نساء من الزمن القديم…حفصة
“بنت الحاج الركونية“
——-بقلم الأدبب ايمن دراوشة
بعد أن توفيت ولادة بنت المستكفي في عام 484هـ خبا وهج شاعرات الأندلس زمنًا طويلًا ، وإن كانت كل عوامل الإثارة التي أحاطت بولادة قد ظلت تصك الآذان ، وتبهر الناس من خلال زمن طويل. لكن شعلة الشعر الأندلسي النسائي لم تشتعل مرة أخرى إلا بعد مرور قرن من الزمن حين جاءت حفصة بنت الحاج في القرن السادس ، لتعيد مجد ولادة من جديد في مدينة غرناطة.
ويرى كثير من الكتاب والمؤرخين أوْجُهًا متعددة للتشابه بين ولادة وحفصة ، فكما كانت ولادة شاعرة غزلية ذات جرأة في الكشف عن مكنونات نفسها ، فإنَّ حفصة قد سلكت نفس المنهج وإنْ كانت ولادة أشعر منها وأكثر جرأة في البوح عن معاني الحب والعشق.
وكما ارتبط اسم ولادة ، بالوزير الشاعر ابن زيدون ، كذلك ارتبط اسم حفصة بالوزير الشاعر والكاتب أبي جعفر أحمد بن سعيد وزير بني عبد المؤمن ، وكما صادف ابن زيدون منافسًا على حب ولادة هو الوزير ابن عبدوس ، كذلك واجه أبو جعفر منافسًا له على حب حفصة ، هو الملك ابو سعيد عثمان بن عبد المؤمن ذو النفوذ والسلطان. وظل الصراع بينهما محتدمًا حتى انتهى بمقتل الوزير أبي جعفر.
كانت ولادة أكثر توازنًا من حفصة في عشقها لابن زيدون ، ورغم كل المصاعب والمصائب التي أحاطت بحياة ابن زيدون من جراء عشقه لولادة ، إلا أنَّه ظل هائمًا بها طالبًا إياها حتى آخر لحظة من حياته ، أمَّا أبو جعفر فقد كان حظه في الحب أفضل من ابن زيدون ، لأنه كان هو المطلوب من حفصة أكثر، وكان أكثر شعرها جرأة هو ما قالته غزلًا في أبي جعفر بن سعيد.
عُرِفَ عن حفصة بأنها شاعرة جميلة ذات حسب وثراء ، وبديهة ، وسرعة خاطر ، وقد ذكرت المصادر ، أنها كانت من أشراف غرناطة ، رخيمة الشعر ، رقيقة النظم والنثر ، وترعرعت في أكناف غرناطة التي أنجبت من قبل شاعراتها نزهون وزينب وحمدونة ، وقد ذاع صيتها في الأدب والشعر والثقافة ، فاختارها عبد المؤمن بن علي مؤدبة لنسائه ، وصادف مرة أن التقته في قصره فارتجلت قائلة:
يا سيد الناس يا من يؤمل الناس رفده
أمنــــــن عليَّ بطرسٍ يكون للدهر عُدَّهُ
تخط يمناك فيـــــــــــه “الحمد لله وحده”
وكان الشطر الأخير في البيت الأخير شعار دولة الموحدين ، وقد استخدمته حفصة بذكاء.
وتكثر اللقاءات بين حفصة وأبي جعفر ، ويلتقيان مرة في بستان ” حور مؤمل ” حيث الطبيعة الساحرة قد تحولت إلى قطعة من الجنة ، وحين تحين ساعة الافتراق يقول الوزير الشاعر:
رعى الله ليلًا لم يرح بمذمَّـــــــــــــــــم
عشية وأرانا بحور مؤمَّــــــــــــــــــــــل
وغرد قمريٌّ على الدوح وانثنــــــــــى
قضيب من الريحان من فوق جدول
يرى الروض مسرورًا بما قد بدا لنا
عناقٌ وضمٌّ وارتشاف مقبَّـــــــــــــــــــــــل
لقد تمكن الحب من حفصة وجعلها تعطي لونًا من الغزل يفقدها كبرياءها ، وهي لم تعد تقف عند الحدود المألوفة للمرأة ، بل طغى عليها العشق والشوق ، وها هي تقول لحبيبها ولم تفترق عنه إلا مدة قصيرة فقط:
أزورك أم تزور فإن قلبــــــــي إلى ما تشتهي أبدًا يميل
وقد أُمِّنْتَ أنْ تظمى وتضحى إذا وافى إليِّ بـــك القبول
فَعجِّل بالثواب فمـــــــــــــا جميلٌ أناتك عن بثينةَ يا جميل
ولعل المفارقة الملفتة للنظر بين حفصة وأبي جعفر ، إنه كان رجلًا هادئًا متزنًا قولًا وسلوكًا ، وإن كان شاعرًا عميقًا ذا حساسية مرهفة ، وكانت حفصة مندفعة ملتهبة المشاعر عاشقة أكثر مما هي معشوقة ، وهي هنا تختلف في موقفها عن ولادة ، وقد كان غزلها بالرجل قد فاق غزل الرجال بالنساء ، وهذا ما دفع العاشق المنافس صاحب الجاه والسلطان أن يكيد المكائد والمؤامرات طمعًا بالإطاحة بأبي جعفر ، لتنتهيَ هذه المؤامرات بطريقة درامية مؤلمة ، فقد قتل الملكُ العاشق أبا جعفر العاشق المعشوق لترثيه حفصة بكاءً حارًّا مُولمًا تقول:
ولو لم تكن نجمًا لما كان ناظري
وقد غبت عنه مظلمًا بعد نوره
سلام على تلك المحاسن من شجٍ
تناءت بنعمـــــــاه وطيب سروره
Discussion about this post