غزَّةُ .. صَمْتُ العالَمِ وصَرْخَةُ رغيفٍ ..
بقلم : سلمى صوفاناتي
دَخَلْتُ إِلَى اللَّيْلِ مُتَأَبِّطَةً صَمْتِي، وَكَانَ خُبْزُ غَزَّةَ يَلُوّحُ لِي فِي السَّمَاءِ كَقَمَرٍ مَذْبُوحٍ.
مَا بَالُ هٰذَا الْكَوْنِ يُعْرِضُ عَنْ مَوْضِعِ الْأَلَمِ، وَيَتَفَرَّغُ لِتَأَمُّلِ التَّفَاصِيلِ التَّافِهَةِ فِي بُقَاعٍ لَا تَعْرِفُ مِنَ الْجُوعِ إِلَّا اسْمَهُ؟
مُنْذُ مَتَى صَارَ الرَّغِيفُ قَضِيَّةً سِيَاسِيَّةً؟
وَمُنْذُ مَتَى أَصْبَحَتِ لُقْمَةُ الطِّفْلِ عُرْضَةً لِلْمُسَاوَمَاتِ، وَأُمْنِيَةً مُؤَجَّلَةً حَتَّى إِشْعَارٍ دُوَلِيٍّ آخَرَ؟
إِنَّنِي لَا أَكْتُبُ عَنْ غَزَّةَ، بَلْ أَكْتُبُ عَنِ الْإِنْسَانِ.
عَنِ الْإِنْسَانِ الَّذِي سَقَطَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً حِينَ رَأَى وَلَمْ يَصُرُخْ، وَمَرَّةً حِينَ سَكَتَ بَيْنَمَا نَادَتْهُ بطِفْلَةٌ نَحِيلَةٌ تُمْسِكُ بِأُمِّهَا الَّتِي تَفَتَّتَ صَدْرُهَا مِنَ الْحَلِيبِ الْيَابِسِ.
غَزَّةُ، لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ، لَيْسَتْ بُقْعَةً عَلَى الْخَرِيطَةِ، بَلْ صَرْخَةُ ضَمِيرِ الْأَرْضِ.
لِمَاذَا لَا يَسْمَعُهَا الْعَالَمُ؟
لِأَنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَعُدْ يَمْتَلِكُ أُذُنَيْنِ، بَلْ نَوَافِذَ مِنْ زُجَاجٍ…
يَرَى مِنْهَا مَا يُبْهِرُ، وَيَصُمُّ أذنيه عَنْ كُلِّ مَا يُؤْلِمُ.
تَجْلِسُ غَزَّةُ عِنْدَ خَاصِرَةِ الْبَحْرِ كَأَرْمَلَةٍ لَمْ تَعُدْ تَبْكِي، وَلَكِنَّهَا صَارَتْ تَتَنَفَّسُ بِصُعُوبَةٍ…
تَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ، وَلَا تَجِدُ قَطْرَةً مِنْهُ فِي فَمِ صَبِيٍّ جَفَّ رِيقُهُ،
وَتَنْظُرُ إِلَى الْغَيْمِ، وَلَا تَجِدُ فِيهِ غَيْرَ غُبَارِ الْحَرْبِ.
فِي غَزَّةَ، لَا تُطْلِقُ الْـحَرْبُ قَنَابِلَهَا فَحَسْبُ،
بَلْ تُطْلِقُ مَجَاعَةً،
وَتَقْذِفُ صَدْرَ الْأُمِّ بِالْحَيْرَةِ،
وَتَنْزِعُ مِنَ الْأَبِ حِيلَتَهُ،
وَتَجْعَلَ مِنَ “الرَّغِيفِ” أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ شَارَاتِ النَّصْرِ.
رَأَيْتُ أُمًّا – فِي رُؤْيَايَ – تَقِفُ أَمَامَ طِفْلِهَا وَتُنَاوِلُهُ كُوبَ مَاءٍ سُكَّرِيٍّ دَافِئٍ،
تَقُولُ لَهُ بِحَنَانٍ مَوْجُوعٍ: “هَاكَ يَا بُنَيَّ… عَشَاؤُنَا اللَّيْلَةَ”.
لَمْ تَكُنْ تَكْذِبُ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُصَارِعُ الِانْهِيَارَ بِقَطْرَةِ صِدْقٍ.
غَزَّةُ، يَا مَنْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَنْصِتُونَ،
لَا تَطْلُبُ مِنْكُمْ مُؤْتَمَرَاتٍ، وَلَا مَقَالاتٍ طَوِيلَةً، وَلَا خُطَبًا مَسَائِيَّةً عَلَى الْمَنَابِرِ الْفَضَائِيَّةِ.
كُلُّ مَا تُرِيدُهُ مِنْكُمْ…
أَلّا تُسَاوِمُوا عَلَى اللُّقْمَةِ.
هَلْ تُدْرِكُونَ مَعْنَى أَنْ يُصْبِحَ الرَّغِيفُ أَعَزَّ مِنَ الْبَيَانِ؟
أَنْ تَتَحَوَّلَ اللُّقْمَةُ إِلَى اخْتِبَارٍ لِلرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ؟
أَنْ تَسْأَلَ غَزَّةُ سُؤَالَهَا الْأَخِيرَ – لَا احْتِجَاجًا بَلْ رَجَاءً:
“هَلْ مِنْ حَقِّي أَنْ آكُلَ؟ فَقَطْ آكُلَ… كَمَا يَأْكُلُ سَائِرُ أَطْفَالِ الْأَرْضِ؟”
فَإِنْ عَجَزْتُم عَنِ الْـجَوَابِ، فَلَن تَسْقُطَ غَزَّةُ وَحْدَهَا،
بَلْ اسْتَعِدُّوا لِسُقُوطِ فِكْرَةِ “الْإِنْسَانِ” كَامِلَةً…
وَسُقُوطِ مَا تَبَقَّى مِنَ الْعَدْلِ وَالْحَيَاءِ.






































