيدل اسم حمام بذلك على حال معلّم اللغة العربية ، وحال الفقير أيضا .
يبدأ الفيلم باستعراض فخامة الحياة التي تعيشها ابنة الباشا ” ليلى ” ( ركوب الخيل والركض بها مع بنات الطبقة الأرستقراطية في أرض والدها الباشا ) ، ثم خبر سقوطها في اللغة العربية . ويبدو أن الفيلم قد تعمّد أن تكون ليلى من طبقة الباشوات ، إدانة لهذه الطبقة ، ووصفها بالجهل في اللغة العربية ، ومن ثم ، تحميلها جزءا من مسئولية أزمة هذه اللغة في هذا الوقت .
يمهّد الحوار- حول رسوب ليلى في اللغة العربية – بين الباشا وسكرتيره مرزوق أفندي ( عبد الوارث عسر ) لظهور الأستاذ حمام ( نجيب الريحاني ) الذي لم يظهر في أول مشاهد الفيلم رغم اضطلاعه بدور البطولة ، خضوعا لمنطق تتابع الأحداث .
وفي مشهد أستاذ حمام في الفصل ، يتم التركيز على ضعف التلميذات في اللغة العربية : قراءة وفهما . نلاحظ ذلك عبر عدة وقفات تبدو كوميدية ، لكنها انتقاد لحال اللغة العربية وقت إنتاج الفيلم عام 1949م ، حيث ما يزال الاحتلال الإنجليزي جاثما فوق روح مصر ، وحيث إضعاف اللغة العربية هدفه الأساسي .
حين يتم فصل أستاذ حمام من المدرسة ، نعرف أنّ راتبه 600 قرش ، أي ستة جنيهات ، وتظهر قيمة هذه الإشارة حين ننتقل معه إلى القصر للقاء الباشا – وتعليم ابنته ” ليلى ” أصول اللغة العربية – فيستعرض السيناريو – والإخراج – أمامنا عدة لقطات ، تُظهر التباين بين المظهر المُزري للأستاذ حمام ، وبين أناقة كلٍّ من : الخادم المخصوص بتقديم القهوة ، ومُربّي الكلب . نرى أستاذ حمام في هذه المشاهد ينحني لكل خادمٍ منهما ظنّا منه أنه الباشا .
وحين يسأله الخادم عن قهوته ، كيف يشربها ، يُطلعنا على فقره حين يقول :
والله ، انا عادة بشربها على الريحة .. لكن هنا ، خلّيها سكر زيادة ، زيادة أوي ..!
كذلك يفعل ، حين يُظهر مُربّي الكلب شفقته على الكلب الذي امتنع عن الأكل عدة أيام ، يقول حمام :
فيه ناس على أد حالهم بيقعدوا 7 أيام من غير أكل ..!
ويشير الفيلم إلى الوضعية المُزرية المُهينة لمدرس اللغة العربية من قِبل وزارة المعارف ، بل من قبل الدولة كلها التي ارتضت أن يكون راتب معلّم اللغة العربية أقل من مُربّي الكلب . تتردد الإشارة إلى هذه الوضعية على مدار الحوار بين الأستاذ حمام ، والمُربّي الخصوصي لكلب الباشا الذي يتقاضى ثلاثين جنيها راتبا شهريا :
مُربّي الكلب في كبرياء :
بوكّله ، وأحمّيه ، وأفلِّيه ، وأعلِّمه ، ولا بتوع المدارس ..
أستاذ حمام في سخرية : وهمّا بتوع المدار يوصلوا لتلاتين جنيه ؟!
مُربّي الكلب : وحضرتك بتشتغل إيه ؟
أستاذ حمام ممتعضا : أنا راجل على أد حالي .. أنا بتاع كتب .. بتاع علم !
مُربّي الكلب في استنكار وشفقة : بس ؟!
حمام : بس ..!!
ينصرف الخادم ، ويردد حمام بصوت خفيض : ده أنا لو من 18 سنة بعلّم كلاب ، كنت زماني من الأعيان .
أعتقد أنّ الفيلم أبرز رسالته في هذا الحوار المهم ، وفي ما سبقه من مشاهد : مشهد الأستاذ حمام في الفصل مع تلميذاته ، ومشهده عند دخوله القصر في اللحظة الأولى ، وهو يقول لمرزوق أفندي :
مرزوق أفندي : أنا شايف نفسي مخضوض شوية ..!
إهانته في مشهد اتهامه بالسرقة ، ثم ظهور براءته .
الفيلم أطلق صرخة احتجاج على الوضعية المهينة لمعلّم اللغة العربية من خلال تصوير أدق كواليس هذه الوضعية . لم أشاهد – حتى هذه اللحظة – فيلما مصريا أو عربيا استطاع أن ينازع فيلم ” غزل البنات ” في تبنّي هذه القضايا : تراجع وضعية اللغة العربية ، والهوة الطبقية . ولم أشاهد فيلما برع مثل ” غزل البنات في التعبير عن هذا ببساطة ومهارة وسلاسة وعفوية عبقرية ، لمع فيها نجوم مصر الذين شاركوا في صنع الفيلم .
Discussion about this post