دراسة نقدية تحليلية بعنوان
الحلاوة الممزوجة بالخوف: قراءة بنيوية نفسية في قصة “حلو كالعسل” للكاتبة دعاء محمود
إعداد: عدنان الطائي
(النّص)
حلو كالعسل
تسير بهدوء وحدها في شارع خال من العابرين كعادتها اليوميَّة؛ لتشاهد الشُّروق على البحر، أحسَّت بخطوات خلفها؛ تسارعت دقّات قلبها خوفا، وبمظهر الثَّبات الكاذب أكملت طريقها دون التفات؛ رائحة عطرة لامست أنفها ـ قد اقترب أكثر ـ رائحة طيّبة تسرّبت إلى ذرَّات دمها، بدأت تتساءل: مَن صاحب العطر العتيق الجميل؟!!!!!.
سبقها بخطوات قليلة واستدار؛ لم تره من قبل.
بابتسامة ساحرة وصوت حنون سألها: ألا تخافين السَّير وحدك؟!
أجابت بثبات يداري قلقًا وخوفًا: وما شأنك!!!
بحركة جريئة أمسك بذراعها، اقترب حدَّ التَّلامس وهمس: ألا تعرفين من أكون؟!!!
ألم يخبرك والدك أني تقدَّمت بالأمس أطلب الزّواج منك ، وقد رفضتِ الخروج لأنّك لن تتزوجي بشخص لا تعرفينه، ولم تحبِّيه، ها أنا ذا أمامك؛ تعرّفي إليَّ، وذوبي عشقا ثمَّ تزوّجيني.
خطف قلبها بجرأته، بوسامته، وعطرِه؛ شعور غريب قد اعتراها؛ عانقت روحها السَّماء، خفق قلبها، حاولت التَّخلص من قبضة يده لم تُفلح؛ رعشة سرت في جسدها، آهات ساكنة في أذنها، وليد قد تهدهد في قلبها، حلاوة العسل في حلقها ـ حاولت التَّخلص من قبضته مرَّة أخرى ـ اقترب أكثر، أمسك بها بكلتا يديه ؛ قد تخبَّطت إشارات العقل والقلب، وسكن الجسد مطمئنا.
علامات الحبِّ صارت واضحة؛ ابتسامة خجلى، هدوء التَّعابير، سكون الجوارح، أعطته ذراعيها طوعًا ليظلَّ ممسكًا بهما.
كعصفورين يهمسان، كصوت النَّسيم يعانق أشجار الكرز، كهدير الماء من شلال قريب، كارتواءٍ بعد عطش، كوجبة شهيَّة بعد قحط وجوع، ومقعد تظلِّلُه شجرة وارفة في صحراء جرداء.
بصوت صارم همس: هلّا تتزوجينَني؟!
بصوت بالكاد يُسمع أجابت: نعم.
الكاتبة الصَّحفية/ دعاء محمود
مصر
دعاءقلب
(التّحليل)
المقدّمة
تأتي القصة القصيرة جدًا في الأدب العربي الحديث بوصفها فنًّا تكثيفيًّا يقوم على الاقتصاد اللغوي وشدّة الإيحاء، فيختزل الزمان والمكان ليقدّم لحظةً درامية متوترة مشحونة بالمعنى. وفي هذا السياق تندرج قصة “حلو كالعسل” للكاتبة دعاء محمود، التي تُقدّم نموذجًا أنثويًا يواجه ذاته والعالم عبر تجربة وجدانية خاطفة، تجمع بين الخوف والرغبة، والعقل والعاطفة، في مشهدٍ يُقرأ بوصفه رحلةً من الاضطراب إلى الاكتشاف.
أولًا: العنوان ودلالته الرمزية
يحمل العنوان “حلو كالعسل”الله دلالة حسية تتجاوز المذاق إلى الشعور الداخلي باللذة والفتنة. فالعسل، في الذاكرة الثقافية العربية، رمز للحب والأنوثة والشفاء والفتنة معًا. اختيار الكاتبة لهذا العنوان يُعدّ إشارة استباقية لمناخ النص؛ إذ يجمع بين الإغواء والخطر في آنٍ واحد، كما أن المفارقة بين “الحلاوة” و”الخوف” الذي يسيطر على البطلة منذ السطور الأولى، تمنح القصة إيقاعًا نفسيًا مزدوجًا يهيمن على مجراها.
ثانيًا: البنية السردية
يتأسس البناء السردي على وحدة الحدث والمشهد؛ فالقصة تدور في إطار زمني ومكاني محدّد: امرأة تسير في شارع خالٍ لتشهد الشروق على البحر. لكن ما يبدو في ظاهره مشهدًا عاديًا يتحوّل، عبر تطور الحدث، إلى رحلة داخل الذات، حيث تتصاعد التوترات من الخوف → الفضول → الانجذاب → الاضطراب → الاستسلام. يعتمد النص على التكثيف السردي، إذ لا وجود لحوار مطوّل أو وصفٍ خارجيٍّ زائد؛ كلّ التفاصيل تخدم الإيحاء النفسي، وتوجّه المتلقي نحو التحوّل الداخلي للبطلة. وهنا تبرز مهارة الكاتبة في جعل المشهد القصير مرآة لتبدّل عاطفي عميق، في أقل مساحة زمنية ممكنة.
ثالثًا: الشخصية والتحوّل النفسي
1. البطلة:
تمثل الذات الأنثوية الحديثة، المترددة بين التزامها الاجتماعي ونداء الغريزة الإنسانية.
تُقدَّم منذ البداية في حالة وحدة وتأمل، تسير “وحدها في شارع خالٍ” — صورة رمزية للانفصال عن المجتمع وبداية المواجهة مع الذات. لكن حين يظهر الرجل، تبدأ رحلة التحوّل النفسي من الخوف إلى الانجذاب. هذا التحوّل ليس جسديًا فقط، بل روحيٌّ أيضًا؛ إذ تقول الساردة:”عانقت روحها السماء، خفق قلبها، وسكن الجسد مطمئنًا.” وهي لحظة اندماج بين الروح والجسد، بين الانفعال والسكينة، مما يجعل النص سفرًا في العاطفة الإنسانية أكثر منه لقاءً عابرًا.
2. الرجل:
يظهر كرجل غامض وساحر، تتكثّف حوله عناصر الإغواء: العطر، الوسامة، الثقة.
إنه ليس مجرد عاشق، بل يمثل القوة المقتحمة، والرمز الذكوري للهيمنة الجمالية.
لكنه أيضًا وسيلة الكاتبة لكشف العمق النفسي للمرأة حين تواجه الرغبة، لا كضعفٍ، بل كطبيعة بشرية أصيلة.
رابعًا: اللغة والأسلوب
لغة القصة شاعرية إيحائية تقوم على التفاعل الحسي بين الكلمات والصور.
توظّف الكاتبة اللغة كأداة حسية:
• العطر (الشم)
• الخطوات (السمع)
• التلامس (اللمس)
• البحر والشروق (البصر)
وهذا التنوّع الحسي يمنح النص جمالية تصويرية وانغماسًا شعوريًا في التجربة.
تكثر الاستعارات والتشبيهات في المقاطع التالية: “كعصفورين يهمسان، كهدير الماء من شلال قريب، كوجبة شهية بعد قحط وجوع.” وهي صور تجمع بين النقاء والرغبة، بين اللذة والبساطة، فتُحيل القارئ إلى بعدٍ جماليٍّ صافٍ بعيد عن الابتذال.
خامسًا: الدلالة النفسية والفكرية
من منظور التحليل النفسي، يمكن قراءة النص بوصفه صراعًا بين الأنا والعقل والهوّ.
الخوف الأولي الذي تعيشه البطلة يمثل صوت الأنا الأعلى (الموروث الاجتماعي والديني)، بينما يمثل الانجذاب المفاجئ صوت الهوّ (الرغبة الفطرية). أما الاستسلام في النهاية بـ”نعم” فهو لحظة تصالح داخلي، لا سقوط. إنها لحظة نضج، حيث تكتشف البطلة أن الحب لا يُعاش بالعقل وحده. وهكذا يتحول النص من مجرد حكاية عاطفية إلى تجربة وجودية تختبر حدود الذات والحرية والرغبة.
سادسًا: الجماليات والرموز
• العطر: رمز للغزو الروحي، إذ يدخل الجسد بلا إذن، كما يدخل الحب بلا استئذان.
• البحر والشروق: رمزان للتجدّد والنقاء، مقابل ظلمة الخوف الأولى.
• اللمس والتلامس: ليس فعلاً جسديًا، بل بوابة للتواصل النفسي والوجداني.
كلّ هذه الرموز تُسهم في بناء مشهدٍ واحدٍ ذي عمقٍ تأويليّ متعدّد الطبقات.
سابعًا: البنية الجمالية والانسجام الفني
تلتزم الكاتبة بوحدة الحدث والانفعال، فلا خروج عن النسق النفسي العام. يتحقق الانسجام بين البداية والنهاية:
• البداية: خوف ووحدة.
• النهاية: طمأنينة ورضا.
وبينهما جسر من اللغة العطرة والمشاعر المتصاعدة.
ثامنًا: الخاتمة والاستنتاج
تُقدّم قصة “حلو كالعسل” تجربةً فنيةً تزاوج بين الإحساس الشعري والتكثيف السردي، وبين العفوية الأنثوية والعمق النفسي. الكاتبة دعاء محمود لا تكتب عن “امرأة تقع في الحب”، بل عن الإنسان حين يكتشف ذاته في لحظة حبّ مفاجئة.وقد استطاعت من خلال اقتصادها اللغوي وكثافة صورها أن تبني نصًّا قصيرًا يحمل ثراءً تأويليًا ممتدًّا.إنها كتابة تحمل طعم الحياة بكل تناقضاتها: خوفٌ ولذة، وارتباكٌ وحلاوة — تمامًا كما يوحي العنوان:
“حلو كالعسل.”
المصادر النقدية المستأنس بها
1. رولان بارت: درجة الصفر في الكتابة، ترجمة محمد برادة.
2. تزفتان تودوروف: مدخل إلى الأدب البنيوي.
3. سيغموند فرويد: تفسير الأحلام) للتأويل النفسي للرغبة).
4. غاستون باشلار: جماليات المكان) رمزية البحر والفضاء الحسي.






































