الحدس الفلسفي. ,,, الدكتوره بهية الطشم.philosophical intuition.
بقلم الدكتورة:بهية أحمد الطشم.
تقديم:
اذا كان المنطق هو اتفاق الفكر مع الواقع,ومع نفسه,فالحدس هو منطق الفلسفة الذي يعكس انسجام النفس مع نفسها وفلسفتها في أورغانون معرفيّ يسعى الى ادراك ما يتوق اليه.
ها هنا معبد الفلسفة (الحدس),وها هنا ميلادها,وميلاد العقل الذي كان به الانسان الاعلى. انفضّت به أسرار الكون,واستشرف العقل الى عين الوجود.
فالفلسفة كما يعتبرها الفيلسوف الوجودي هايدغر:”رسالة تحمل نداء الكينونة الصادر عن الكائن…”(1)
ذلك أنّ الحدس هو نفس وجوده,لأنّ وجوده هو عين انوجاده, تماماً كما الحياة مستمدة بالانوجاد.
ونستحضر-هنا- بعض الأقوال عن الفلسفة نفسها – ابنة الحدس- حيث لاغنى لعقولنا عن مقاربة أبعادها في صناعة الحدوس المتنوعة:
يقول روجر بيكون (1294م)في هذا الصّدد :” الفلسفة هي منتوج الاشراق الرّباني على العقل البشري.”
(1) علي زيعور,الفلسفة في اوروبا الوسيطة وعصري النهضة والاصلاح,ط1,بيروت,المكتبة العالمية للطباعة والنشر,2000م,ص 105.
2
ويعتبر سقراط ) 9 39ق.م )في محاورة مينون ضمن الاطار عينه:” ان الأسئلة هي التي توقظ الظنون الصادقة النائمة”(1),ويتقاطع ذلك مع ما قاله الفيلسوف( الوجودي) كارل ياسبرز:”انّ الأسئلة في الفلسفة هي أكثر جوهرية من الأجوبة…”(2)
حيث يرى كارل ياسبرز في كتابه “مدخل الى الفلسفة”بأنّ” التأمّل الفلسفي ينبع من صميم الانسان,ويتفجّر في احتكاكه مع الأشياء.. .”(3),”فالانسان انسان بما يفعل ويفكّر”.(4)
يمكن القول ازاء ذلك ,بأنّ الحدس يفعل فعله في ارساء الشعور بالمعرفة,وتحويل الأشياء عن مجراها في أعماق وعينا ولاوعينا ,كونه مفارقةً تضفي دائمًا أثرها الاستثنائي في تمزيق الشعور الانحطاطي للجهل.
فمن لا يملك حدساً فلسفياً يركن خارج المساهمة في رسم معالم الفلسفة,ويفقد بهذا المعنى الحسّ بالزمان والشعور بدلالاته الوجودية الحياتية, ولعلّ المحرّك الأساسي في كل ذلك هو الفكر الرّاقي الذي يكرّس من حيث لا يدري امكانية النظر لآفاق.
اذاً,يقع مركز الجاذبية للفلسفة عموماً في ميدان الحدس,بيد أنّ تصوّر الحدس يرتدي دلالات عدّة عند كل فيلسوف,فالحوار بين والأنا والأنا هو الفصل الذي يحيل الى ما بعد… الى أبعد… الى الفكر عموماً.
___________________________
(1) مهدي فضل الله,بدايات التفلسف الانساني,ط1, بيروت,دار الطليعة,بيروت,1994,ص 9.
(2) المصدر نفسه,الصفحة نفسها.
(3)و(4) توفيق الطويل,أسس الفلسفة,ط6,القاهرة,دار النهضة العربية,1976,ص 77.
3
على أنّ الاختلافات بين الفلاسفة حيال الحدس لا تطرحنا في بحرٍ لجي غير ذي ساحل,أو الى أغوار ليست بذات قرار,لأنّنا نأخذ أبرز الحدوس في المجمل الفكري والثقافي للسياق الانتاجي,وكأصحاب منحى شمّال, وضمن نظرةٍ أجمعية.
وبايجاز لا يخلو من الاسهاب,آثرنا التوقف عند أهم التعريفات النخبوية لأبرز الفلاسفة ازاء الحدس كي لا يتسلل التكرار اليها,ولكي نحاول الاجابة عن السؤال الأكبر: الى أي مدى تلتقي الميتافيزيقا بالواقع من خلال الحدس؟
أولاً: في حرفية التعريف الاتيمولوجي للحدس:
– الفرنسية: intuition , اللاتينية: intuition ,وكذلك في الانكليزية: intuition.
والحدس في اللغة:”الظن والتخمين,النظر الخفي,الحدس الذي اصطلح عليه الفلاسفة القدماء,مأخوذ من معنى السرعة في السير”.(1)
– وفي التعريف العام:mode de connaissance immediate,saisissant directememt sans intermediaire un objet de pense’e ou une realite’.( 2)
Intuition:the power faculty of knowing things without conscious reasoning(3).
___________________________________
(1) جميل صليبا,المعجم الفلسفي,بيروت,دار الكتاب العربي,مج1,ص25.
(2) De philosophie,Bordas,Paris,1991 page150. Jacqueline Russ,Agre,ge’e
(3) Merriam-webster, the New Dictionnary,America’s paper Dictionnary, librairie du liban publishers,Beirut,1993,p390.
4
ثانياً: أبرز حدوس الفلاسفة:
اعتبر ابن سينا (428 للهجرة)في كتابه “النجاة”بأنّ الحدس:”هو حركة الى اصابة الحد الأوسط اذ وضع المطلوب,أو اصابة الحد الأكبر اذا أصيب الأوسط,وبالجملة سرعة الانتقال من المعلوم الى المجهول…”(1)
هذا الحدس الذي هو امكانية أن يكون ما يشاء,فوق ذلك هوقدرة على تحقيق فعلي لتلك الامكانية.
ولعلّ هذا ما يفسّر قول برتراند راسل (1970م) :”ان تكن على يقين,فأنت دون شك على ضلال,لأنّ لا شيء يقيني,ويجب أن يظل دائماً مجال لبعض الشك في اعتقاداتنا,وأن نعمل بعزم رغم هذا الشك.”(2)
وفي السّياق عينه, يقول أبو العلاء المعري(شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء):
“أمّا اليقين,فلا يقين ,انّما
أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا”(3)
على أن فكرة الحدس الفلسفي مُغرية لدرجة أنّها غذّت وتغذّي مثال الامتلاك العام لكلّ نموذجٍ للمعرفة من خلال التمكّن من لغة معيارية ذات ضوابط Langue Norme’e.
_______________________
(1) جميل صليبا,المعجم الفلسفي,(مصدر سابق),ص 30.
(2) مهدي فضل الله,بدايات التفلسف الانساني,(مصدر سابق),ص33.
(3)المصدر نفسه,الصفحة نفسها.
5
يمكننا القول,بأنّ الحدس هو فضيلة نسبية في جوهر الانسان المفكّر,انّه الشعور الانفعالي المصاحب لامتلاك المعرفة ,أو الدافع الأهم كي ينال الانسان المعرفة,هنالك يشعر بوحدته مع الذات التي تحارب التشتت النفسي,ما استدعى حشد الخاطر.
انّه المبدأ الذي استخرج منه كل فيلسوف خلاصة أفكاره,اذ يبدأ الحدس بمعرفة الذّات أولاً ,ومن ثمّ تكون معرفة الموضوعات الأخرى آيلة الى هذه الذّأت.
لقد أسمى ديكارت (1650م )هذا الحدس “نوراً طبيعياً”,أو غريزةً عقلية تكتسب عبرها معارف كافية للبرهنة على قضايا كثيرة, لأن” الله قد وهب كل واحد منّا نوراً يميّز به الحق من الباطل…”(1)
ويقول عرّاب الحدس العقلي في السّياق عينه:”أنا لا أقصد بالحدس شهادة الحواس المتغيرة,ولا الحكم الخادع لخيال فاسد المباني,انّما أقصد به التصوّر الذي يقوم في ذهنٍ خالص منتبه لدرجة من السهولة والتميز لا يبقى معها مجال للريب,أي التصور الذي يصدر عنه نور العقل وحده.”(2)
ولعلّ برغسون ( (1941هو أهم فيلسوف عظّم الحدس كشعورٍ حُرٍ يتضّمن الأفكار الصامتة ,والتي لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ ,ف”الحدس هو التعاطف العقلي الذي ينقلنا الى باطن الشيء,ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة,والتي لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ”.(3), وهو أيضاً” عرفان من نوع خاص ,شبيه بعرفان الغريزة بخلاف المعرفة الاستدلالية والتحليلية التي لا تطلعنا الاّ على ظواهر الأشياء…”(4)
____________________
(1)ديكارت,مقالة الطريقة,ترجمة جميل صليبا,اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع,بيروت,,ص106, 1970.
(2) المصدر السّابق نفسه,ص108.
(3) و(4) قاسم أمين,الأعمال الكاملة,تحقيق محمد عمارة,ج1,بيروت,المؤسسة العربية للدراسات والنشر,1976,ص 184.
6
ويركّز برغسون على فكرة بارزة:وهي “أنّه كلّ ما أراد الانسان أن يعبّر عن احساس حقيقي,رأى بعد طول الجهد وكثرة الكلام أنّه قال شيئاً عادياً,أقل ممّا ينتظر,ووجد أنّ أحسن ما فيه بقي مختفياً.” (1)
ويتطابق هذا مع ما قاله جبران خليل جبران في دمعته وابتسامته:” انّ للفكرة وطناً أسمى من عالم المرئيات,وانّ للتخيلات رسوماً كائنة في سماء الآلهة تنعكس على مرآة النفس…”(2)
لقد أسمى هيغل(1831م) هذا الحدس الوعي بالذّات,فالوعي بالذّات يخرج على الكينونة الجامدة غير المنفصلة عن ذاتها…ليصير وعياً خالصاً بالذّات, فهو “حركة داخلية لا تشوبها أي شيئية,كما يخرج أيضاً على الانغماس في الحياة,والاستسلام لها,اي الحيوانية الخالصة…”(3)
اذاً ,يتبلور ذلك بقوة من خلال المؤالفة بين البعدين العقلاني والواقعي,ف “ادراك الحياة ,تلك هي المهمة”.(4)
وما “التاريخ الاّ التطور الضروري للحظات العقل,ونتيجة ذلك الوعي بالذات…وحرية الفكر”(5).
____________________________
(1) المصدر السابق نفسه,ص185.
(2) جبران خليل جبران,دمعة وابتسامة,ط3,بيروت,دار الابداع ,,2001ص 70.
(3),(4)و(5)Hegel,la raison dans l’hisyoire,Introduction a’ la phiosophie de l’histoire,traduction Giblin,Paris,vrin,1963,page 20.
7
وللحدس تعريف شعوري عند ابن عربي:”فهو تذّوق العقيدة عن طريق القلب”(1), ذلك أنّ “الجهل يضادّ بالدّين”.(2)
“أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وايماني”(3)
وقد خصّ الغزالي(505 للهجرة) في كتابه (المنقذ من الضلال) أهل الصوفية بالحدس معبّراً عن ذلك:” وقد علمت يقيناً أنّ الصوفية هم السّالكون لطريق الله تعالى خاصةً أنّ سيرتهم أحسن السّير ,وطريقهم أصوب الطرق,وأخلاقهم أزكى الأخلاق…فانّ جميع حركاتهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة…” (4)
اذاً,يتحول الحدس عند عشّاق الفناء بالله شعوراً شمولياً ابتداءً من تحويل الاحساس المكفهّر الى آخر لا يبخل في احتضان كل شيء,اذ هوالأعظم الذي أوجد الشغف بالله(العظيم) ,والعَظَمَة في كونه تدرّج من انطباع ايماني بسيط الى شوق لا يملّ أن يكون حدساً باسقاً نحو صانع العالم.
مع الاشارة الى أنّ أفكار الغزالي جاءت منسجمة مع أفكار ابن سينا الى درجة التخاطر ,ما جذب انتباه عقولنا الى ملاحظة توافق النور الالهي الذي قذفه الله في الصّدرعند الغزالي مع اشراق نور العقل القدسيّ عند ابن سينا,والنور الالهي عند ابن عربي,اذ اجتمعت هذه المفاهيم تحت لواء الحدس كسبب ونتيجة لما قد نسميه وحياً,الهاماً ويقيناً.
____________________
(1),(2) ابن عربي,الفتوحات المكيّة,ج1,بيروت,دار صادر,(لا,ت),ص 47.
(3) ابن عربي,ترجمان الأشواق,1321للهجرة,ص 40.
(4) الغزالي,المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال,تحقيق سميح دغيم,ط2,بيروت, دار الفكر اللبناني,, ,1993, ص106.
ذلك أنّ ” العقل الانساني لا يخرج من الظلمة الى النور ,الاّ باشراق حكمة الله عليه.”(1)
ويسعى التأمّل السيناوي لأن يكون قوةً قدسيّة:”ولعلّك تشتهي زيادة دلالة على القوة القدسية,وامكان وجودها,فاسمع ألست تعلم أنّ للحدس وجوداً,وأن للانسان فيه مراتب,وفي الفكرة,فمنهم غبي لا تعود عليه الفكرة بزيادة,ومنهم من له فطانة,الىحدٍ ما,ويتمتع بالفكر,ومنهم من هو أثقف من ذلك وله اصابة بالمعقولات…”(2)
مع الاشارة الى أنّ الحدس عند ابن رشد اتخذ اسم الاعتبار عند الشارح الأكبر لفكر أرسطو “ابن رشد”,وعرّفه بأنّه “استنباط المعلوم من المجهول ,وأتم أنواع القياس…”(3)
واستناداً الى ذلك ,فانّ” فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصّانع.”(4)
اذاً,انّ ما نصل اليه بحدسنا لا يأخذ زمناً,والفكرة الحدسية لا تحوي في ذاتها الاّ ما يبدو بجلاء لتأمّل عقولنا,نفهم عبره الحقائق في زمانٍ واحد لا على التعاقب.
__________________________
(1)و(2) ابن سينا, الاشارات والتنبيهات,ج4,تحقيق سليمان دنيا,القاهرة,دار المعارف,(لا,ت),ص 127.
(3)و(4) ابن رشد,فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال,تحقيق سميح دغيم,بيروت,دار الفكر اللبناني, (لا,ت),ص 35.
9
ثالثاً:أهمية الحدس.
ويجب أن لا نغفل بأنّ الحدس يلعب دوراً مهماً في سياق الكشف العلمي كما الفلسفي ,بل انّ من العلماء مثل أيناشتين من يجعل للحدس دور الصّدارة في الكشف العلمي,فكثيراً ما تأتي الأفكار للعالِم وهولا يفكّر في أي شيء فتزّوده بفكرةٍ جديدة وأصيلة تكشف عن نظرية جديدة.
ويصوّر لنا هنري بوانكاريه “الفيلسوف الرياضي” هذه الفكرة قائلاً:” …وذات يوم بينما كنت أسير فوق الهضبة جاءتني الفكرة المتميزة بسمات التركيز,والمفاجأة ,واليقين الفوري بأنّ التحويلات العددية الخاصة بالمعادلات التربيعية المحدودة ذات المتغيرات الثلاثة هي نفس التحويلات الخاصة بالهندسة اللااقليدية.”(1)
وبوا نكاريه الذي اعتبر الحدس بأنه :” الحكم السريع المؤكّد,أو التنبؤ الغريزي بالوقائع والعلاقات المجرّدة…”(2)
اذاً,انّ الفكرة التي طرأت على ذهن بوانكاريه انّما هي من قبيل الحدس الكشفي لأنّها طرأت عليه فجأة وهو متوقف عن بحث الموضوع الذي كان منشغلاً به.
كما أنّ الفكرة التي ترِد للعالم بصورة مفاجأة وفي ومضة كالبرق الخاطف,كما وصفها العالِم “كلود برنار” “شعاعٌ من نور يجعل الفكرة الجديدة تبدو بسرعة البرق”(3).
_________________
(1)و(2) منير البعلبكي,موسوعة المورد العربية,ط 29,بيروت,دار العلم للملايين,1995,ص 125.
(3)Claude Bernard,introduction a’ l’etude de la me’decine expe’rimentale,Librairie La grave,1920,p 357.
10
اذاً, يكرّس الحدس عامل التركيز والتخلّص من التشتت الى تأهّب الذّهن لكل ماهو جديد,اذ قد يحدث الحدس أثناء فترة الراحة,أو التخلّي عن المشكلة مؤقتاً.
هذا الحدس الذي يؤدي بالعقل الى التخلّص من عادات التفكير المقيّد الذي ينبغي استبعاده في سبيل الكشف عن الجديد.
فكثيراً ما يندفع حلٌ من الحلول أمام أذهاننا فجأةً,هو الحل الحدسي لأي مشكلة,هذا الحدس الذي يثير نشاط العقل ليصوّر كل الاقتراحات ازاء الموضوع ,ومعنى هذا أن يحلٌّ العقل في آفاقه ليتصوّر الاحتمالات,لّأنّ الوقائع في ذاتها ميتة جامدة,والعقل هو الذي يهبها الحياة.
فقد انتقل نيوتن بحدسه من تفاحة ساقطة الى قمرٍ ساقط,والذي جعله يتوصّل الى فرض الجاذبية ,حيث ربط في قانونٍ واحد حركة الأجسام السّاقطة على الأرض,وحركة الكواكب في السّماء ,كما أنّ خيال دالتون جعله يشيد النظرية الذّرية.
وها هو برغسون يدعو الى اطلاق العنان للحدس , ويدعو الى عدم التقيّد بأساليب العلم الواقعي المقررة,لأنّه كان يراها أضيق من أن تتسع لكل الحقائق.
ويعتبر محي الدّين ابن عربي(1240م) في السّياق عينه بأن:”العلم الصحيح لا يعطيه الفكر ,ولا ماقرره العقلاء من حيث أفكارهم …وانّما ما يقذفه الله في الصّدر,وهو نور الهي يختص الله به من شاء من عباده..”(1)
_______________________
(1) ابن عربي, الفتوحات المكية,(مصدر سابق),ص 50.
11
اذاً,فالحدس هو فعل بصير مستنير يحقّقه عقل ناضج واعٍ امتلك زمام نفسه ضدّ الاجترار اللاشعوري,هذا الحدس الذي لا يكون اختياراً الا اذا استهوى الارادة والشعور للوصول الى مرحلة الوعي بالذّات,فهو ايتوس الفكر الذي يقدّم الحدود لبناء ممكن للتصورات,اذ يعمل هذا الحدس على تقليص الهوّة بين الميتافيزيقا والامبيريقا دون اغفال النسبة بين الاختلافات الحدسية.
لقد أثبت ابن سينا وجود النفس بالحدس,وخلق ديكارت مخلوقه(الكوجيتو) في عالم الحدس العقلي,وعزف برغسون عبر الحدس سمفونية الحياة الحالمة,حيث لا أحد يستطيع تحديد كنهها…
وهنا نتساءل: هل في مقدور الذّكاء أن ينتج أي عمل دون تدخّل الحدس,أي الجهد التكنيكي technique)) الذي يقوم في تنظيم المادة الخام للفكر؟..
12
خاتمة:
وخلاصة القول نقول بأنّ الحدس يعكس صورة النفس الصافية المجرّدة من اللاتجانس الفكري,فكما الحُب هو مرأى وجه السّعادة,فالحدس هو مرأى وجه المعرفة الذي يكفّن الجهل ,ولا نملّ السّكرة فيه حتى ونحن في أوج يقظتنا. وفي وسعنا أن نتحدّث عن عالمٍ من الحدوس شبيه بعالم المثل(الصور) عند أفلاطون ,وخاصيّته أنّه هو ما هو شيء في ذاته,ومن دون تصوّر وجود مفارِق خاص
اذاً,فالحدس هو مقياس الاستحقاق المعرفي ,والرغبة المخلصة لليقين ,والمنبثقة عن نفسٍ تشدّ أزرها بعدم الاكتراث لِمًا عدا العكس.
يستحيل هذا الحدس ملكةً من ملكات النفس التي تكافح الآلام حتى تستنفد قوى الفكر بذاتها لأنها فوق كلّ شيء.
فالله هو”النور اللامخلوق”بحسب الأسفار المقدّسة ,بينما الحدس هو النور المخلوق الذي يخفي ظلمات الجهل ,ويجعلها في الغفلة,وحينئذٍ تصبح النفس قابلة للكمال ,”فالنفس غنية بحكمتها”(1). ولأن الارادة في الانسان هي ملكة تريد,لذا فحب المعرفة هو حركتها الأولى,ونزوعها لانفعال حدسها,ذاك الانفجار اللاشعوري الفريد الذي يحدث في الحياة الشعورية.
وهكذا,تبدو الحدوس الفلسفية المتباينة هرمنوطيقا ويكمن في دفق أشيائها الغائبة ظهور اللحظات الدائمة.
_______________
(1) جبران خليل جبران,دمعة وابتسامة,(مصدر سابق),ص 77.
1
الحدس الفلسفي.
philosophical intuition
بقلم الدكتورة:بهية أحمد الطشم.
تقديم:
اذا كان المنطق هو اتفاق الفكر مع الواقع,ومع نفسه,فالحدس هو منطق الفلسفة الذي يعكس انسجام النفس مع نفسها وفلسفتها في أورغانون معرفيّ يسعى الى ادراك ما يتوق اليه.
ها هنا معبد الفلسفة (الحدس),وها هنا ميلادها,وميلاد العقل الذي كان به الانسان الاعلى. انفضّت به أسرار الكون,واستشرف العقل الى عين الوجود.
فالفلسفة كما يعتبرها الفيلسوف الوجودي هايدغر:”رسالة تحمل نداء الكينونة الصادر عن الكائن…”(1)
ذلك أنّ الحدس هو نفس وجوده,لأنّ وجوده هو عين انوجاده, تماماً كما الحياة مستمدة بالانوجاد.
ونستحضر-هنا- بعض الأقوال عن الفلسفة نفسها – ابنة الحدس- حيث لاغنى لعقولنا عن مقاربة أبعادها في صناعة الحدوس المتنوعة:
يقول روجر بيكون (1294م)في هذا الصّدد :” الفلسفة هي منتوج الاشراق الرّباني على العقل البشري.”
(1) علي زيعور,الفلسفة في اوروبا الوسيطة وعصري النهضة والاصلاح,ط1,بيروت,المكتبة العالمية للطباعة والنشر,2000م,ص 105.
2
ويعتبر سقراط ) 9 39ق.م )في محاورة مينون ضمن الاطار عينه:” ان الأسئلة هي التي توقظ الظنون الصادقة النائمة”(1),ويتقاطع ذلك مع ما قاله الفيلسوف( الوجودي) كارل ياسبرز:”انّ الأسئلة في الفلسفة هي أكثر جوهرية من الأجوبة…”(2)
حيث يرى كارل ياسبرز في كتابه “مدخل الى الفلسفة”بأنّ” التأمّل الفلسفي ينبع من صميم الانسان,ويتفجّر في احتكاكه مع الأشياء.. .”(3),”فالانسان انسان بما يفعل ويفكّر”.(4)
يمكن القول ازاء ذلك ,بأنّ الحدس يفعل فعله في ارساء الشعور بالمعرفة,وتحويل الأشياء عن مجراها في أعماق وعينا ولاوعينا ,كونه مفارقةً تضفي دائمًا أثرها الاستثنائي في تمزيق الشعور الانحطاطي للجهل.
فمن لا يملك حدساً فلسفياً يركن خارج المساهمة في رسم معالم الفلسفة,ويفقد بهذا المعنى الحسّ بالزمان والشعور بدلالاته الوجودية الحياتية, ولعلّ المحرّك الأساسي في كل ذلك هو الفكر الرّاقي الذي يكرّس من حيث لا يدري امكانية النظر لآفاق.
اذاً,يقع مركز الجاذبية للفلسفة عموماً في ميدان الحدس,بيد أنّ تصوّر الحدس يرتدي دلالات عدّة عند كل فيلسوف,فالحوار بين والأنا والأنا هو الفصل الذي يحيل الى ما بعد… الى أبعد… الى الفكر عموماً.
___________________________
(1) مهدي فضل الله,بدايات التفلسف الانساني,ط1, بيروت,دار الطليعة,بيروت,1994,ص 9.
(2) المصدر نفسه,الصفحة نفسها.
(3)و(4) توفيق الطويل,أسس الفلسفة,ط6,القاهرة,دار النهضة العربية,1976,ص 77.
3
على أنّ الاختلافات بين الفلاسفة حيال الحدس لا تطرحنا في بحرٍ لجي غير ذي ساحل,أو الى أغوار ليست بذات قرار,لأنّنا نأخذ أبرز الحدوس في المجمل الفكري والثقافي للسياق الانتاجي,وكأصحاب منحى شمّال, وضمن نظرةٍ أجمعية.
وبايجاز لا يخلو من الاسهاب,آثرنا التوقف عند أهم التعريفات النخبوية لأبرز الفلاسفة ازاء الحدس كي لا يتسلل التكرار اليها,ولكي نحاول الاجابة عن السؤال الأكبر: الى أي مدى تلتقي الميتافيزيقا بالواقع من خلال الحدس؟
أولاً: في حرفية التعريف الاتيمولوجي للحدس:
– الفرنسية: intuition , اللاتينية: intuition ,وكذلك في الانكليزية: intuition.
والحدس في اللغة:”الظن والتخمين,النظر الخفي,الحدس الذي اصطلح عليه الفلاسفة القدماء,مأخوذ من معنى السرعة في السير”.(1)
– وفي التعريف العام:mode de connaissance immediate,saisissant directememt sans intermediaire un objet de pense’e ou une realite’.( 2)
Intuition:the power faculty of knowing things without conscious reasoning(3).
___________________________________
(1) جميل صليبا,المعجم الفلسفي,بيروت,دار الكتاب العربي,مج1,ص25.
(2) De philosophie,Bordas,Paris,1991 page150. Jacqueline Russ,Agre,ge’e
(3) Merriam-webster, the New Dictionnary,America’s paper Dictionnary, librairie du liban publishers,Beirut,1993,p390.
4
ثانياً: أبرز حدوس الفلاسفة:
اعتبر ابن سينا (428 للهجرة)في كتابه “النجاة”بأنّ الحدس:”هو حركة الى اصابة الحد الأوسط اذ وضع المطلوب,أو اصابة الحد الأكبر اذا أصيب الأوسط,وبالجملة سرعة الانتقال من المعلوم الى المجهول…”(1)
هذا الحدس الذي هو امكانية أن يكون ما يشاء,فوق ذلك هوقدرة على تحقيق فعلي لتلك الامكانية.
ولعلّ هذا ما يفسّر قول برتراند راسل (1970م) :”ان تكن على يقين,فأنت دون شك على ضلال,لأنّ لا شيء يقيني,ويجب أن يظل دائماً مجال لبعض الشك في اعتقاداتنا,وأن نعمل بعزم رغم هذا الشك.”(2)
وفي السّياق عينه, يقول أبو العلاء المعري(شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء):
“أمّا اليقين,فلا يقين ,انّما
أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا”(3)
على أن فكرة الحدس الفلسفي مُغرية لدرجة أنّها غذّت وتغذّي مثال الامتلاك العام لكلّ نموذجٍ للمعرفة من خلال التمكّن من لغة معيارية ذات ضوابط Langue Norme’e.
_______________________
(1) جميل صليبا,المعجم الفلسفي,(مصدر سابق),ص 30.
(2) مهدي فضل الله,بدايات التفلسف الانساني,(مصدر سابق),ص33.
(3)المصدر نفسه,الصفحة نفسها.
5
يمكننا القول,بأنّ الحدس هو فضيلة نسبية في جوهر الانسان المفكّر,انّه الشعور الانفعالي المصاحب لامتلاك المعرفة ,أو الدافع الأهم كي ينال الانسان المعرفة,هنالك يشعر بوحدته مع الذات التي تحارب التشتت النفسي,ما استدعى حشد الخاطر.
انّه المبدأ الذي استخرج منه كل فيلسوف خلاصة أفكاره,اذ يبدأ الحدس بمعرفة الذّات أولاً ,ومن ثمّ تكون معرفة الموضوعات الأخرى آيلة الى هذه الذّأت.
لقد أسمى ديكارت (1650م )هذا الحدس “نوراً طبيعياً”,أو غريزةً عقلية تكتسب عبرها معارف كافية للبرهنة على قضايا كثيرة, لأن” الله قد وهب كل واحد منّا نوراً يميّز به الحق من الباطل…”(1)
ويقول عرّاب الحدس العقلي في السّياق عينه:”أنا لا أقصد بالحدس شهادة الحواس المتغيرة,ولا الحكم الخادع لخيال فاسد المباني,انّما أقصد به التصوّر الذي يقوم في ذهنٍ خالص منتبه لدرجة من السهولة والتميز لا يبقى معها مجال للريب,أي التصور الذي يصدر عنه نور العقل وحده.”(2)
ولعلّ برغسون ( (1941هو أهم فيلسوف عظّم الحدس كشعورٍ حُرٍ يتضّمن الأفكار الصامتة ,والتي لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ ,ف”الحدس هو التعاطف العقلي الذي ينقلنا الى باطن الشيء,ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة,والتي لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ”.(3), وهو أيضاً” عرفان من نوع خاص ,شبيه بعرفان الغريزة بخلاف المعرفة الاستدلالية والتحليلية التي لا تطلعنا الاّ على ظواهر الأشياء…”(4)
____________________
(1)ديكارت,مقالة الطريقة,ترجمة جميل صليبا,اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع,بيروت,,ص106, 1970.
(2) المصدر السّابق نفسه,ص108.
(3) و(4) قاسم أمين,الأعمال الكاملة,تحقيق محمد عمارة,ج1,بيروت,المؤسسة العربية للدراسات والنشر,1976,ص 184.
6
ويركّز برغسون على فكرة بارزة:وهي “أنّه كلّ ما أراد الانسان أن يعبّر عن احساس حقيقي,رأى بعد طول الجهد وكثرة الكلام أنّه قال شيئاً عادياً,أقل ممّا ينتظر,ووجد أنّ أحسن ما فيه بقي مختفياً.” (1)
ويتطابق هذا مع ما قاله جبران خليل جبران في دمعته وابتسامته:” انّ للفكرة وطناً أسمى من عالم المرئيات,وانّ للتخيلات رسوماً كائنة في سماء الآلهة تنعكس على مرآة النفس…”(2)
لقد أسمى هيغل(1831م) هذا الحدس الوعي بالذّات,فالوعي بالذّات يخرج على الكينونة الجامدة غير المنفصلة عن ذاتها…ليصير وعياً خالصاً بالذّات, فهو “حركة داخلية لا تشوبها أي شيئية,كما يخرج أيضاً على الانغماس في الحياة,والاستسلام لها,اي الحيوانية الخالصة…”(3)
اذاً ,يتبلور ذلك بقوة من خلال المؤالفة بين البعدين العقلاني والواقعي,ف “ادراك الحياة ,تلك هي المهمة”.(4)
وما “التاريخ الاّ التطور الضروري للحظات العقل,ونتيجة ذلك الوعي بالذات…وحرية الفكر”(5).
____________________________
(1) المصدر السابق نفسه,ص185.
(2) جبران خليل جبران,دمعة وابتسامة,ط3,بيروت,دار الابداع ,,2001ص 70.
(3),(4)و(5)Hegel,la raison dans l’hisyoire,Introduction a’ la phiosophie de l’histoire,traduction Giblin,Paris,vrin,1963,page 20.
7
ثانياً: أبرز حدوس الفلاسفة:
اعتبر ابن سينا (428 للهجرة)في كتابه “النجاة”بأنّ الحدس:”هو حركة الى اصابة الحد الأوسط اذ وضع المطلوب,أو اصابة الحد الأكبر اذا أصيب الأوسط,وبالجملة سرعة الانتقال من المعلوم الى المجهول…”(1)
هذا الحدس الذي هو امكانية أن يكون ما يشاء,فوق ذلك هوقدرة على تحقيق فعلي لتلك الامكانية.
ولعلّ هذا ما يفسّر قول برتراند راسل (1970م) :”ان تكن على يقين,فأنت دون شك على ضلال,لأنّ لا شيء يقيني,ويجب أن يظل دائماً مجال لبعض الشك في اعتقاداتنا,وأن نعمل بعزم رغم هذا الشك.”(2)
وفي السّياق عينه, يقول أبو العلاء المعري(شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء):
“أمّا اليقين,فلا يقين ,انّما
أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا”(3)
على أن فكرة الحدس الفلسفي مُغرية لدرجة أنّها غذّت وتغذّي مثال الامتلاك العام لكلّ نموذجٍ للمعرفة من خلال التمكّن من لغة معيارية ذات ضوابط Langue Norme’e.
_______________________
(1) جميل صليبا,المعجم الفلسفي,(مصدر سابق),ص 30.
(2) مهدي فضل الله,بدايات التفلسف الانساني,(مصدر سابق),ص33.
(3)المصدر نفسه,الصفحة نفسها.
5
يمكننا القول,بأنّ الحدس هو فضيلة نسبية في جوهر الانسان المفكّر,انّه الشعور الانفعالي المصاحب لامتلاك المعرفة ,أو الدافع الأهم كي ينال الانسان المعرفة,هنالك يشعر بوحدته مع الذات التي تحارب التشتت النفسي,ما استدعى حشد الخاطر.
انّه المبدأ الذي استخرج منه كل فيلسوف خلاصة أفكاره,اذ يبدأ الحدس بمعرفة الذّات أولاً ,ومن ثمّ تكون معرفة الموضوعات الأخرى آيلة الى هذه الذّأت.
لقد أسمى ديكارت (1650م )هذا الحدس “نوراً طبيعياً”,أو غريزةً عقلية تكتسب عبرها معارف كافية للبرهنة على قضايا كثيرة, لأن” الله قد وهب كل واحد منّا نوراً يميّز به الحق من الباطل…”(1)
ويقول عرّاب الحدس العقلي في السّياق عينه:”أنا لا أقصد بالحدس شهادة الحواس المتغيرة,ولا الحكم الخادع لخيال فاسد المباني,انّما أقصد به التصوّر الذي يقوم في ذهنٍ خالص منتبه لدرجة من السهولة والتميز لا يبقى معها مجال للريب,أي التصور الذي يصدر عنه نور العقل وحده.”(2)
ولعلّ برغسون ( (1941هو أهم فيلسوف عظّم الحدس كشعورٍ حُرٍ يتضّمن الأفكار الصامتة ,والتي لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ ,ف”الحدس هو التعاطف العقلي الذي ينقلنا الى باطن الشيء,ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة,والتي لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ”.(3), وهو أيضاً” عرفان من نوع خاص ,شبيه بعرفان الغريزة بخلاف المعرفة الاستدلالية والتحليلية التي لا تطلعنا الاّ على ظواهر الأشياء…”(4)
____________________
(1)ديكارت,مقالة الطريقة,ترجمة جميل صليبا,اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع,بيروت,,ص106, 1970.
(2) المصدر السّابق نفسه,ص108.
(3) و(4) قاسم أمين,الأعمال الكاملة,تحقيق محمد عمارة,ج1,بيروت,المؤسسة العربية للدراسات والنشر,1976,ص 184.
6
ويركّز برغسون على فكرة بارزة:وهي “أنّه كلّ ما أراد الانسان أن يعبّر عن احساس حقيقي,رأى بعد طول الجهد وكثرة الكلام أنّه قال شيئاً عادياً,أقل ممّا ينتظر,ووجد أنّ أحسن ما فيه بقي مختفياً.” (1)
ويتطابق هذا مع ما قاله جبران خليل جبران في دمعته وابتسامته:” انّ للفكرة وطناً أسمى من عالم المرئيات,وانّ للتخيلات رسوماً كائنة في سماء الآلهة تنعكس على مرآة النفس…”(2)
لقد أسمى هيغل(1831م) هذا الحدس الوعي بالذّات,فالوعي بالذّات يخرج على الكينونة الجامدة غير المنفصلة عن ذاتها…ليصير وعياً خالصاً بالذّات, فهو “حركة داخلية لا تشوبها أي شيئية,كما يخرج أيضاً على الانغماس في الحياة,والاستسلام لها,اي الحيوانية الخالصة…”(3)
اذاً ,يتبلور ذلك بقوة من خلال المؤالفة بين البعدين العقلاني والواقعي,ف “ادراك الحياة ,تلك هي المهمة”.(4)
وما “التاريخ الاّ التطور الضروري للحظات العقل,ونتيجة ذلك الوعي بالذات…وحرية الفكر”(5).
____________________________
(1) المصدر السابق نفسه,ص185.
(2) جبران خليل جبران,دمعة وابتسامة,ط3,بيروت,دار الابداع ,,2001ص 70.
(3),(4)و(5)Hegel,la raison dans l’hisyoire,Introduction a’ la phiosophie de l’histoire,traduction Giblin,Paris,vrin,1963,page 20.
7
وللحدس تعريف شعوري عند ابن عربي:”فهو تذّوق العقيدة عن طريق القلب”(1), ذلك أنّ “الجهل يضادّ بالدّين”.(2)
“أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وايماني”(3)
وقد خصّ الغزالي(505 للهجرة) في كتابه (المنقذ من الضلال) أهل الصوفية بالحدس معبّراً عن ذلك:” وقد علمت يقيناً أنّ الصوفية هم السّالكون لطريق الله تعالى خاصةً أنّ سيرتهم أحسن السّير ,وطريقهم أصوب الطرق,وأخلاقهم أزكى الأخلاق…فانّ جميع حركاتهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة…” (4)
اذاً,يتحول الحدس عند عشّاق الفناء بالله شعوراً شمولياً ابتداءً من تحويل الاحساس المكفهّر الى آخر لا يبخل في احتضان كل شيء,اذ هوالأعظم الذي أوجد الشغف بالله(العظيم) ,والعَظَمَة في كونه تدرّج من انطباع ايماني بسيط الى شوق لا يملّ أن يكون حدساً باسقاً نحو صانع العالم.
مع الاشارة الى أنّ أفكار الغزالي جاءت منسجمة مع أفكار ابن سينا الى درجة التخاطر ,ما جذب انتباه عقولنا الى ملاحظة توافق النور الالهي الذي قذفه الله في الصّدرعند الغزالي مع اشراق نور العقل القدسيّ عند ابن سينا,والنور الالهي عند ابن عربي,اذ اجتمعت هذه المفاهيم تحت لواء الحدس كسبب ونتيجة لما قد نسميه وحياً,الهاماً ويقيناً.
____________________
(1),(2) ابن عربي,الفتوحات المكيّة,ج1,بيروت,دار صادر,(لا,ت),ص 47.
(3) ابن عربي,ترجمان الأشواق,1321للهجرة,ص 40.
(4) الغزالي,المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال,تحقيق سميح دغيم,ط2,بيروت, دار الفكر اللبناني,, ,1993, ص106.
ذلك أنّ ” العقل الانساني لا يخرج من الظلمة الى النور ,الاّ باشراق حكمة الله عليه.”(1)
ويسعى التأمّل السيناوي لأن يكون قوةً قدسيّة:”ولعلّك تشتهي زيادة دلالة على القوة القدسية,وامكان وجودها,فاسمع ألست تعلم أنّ للحدس وجوداً,وأن للانسان فيه مراتب,وفي الفكرة,فمنهم غبي لا تعود عليه الفكرة بزيادة,ومنهم من له فطانة,الىحدٍ ما,ويتمتع بالفكر,ومنهم من هو أثقف من ذلك وله اصابة بالمعقولات…”(2)
مع الاشارة الى أنّ الحدس عند ابن رشد اتخذ اسم الاعتبار عند الشارح الأكبر لفكر أرسطو “ابن رشد”,وعرّفه بأنّه “استنباط المعلوم من المجهول ,وأتم أنواع القياس…”(3)
واستناداً الى ذلك ,فانّ” فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصّانع.”(4)
اذاً,انّ ما نصل اليه بحدسنا لا يأخذ زمناً,والفكرة الحدسية لا تحوي في ذاتها الاّ ما يبدو بجلاء لتأمّل عقولنا,نفهم عبره الحقائق في زمانٍ واحد لا على التعاقب.
__________________________
(1)و(2) ابن سينا, الاشارات والتنبيهات,ج4,تحقيق سليمان دنيا,القاهرة,دار المعارف,(لا,ت),ص 127.
(3)و(4) ابن رشد,فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال,تحقيق سميح دغيم,بيروت,دار الفكر اللبناني, (لا,ت),ص 35.
9
ثالثاً:أهمية الحدس.
ويجب أن لا نغفل بأنّ الحدس يلعب دوراً مهماً في سياق الكشف العلمي كما الفلسفي ,بل انّ من العلماء مثل أيناشتين من يجعل للحدس دور الصّدارة في الكشف العلمي,فكثيراً ما تأتي الأفكار للعالِم وهولا يفكّر في أي شيء فتزّوده بفكرةٍ جديدة وأصيلة تكشف عن نظرية جديدة.
ويصوّر لنا هنري بوانكاريه “الفيلسوف الرياضي” هذه الفكرة قائلاً:” …وذات يوم بينما كنت أسير فوق الهضبة جاءتني الفكرة المتميزة بسمات التركيز,والمفاجأة ,واليقين الفوري بأنّ التحويلات العددية الخاصة بالمعادلات التربيعية المحدودة ذات المتغيرات الثلاثة هي نفس التحويلات الخاصة بالهندسة اللااقليدية.”(1)
وبوا نكاريه الذي اعتبر الحدس بأنه :” الحكم السريع المؤكّد,أو التنبؤ الغريزي بالوقائع والعلاقات المجرّدة…”(2)
اذاً,انّ الفكرة التي طرأت على ذهن بوانكاريه انّما هي من قبيل الحدس الكشفي لأنّها طرأت عليه فجأة وهو متوقف عن بحث الموضوع الذي كان منشغلاً به.
كما أنّ الفكرة التي ترِد للعالم بصورة مفاجأة وفي ومضة كالبرق الخاطف,كما وصفها العالِم “كلود برنار” “شعاعٌ من نور يجعل الفكرة الجديدة تبدو بسرعة البرق”(3).
_________________
(1)و(2) منير البعلبكي,موسوعة المورد العربية,ط 29,بيروت,دار العلم للملايين,1995,ص 125.
(3)Claude Bernard,introduction a’ l’etude de la me’decine expe’rimentale,Librairie La grave,1920,p 357.
10
اذاً, يكرّس الحدس عامل التركيز والتخلّص من التشتت الى تأهّب الذّهن لكل ماهو جديد,اذ قد يحدث الحدس أثناء فترة الراحة,أو التخلّي عن المشكلة مؤقتاً.
هذا الحدس الذي يؤدي بالعقل الى التخلّص من عادات التفكير المقيّد الذي ينبغي استبعاده في سبيل الكشف عن الجديد.
فكثيراً ما يندفع حلٌ من الحلول أمام أذهاننا فجأةً,هو الحل الحدسي لأي مشكلة,هذا الحدس الذي يثير نشاط العقل ليصوّر كل الاقتراحات ازاء الموضوع ,ومعنى هذا أن يحلٌّ العقل في آفاقه ليتصوّر الاحتمالات,لّأنّ الوقائع في ذاتها ميتة جامدة,والعقل هو الذي يهبها الحياة.
فقد انتقل نيوتن بحدسه من تفاحة ساقطة الى قمرٍ ساقط,والذي جعله يتوصّل الى فرض الجاذبية ,حيث ربط في قانونٍ واحد حركة الأجسام السّاقطة على الأرض,وحركة الكواكب في السّماء ,كما أنّ خيال دالتون جعله يشيد النظرية الذّرية.
وها هو برغسون يدعو الى اطلاق العنان للحدس , ويدعو الى عدم التقيّد بأساليب العلم الواقعي المقررة,لأنّه كان يراها أضيق من أن تتسع لكل الحقائق.
ويعتبر محي الدّين ابن عربي(1240م) في السّياق عينه بأن:”العلم الصحيح لا يعطيه الفكر ,ولا ماقرره العقلاء من حيث أفكارهم …وانّما ما يقذفه الله في الصّدر,وهو نور الهي يختص الله به من شاء من عباده..”(1)
_______________________
(1) ابن عربي, الفتوحات المكية,(مصدر سابق),ص 50.
11
اذاً,فالحدس هو فعل بصير مستنير يحقّقه عقل ناضج واعٍ امتلك زمام نفسه ضدّ الاجترار اللاشعوري,هذا الحدس الذي لا يكون اختياراً الا اذا استهوى الارادة والشعور للوصول الى مرحلة الوعي بالذّات,فهو ايتوس الفكر الذي يقدّم الحدود لبناء ممكن للتصورات,اذ يعمل هذا الحدس على تقليص الهوّة بين الميتافيزيقا والامبيريقا دون اغفال النسبة بين الاختلافات الحدسية.
لقد أثبت ابن سينا وجود النفس بالحدس,وخلق ديكارت مخلوقه(الكوجيتو) في عالم الحدس العقلي,وعزف برغسون عبر الحدس سمفونية الحياة الحالمة,حيث لا أحد يستطيع تحديد كنهها…
وهنا نتساءل: هل في مقدور الذّكاء أن ينتج أي عمل دون تدخّل الحدس,أي الجهد التكنيكي technique)) الذي يقوم في تنظيم المادة الخام للفكر؟..
12
خاتمة:
وخلاصة القول نقول بأنّ الحدس يعكس صورة النفس الصافية المجرّدة من اللاتجانس الفكري,فكما الحُب هو مرأى وجه السّعادة,فالحدس هو مرأى وجه المعرفة الذي يكفّن الجهل ,ولا نملّ السّكرة فيه حتى ونحن في أوج يقظتنا. وفي وسعنا أن نتحدّث عن عالمٍ من الحدوس شبيه بعالم المثل(الصور) عند أفلاطون ,وخاصيّته أنّه هو ما هو شيء في ذاته,ومن دون تصوّر وجود مفارِق خاص
اذاً,فالحدس هو مقياس الاستحقاق المعرفي ,والرغبة المخلصة لليقين ,والمنبثقة عن نفسٍ تشدّ أزرها بعدم الاكتراث لِمًا عدا العكس.
يستحيل هذا الحدس ملكةً من ملكات النفس التي تكافح الآلام حتى تستنفد قوى الفكر بذاتها لأنها فوق كلّ شيء.
فالله هو”النور اللامخلوق”بحسب الأسفار المقدّسة ,بينما الحدس هو النور المخلوق الذي يخفي ظلمات الجهل ,ويجعلها في الغفلة,وحينئذٍ تصبح النفس قابلة للكمال ,”فالنفس غنية بحكمتها”(1). ولأن الارادة في الانسان هي ملكة تريد,لذا فحب المعرفة هو حركتها الأولى,ونزوعها لانفعال حدسها,ذاك الانفجار اللاشعوري الفريد الذي يحدث في الحياة الشعورية.
وهكذا,تبدو الحدوس الفلسفية المتباينة هرمنوطيقا ويكمن في دفق أشيائها الغائبة ظهور اللحظات الدائمة.
_______________
(1) جبران خليل جبران,دمعة وابتسامة,(مصدر سابق),ص 77.
1
الحدس الفلسفي.
philosophical intuition
بقلم الدكتورة:بهية أحمد الطشم.
تقديم:
اذا كان المنطق هو اتفاق الفكر مع الواقع,ومع نفسه,فالحدس هو منطق الفلسفة الذي يعكس انسجام النفس مع نفسها وفلسفتها في أورغانون معرفيّ يسعى الى ادراك ما يتوق اليه.
ها هنا معبد الفلسفة (الحدس),وها هنا ميلادها,وميلاد العقل الذي كان به الانسان الاعلى. انفضّت به أسرار الكون,واستشرف العقل الى عين الوجود.
فالفلسفة كما يعتبرها الفيلسوف الوجودي هايدغر:”رسالة تحمل نداء الكينونة الصادر عن الكائن…”(1)
ذلك أنّ الحدس هو نفس وجوده,لأنّ وجوده هو عين انوجاده, تماماً كما الحياة مستمدة بالانوجاد.
ونستحضر-هنا- بعض الأقوال عن الفلسفة نفسها – ابنة الحدس- حيث لاغنى لعقولنا عن مقاربة أبعادها في صناعة الحدوس المتنوعة:
يقول روجر بيكون (1294م)في هذا الصّدد :” الفلسفة هي منتوج الاشراق الرّباني على العقل البشري.”
(1) علي زيعور,الفلسفة في اوروبا الوسيطة وعصري النهضة والاصلاح,ط1,بيروت,المكتبة العالمية للطباعة والنشر,2000م,ص 105.
2
ويعتبر سقراط ) 9 39ق.م )في محاورة مينون ضمن الاطار عينه:” ان الأسئلة هي التي توقظ الظنون الصادقة النائمة”(1),ويتقاطع ذلك مع ما قاله الفيلسوف( الوجودي) كارل ياسبرز:”انّ الأسئلة في الفلسفة هي أكثر جوهرية من الأجوبة…”(2)
حيث يرى كارل ياسبرز في كتابه “مدخل الى الفلسفة”بأنّ” التأمّل الفلسفي ينبع من صميم الانسان,ويتفجّر في احتكاكه مع الأشياء.. .”(3),”فالانسان انسان بما يفعل ويفكّر”.(4)
يمكن القول ازاء ذلك ,بأنّ الحدس يفعل فعله في ارساء الشعور بالمعرفة,وتحويل الأشياء عن مجراها في أعماق وعينا ولاوعينا ,كونه مفارقةً تضفي دائمًا أثرها الاستثنائي في تمزيق الشعور الانحطاطي للجهل.
فمن لا يملك حدساً فلسفياً يركن خارج المساهمة في رسم معالم الفلسفة,ويفقد بهذا المعنى الحسّ بالزمان والشعور بدلالاته الوجودية الحياتية, ولعلّ المحرّك الأساسي في كل ذلك هو الفكر الرّاقي الذي يكرّس من حيث لا يدري امكانية النظر لآفاق.
اذاً,يقع مركز الجاذبية للفلسفة عموماً في ميدان الحدس,بيد أنّ تصوّر الحدس يرتدي دلالات عدّة عند كل فيلسوف,فالحوار بين والأنا والأنا هو الفصل الذي يحيل الى ما بعد… الى أبعد… الى الفكر عموماً.
___________________________
(1) مهدي فضل الله,بدايات التفلسف الانساني,ط1, بيروت,دار الطليعة,بيروت,1994,ص 9.
(2) المصدر نفسه,الصفحة نفسها.
(3)و(4) توفيق الطويل,أسس الفلسفة,ط6,القاهرة,دار النهضة العربية,1976,ص 77.
3
على أنّ الاختلافات بين الفلاسفة حيال الحدس لا تطرحنا في بحرٍ لجي غير ذي ساحل,أو الى أغوار ليست بذات قرار,لأنّنا نأخذ أبرز الحدوس في المجمل الفكري والثقافي للسياق الانتاجي,وكأصحاب منحى شمّال, وضمن نظرةٍ أجمعية.
وبايجاز لا يخلو من الاسهاب,آثرنا التوقف عند أهم التعريفات النخبوية لأبرز الفلاسفة ازاء الحدس كي لا يتسلل التكرار اليها,ولكي نحاول الاجابة عن السؤال الأكبر: الى أي مدى تلتقي الميتافيزيقا بالواقع من خلال الحدس؟
أولاً: في حرفية التعريف الاتيمولوجي للحدس:
– الفرنسية: intuition , اللاتينية: intuition ,وكذلك في الانكليزية: intuition.
والحدس في اللغة:”الظن والتخمين,النظر الخفي,الحدس الذي اصطلح عليه الفلاسفة القدماء,مأخوذ من معنى السرعة في السير”.(1)
– وفي التعريف العام:mode de connaissance immediate,saisissant directememt sans intermediaire un objet de pense’e ou une realite’.( 2)
Intuition:the power faculty of knowing things without conscious reasoning(3).
___________________________________
(1) جميل صليبا,المعجم الفلسفي,بيروت,دار الكتاب العربي,مج1,ص25.
(2) De philosophie,Bordas,Paris,1991 page150. Jacqueline Russ,Agre,ge’e
(3) Merriam-webster, the New Dictionnary,America’s paper Dictionnary, librairie du liban publishers,Beirut,1993,p390.
4
ثانياً: أبرز حدوس الفلاسفة:
اعتبر ابن سينا (428 للهجرة)في كتابه “النجاة”بأنّ الحدس:”هو حركة الى اصابة الحد الأوسط اذ وضع المطلوب,أو اصابة الحد الأكبر اذا أصيب الأوسط,وبالجملة سرعة الانتقال من المعلوم الى المجهول…”(1)
هذا الحدس الذي هو امكانية أن يكون ما يشاء,فوق ذلك هوقدرة على تحقيق فعلي لتلك الامكانية.
ولعلّ هذا ما يفسّر قول برتراند راسل (1970م) :”ان تكن على يقين,فأنت دون شك على ضلال,لأنّ لا شيء يقيني,ويجب أن يظل دائماً مجال لبعض الشك في اعتقاداتنا,وأن نعمل بعزم رغم هذا الشك.”(2)
وفي السّياق عينه, يقول أبو العلاء المعري(شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء):
“أمّا اليقين,فلا يقين ,انّما
أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا”(3)
على أن فكرة الحدس الفلسفي مُغرية لدرجة أنّها غذّت وتغذّي مثال الامتلاك العام لكلّ نموذجٍ للمعرفة من خلال التمكّن من لغة معيارية ذات ضوابط Langue Norme’e.
_______________________
(1) جميل صليبا,المعجم الفلسفي,(مصدر سابق),ص 30.
(2) مهدي فضل الله,بدايات التفلسف الانساني,(مصدر سابق),ص33.
(3)المصدر نفسه,الصفحة نفسها.
5
يمكننا القول,بأنّ الحدس هو فضيلة نسبية في جوهر الانسان المفكّر,انّه الشعور الانفعالي المصاحب لامتلاك المعرفة ,أو الدافع الأهم كي ينال الانسان المعرفة,هنالك يشعر بوحدته مع الذات التي تحارب التشتت النفسي,ما استدعى حشد الخاطر.
انّه المبدأ الذي استخرج منه كل فيلسوف خلاصة أفكاره,اذ يبدأ الحدس بمعرفة الذّات أولاً ,ومن ثمّ تكون معرفة الموضوعات الأخرى آيلة الى هذه الذّأت.
لقد أسمى ديكارت (1650م )هذا الحدس “نوراً طبيعياً”,أو غريزةً عقلية تكتسب عبرها معارف كافية للبرهنة على قضايا كثيرة, لأن” الله قد وهب كل واحد منّا نوراً يميّز به الحق من الباطل…”(1)
ويقول عرّاب الحدس العقلي في السّياق عينه:”أنا لا أقصد بالحدس شهادة الحواس المتغيرة,ولا الحكم الخادع لخيال فاسد المباني,انّما أقصد به التصوّر الذي يقوم في ذهنٍ خالص منتبه لدرجة من السهولة والتميز لا يبقى معها مجال للريب,أي التصور الذي يصدر عنه نور العقل وحده.”(2)
ولعلّ برغسون ( (1941هو أهم فيلسوف عظّم الحدس كشعورٍ حُرٍ يتضّمن الأفكار الصامتة ,والتي لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ ,ف”الحدس هو التعاطف العقلي الذي ينقلنا الى باطن الشيء,ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة,والتي لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ”.(3), وهو أيضاً” عرفان من نوع خاص ,شبيه بعرفان الغريزة بخلاف المعرفة الاستدلالية والتحليلية التي لا تطلعنا الاّ على ظواهر الأشياء…”(4)
____________________
(1)ديكارت,مقالة الطريقة,ترجمة جميل صليبا,اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع,بيروت,,ص106, 1970.
(2) المصدر السّابق نفسه,ص108.
(3) و(4) قاسم أمين,الأعمال الكاملة,تحقيق محمد عمارة,ج1,بيروت,المؤسسة العربية للدراسات والنشر,1976,ص 184.
6
ويركّز برغسون على فكرة بارزة:وهي “أنّه كلّ ما أراد الانسان أن يعبّر عن احساس حقيقي,رأى بعد طول الجهد وكثرة الكلام أنّه قال شيئاً عادياً,أقل ممّا ينتظر,ووجد أنّ أحسن ما فيه بقي مختفياً.” (1)
ويتطابق هذا مع ما قاله جبران خليل جبران في دمعته وابتسامته:” انّ للفكرة وطناً أسمى من عالم المرئيات,وانّ للتخيلات رسوماً كائنة في سماء الآلهة تنعكس على مرآة النفس…”(2)
لقد أسمى هيغل(1831م) هذا الحدس الوعي بالذّات,فالوعي بالذّات يخرج على الكينونة الجامدة غير المنفصلة عن ذاتها…ليصير وعياً خالصاً بالذّات, فهو “حركة داخلية لا تشوبها أي شيئية,كما يخرج أيضاً على الانغماس في الحياة,والاستسلام لها,اي الحيوانية الخالصة…”(3)
اذاً ,يتبلور ذلك بقوة من خلال المؤالفة بين البعدين العقلاني والواقعي,ف “ادراك الحياة ,تلك هي المهمة”.(4)
وما “التاريخ الاّ التطور الضروري للحظات العقل,ونتيجة ذلك الوعي بالذات…وحرية الفكر”(5).
____________________________
(1) المصدر السابق نفسه,ص185.
(2) جبران خليل جبران,دمعة وابتسامة,ط3,بيروت,دار الابداع ,,2001ص 70.
(3),(4)و(5)Hegel,la raison dans l’hisyoire,Introduction a’ la phiosophie de l’histoire,traduction Giblin,Paris,vrin,1963,page 20.
7
وللحدس تعريف شعوري عند ابن عربي:”فهو تذّوق العقيدة عن طريق القلب”(1), ذلك أنّ “الجهل يضادّ بالدّين”.(2)
“أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وايماني”(3)
وقد خصّ الغزالي(505 للهجرة) في كتابه (المنقذ من الضلال) أهل الصوفية بالحدس معبّراً عن ذلك:” وقد علمت يقيناً أنّ الصوفية هم السّالكون لطريق الله تعالى خاصةً أنّ سيرتهم أحسن السّير ,وطريقهم أصوب الطرق,وأخلاقهم أزكى الأخلاق…فانّ جميع حركاتهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة…” (4)
اذاً,يتحول الحدس عند عشّاق الفناء بالله شعوراً شمولياً ابتداءً من تحويل الاحساس المكفهّر الى آخر لا يبخل في احتضان كل شيء,اذ هوالأعظم الذي أوجد الشغف بالله(العظيم) ,والعَظَمَة في كونه تدرّج من انطباع ايماني بسيط الى شوق لا يملّ أن يكون حدساً باسقاً نحو صانع العالم.
مع الاشارة الى أنّ أفكار الغزالي جاءت منسجمة مع أفكار ابن سينا الى درجة التخاطر ,ما جذب انتباه عقولنا الى ملاحظة توافق النور الالهي الذي قذفه الله في الصّدرعند الغزالي مع اشراق نور العقل القدسيّ عند ابن سينا,والنور الالهي عند ابن عربي,اذ اجتمعت هذه المفاهيم تحت لواء الحدس كسبب ونتيجة لما قد نسميه وحياً,الهاماً ويقيناً.
____________________
(1),(2) ابن عربي,الفتوحات المكيّة,ج1,بيروت,دار صادر,(لا,ت),ص 47.
(3) ابن عربي,ترجمان الأشواق,1321للهجرة,ص 40.
(4) الغزالي,المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال,تحقيق سميح دغيم,ط2,بيروت, دار الفكر اللبناني,, ,1993, ص106.
8
ذلك أنّ ” العقل الانساني لا يخرج من الظلمة الى النور ,الاّ باشراق حكمة الله عليه.”(1)
ويسعى التأمّل السيناوي لأن يكون قوةً قدسيّة:”ولعلّك تشتهي زيادة دلالة على القوة القدسية,وامكان وجودها,فاسمع ألست تعلم أنّ للحدس وجوداً,وأن للانسان فيه مراتب,وفي الفكرة,فمنهم غبي لا تعود عليه الفكرة بزيادة,ومنهم من له فطانة,الىحدٍ ما,ويتمتع بالفكر,ومنهم من هو أثقف من ذلك وله اصابة بالمعقولات…”(2)
مع الاشارة الى أنّ الحدس عند ابن رشد اتخذ اسم الاعتبار عند الشارح الأكبر لفكر أرسطو “ابن رشد”,وعرّفه بأنّه “استنباط المعلوم من المجهول ,وأتم أنواع القياس…”(3)
واستناداً الى ذلك ,فانّ” فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصّانع.”(4)
اذاً,انّ ما نصل اليه بحدسنا لا يأخذ زمناً,والفكرة الحدسية لا تحوي في ذاتها الاّ ما يبدو بجلاء لتأمّل عقولنا,نفهم عبره الحقائق في زمانٍ واحد لا على التعاقب.
__________________________
(1)و(2) ابن سينا, الاشارات والتنبيهات,ج4,تحقيق سليمان دنيا,القاهرة,دار المعارف,(لا,ت),ص 127.
(3)و(4) ابن رشد,فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال,تحقيق سميح دغيم,بيروت,دار الفكر اللبناني, (لا,ت),ص 35.
9
ثالثاً:أهمية الحدس.
ويجب أن لا نغفل بأنّ الحدس يلعب دوراً مهماً في سياق الكشف العلمي كما الفلسفي ,بل انّ من العلماء مثل أيناشتين من يجعل للحدس دور الصّدارة في الكشف العلمي,فكثيراً ما تأتي الأفكار للعالِم وهولا يفكّر في أي شيء فتزّوده بفكرةٍ جديدة وأصيلة تكشف عن نظرية جديدة.
ويصوّر لنا هنري بوانكاريه “الفيلسوف الرياضي” هذه الفكرة قائلاً:” …وذات يوم بينما كنت أسير فوق الهضبة جاءتني الفكرة المتميزة بسمات التركيز,والمفاجأة ,واليقين الفوري بأنّ التحويلات العددية الخاصة بالمعادلات التربيعية المحدودة ذات المتغيرات الثلاثة هي نفس التحويلات الخاصة بالهندسة اللااقليدية.”(1)
وبوا نكاريه الذي اعتبر الحدس بأنه :” الحكم السريع المؤكّد,أو التنبؤ الغريزي بالوقائع والعلاقات المجرّدة…”(2)
اذاً,انّ الفكرة التي طرأت على ذهن بوانكاريه انّما هي من قبيل الحدس الكشفي لأنّها طرأت عليه فجأة وهو متوقف عن بحث الموضوع الذي كان منشغلاً به.
كما أنّ الفكرة التي ترِد للعالم بصورة مفاجأة وفي ومضة كالبرق الخاطف,كما وصفها العالِم “كلود برنار” “شعاعٌ من نور يجعل الفكرة الجديدة تبدو بسرعة البرق”(3).
_________________
(1)و(2) منير البعلبكي,موسوعة المورد العربية,ط 29,بيروت,دار العلم للملايين,1995,ص 125.
(3)Claude Bernard,introduction a’ l’etude de la me’decine expe’rimentale,Librairie La grave,1920,p 357.
10
اذاً, يكرّس الحدس عامل التركيز والتخلّص من التشتت الى تأهّب الذّهن لكل ماهو جديد,اذ قد يحدث الحدس أثناء فترة الراحة,أو التخلّي عن المشكلة مؤقتاً.
هذا الحدس الذي يؤدي بالعقل الى التخلّص من عادات التفكير المقيّد الذي ينبغي استبعاده في سبيل الكشف عن الجديد.
فكثيراً ما يندفع حلٌ من الحلول أمام أذهاننا فجأةً,هو الحل الحدسي لأي مشكلة,هذا الحدس الذي يثير نشاط العقل ليصوّر كل الاقتراحات ازاء الموضوع ,ومعنى هذا أن يحلٌّ العقل في آفاقه ليتصوّر الاحتمالات,لّأنّ الوقائع في ذاتها ميتة جامدة,والعقل هو الذي يهبها الحياة.
فقد انتقل نيوتن بحدسه من تفاحة ساقطة الى قمرٍ ساقط,والذي جعله يتوصّل الى فرض الجاذبية ,حيث ربط في قانونٍ واحد حركة الأجسام السّاقطة على الأرض,وحركة الكواكب في السّماء ,كما أنّ خيال دالتون جعله يشيد النظرية الذّرية.
وها هو برغسون يدعو الى اطلاق العنان للحدس , ويدعو الى عدم التقيّد بأساليب العلم الواقعي المقررة,لأنّه كان يراها أضيق من أن تتسع لكل الحقائق.
ويعتبر محي الدّين ابن عربي(1240م) في السّياق عينه بأن:”العلم الصحيح لا يعطيه الفكر ,ولا ماقرره العقلاء من حيث أفكارهم …وانّما ما يقذفه الله في الصّدر,وهو نور الهي يختص الله به من شاء من عباده..”(1)
_______________________
(1) ابن عربي, الفتوحات المكية,(مصدر سابق),ص 50.
11
اذاً,فالحدس هو فعل بصير مستنير يحقّقه عقل ناضج واعٍ امتلك زمام نفسه ضدّ الاجترار اللاشعوري,هذا الحدس الذي لا يكون اختياراً الا اذا استهوى الارادة والشعور للوصول الى مرحلة الوعي بالذّات,فهو ايتوس الفكر الذي يقدّم الحدود لبناء ممكن للتصورات,اذ يعمل هذا الحدس على تقليص الهوّة بين الميتافيزيقا والامبيريقا دون اغفال النسبة بين الاختلافات الحدسية.
لقد أثبت ابن سينا وجود النفس بالحدس,وخلق ديكارت مخلوقه(الكوجيتو) في عالم الحدس العقلي,وعزف برغسون عبر الحدس سمفونية الحياة الحالمة,حيث لا أحد يستطيع تحديد كنهها…
وهنا نتساءل: هل في مقدور الذّكاء أن ينتج أي عمل دون تدخّل الحدس,أي الجهد التكنيكي technique)) الذي يقوم في تنظيم المادة الخام للفكر؟..
12
خاتمة:
وخلاصة القول نقول بأنّ الحدس يعكس صورة النفس الصافية المجرّدة من اللاتجانس الفكري,فكما الحُب هو مرأى وجه السّعادة,فالحدس هو مرأى وجه المعرفة الذي يكفّن الجهل ,ولا نملّ السّكرة فيه حتى ونحن في أوج يقظتنا. وفي وسعنا أن نتحدّث عن عالمٍ من الحدوس شبيه بعالم المثل(الصور) عند أفلاطون ,وخاصيّته أنّه هو ما هو شيء في ذاته,ومن دون تصوّر وجود مفارِق خاص
اذاً,فالحدس هو مقياس الاستحقاق المعرفي ,والرغبة المخلصة لليقين ,والمنبثقة عن نفسٍ تشدّ أزرها بعدم الاكتراث لِمًا عدا العكس.
يستحيل هذا الحدس ملكةً من ملكات النفس التي تكافح الآلام حتى تستنفد قوى الفكر بذاتها لأنها فوق كلّ شيء.
فالله هو”النور اللامخلوق”بحسب الأسفار المقدّسة ,بينما الحدس هو النور المخلوق الذي يخفي ظلمات الجهل ,ويجعلها في الغفلة,وحينئذٍ تصبح النفس قابلة للكمال ,”فالنفس غنية بحكمتها”(1). ولأن الارادة في الانسان هي ملكة تريد,لذا فحب المعرفة هو حركتها الأولى,ونزوعها لانفعال حدسها,ذاك الانفجار اللاشعوري الفريد الذي يحدث في الحياة الشعورية.
وهكذا,تبدو الحدوس الفلسفية المتباينة هرمنوطيقا ويكمن في دفق أشيائها الغائبة ظهور اللحظات الدائمة.
_______________
(1) جبران خليل جبران,دمعة وابتسامة,(مصدر سابق),ص 77.
Discussion about this post