ٱلْـحَبِيبُ إِيَادُ عِرْسَانَ طِفْلٌ يَتَحَدَّى أَذْكَياءَ ٱلْعَالَمِ …
بقلم : سلمى صوفاناتي
حِينَ يُطِلُّ ٱلنُّبُوغُ مِنْ عُيُونِ طِفْلٍ لَمْ يَتَجَاوَزِ ٱلْعَقْدَ ٱلْأَوَّلَ، وَيَخْتَرِقُ صَوْتُهُ ٱلدَّهْشَةَ كَأَنَّهُ قَادِمٌ مِنْ مُخْتَبَرِ ٱلْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّنَا لَا نَقِفُ أَمَامَ حِكَايَةٍ عَابِرَةٍ، بَلْ أَمَامَ صَفْحَةٍ مُذْهِلَةٍ مِنْ كِتَابِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ، عُنْوَانُهَا: ٱلْـحَبِيبُ إِيَادُ عِرْسَان.
هُوَ لَيْسَ مُجَرَّدَ طِفْلٍ يَلْهُو بِٱلْأَلْعَابِ، بَلْ عَقْلٌ صَغِيرٌ بِجَسَدِهِ، عَظِيمٌ بِأَحْلَامِهِ، شَغُوفٌ بِٱلْعِلْمِ، قَدْ نُفِثَ فِيهِ مِنْ وَهَجِ ٱلْمُبْدِعِينَ مُنْذُ ٱلْمَهْدِ. أَتْقَنَ لُغَةَ ٱلْآلَةِ قَبْلَ أَنْ يُجِيدَ خَطَّ ٱلْـحُرُوفِ، وَكَتَبَ ٱسْمَهُ فِي سِجِلَّاتِ ٱلْمُخْتَرِعِينَ وَٱلْمُبَرْمِجِينَ وَٱلْبَاحِثِينَ، وَهُوَ بَعْدُ فِي طَوْرِ ٱلْبَرَاءَةِ وَٱلْعَذُوبَةِ.
خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ ٱخْتِرَاعًا وَبَحْثًا عِلْمِيًّا، وَمَنْظُومَاتٌ رَقْمِيَّةٌ تَفُوقُ أَعْمَارَ ٱلْكِبَارِ، وَجَوَائِزُ أُولَى عَلَى مَنَصَّاتٍ دُوَلِيَّةٍ، وَشَهَادَاتُ تَشْرِيفٍ مِنْ أَعْلَى هَيْئَاتِ ٱلتَّمَيُّزِ وَٱلْإِبْدَاعِ فِي ٱلْوَطَنِ ٱلْعَرَبِيِّ وَٱلْإِسْلَامِيِّ. نَائِبُ رَئِيسِ ٱلْمَهْرَجَانِ ٱلدَّوْلِيِّ لِمُلُوكِ ٱلتَّمَيُّزِ، وَعُضْوٌ فِي ٱلْفَرِيقِ ٱلْوَطَنِيِّ لِفِيزْيَاءِ ٱلْفَلَكِ، وَمُبْتَكِرٌ لِأَنْظِمَةٍ صِحِّيَّةٍ وَمَعْلُومَاتِيَّةٍ ٱعْتَمَدَتْهَا ٱلنِّقَابَاتُ ٱلْعِلْمِيَّةُ… كُلُّ هَذَا لَيْسَ لِٱسْمٍ مُدَوَّنٍ فِي سِجِلِّ نُوبِل، بَلْ لِطِفْلٍ مِنْ أَرْضِ ٱلشَّامِ، يَخْتَصِرُ وَطَنَهُ فِي عَيْنَيْهِ وَيُخَاطِبُ ٱلْعَالَمَ بِلُغَةِ ٱلْمُسْتَقْبَلِ.
هُوَ مَنْ قَرَأَ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّمِائَةِ كِتَابٍ، وَحَفِظَ ٱلْمُعَلَّقَاتِ وَمُتُونَ ٱلْعِلْمِ، وَحَاوَرَ ٱلْكِبَارَ لَا كَصَغِيرٍ يُدَلَّلُ، بَلْ كَعَالِمٍ يُحَاوِرُ. تَرَاهُ يَفْتَحُ بَوَّابَةَ ٱلطَّاقَةِ ٱلْمَغْنَاطِيسِيَّةِ، ثُمَّ يَرْسُمُ لَكَ قَمَرًا سُورِيًّا يُنْقِلُ ٱلْكَهْرَبَاءَ بِٱللِّيزَرِ، وَيَخْتِمُ حَدِيثَهُ بِٱبْتِسَامَةِ طِفْلٍ، كَأَنَّمَا يَقُولُ: “مَا زَالَ فِي جُعْبَتِي ٱلْكَثِيرُ”.
فِي هٰذَا ٱلْـحِوَارِ ٱلْفَرِيدِ، نَضَعُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِحْلَةَ عَبْقَرِيَّةٍ تَتَجَاوَزُ عُمْرَهَا ٱلزَّمَنِيَّ، لِنَفْتَحَ قَلْبَ ٱلطِّفْلِ ـ ٱلْعَالِمِ، وَنُصْغِيَ لِحُلْمِهِ، وَنَقْتَرِبَ مِنْ تِلْكَ ٱلشّعْلَةِ ٱلَّتِي تَأْبَى أَنْ تَنْطَفِئَ، لِأَنَّهَا بِبَسَاطَةٍ: وُلِدَتْ لِتُضِيءَ.
س١:
فِي مَرْحَلَةٍ عُمْرِيَّةٍ كَانَ مُعْظَمُ أَقْرَانِكَ مَا يَزَالُونَ يَتَعَرَّفُونَ عَلَى الْحُرُوفِ وَالْأَرْقَامِ، كُنْتَ أَنْتَ تَتَجَاوَزُ الْمَنَاهِجَ وَتَخُوضُ فِي مُعَادَلَاتٍ مُعَقَّدَةٍ… مَتَى بَدَأْتَ تُدْرِكُ – دَاخِلِيًّا – أَنَّ مَسَارَكَ مُخْتَلِفٌ، وَأَنَّكَ لَسْتَ طِفْلًا اعْتِيَادِيًّا؟
– لَمْ أَشْعُرْ فِي الْبِدَايَةِ بِأَنَّ مَسَارِي مُخْتَلِفٌ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَطْفَالِ، وَلَكِنَّ الْأُمُورَ الَّتِي كَانَتْ تَبْدُو صَعْبَةً عَلَى أَقْرَانِي، كَانَتْ سَهْلَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِي؛ كَالْقِرَاءَةِ، وَالرِّيَاضِيَّاتِ، وَالْعَمَلِيَّاتِ الْحِسَابِيَّةِ، وَالْمُعَادَلَاتِ، وَالْحِفْظِ. حِينَ أَنْهَيْتُ مَنْهَجَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ كَامِلًا خِلَالَ سَاعَاتٍ، شَعَرْتُ أَنَّ الْكِتَابَ بِكَامِلِهِ مُجَرَّدُ دَرْسٍ صَغِيرٍ يَبْدَأُ وَيَنْتَهِي بِسُرْعَةٍ. وَحِينَ خَضَعْتُ لَاحِقًا لِاخْتِبَارَاتِ هَيْئَةِ التَّمَيُّزِ وَالْإِبْدَاعِ، طُرِحَتْ عَلَيَّ أَسْئِلَةٌ مِنْ مَنَاهِجَ صُفُوفٍ أَعْلَى، بِالْإِضَافَةِ إِلَى اخْتِبَارَاتِ الذَّكَاءِ الْعَالَمِيَّةِ، وَلَمْ أَشْعُرْ حِينَهَا بِأَنِّي أُجْرِي اخْتِبَارَاتٍ، بَلْ كُنْتُ أُجِيبُ عَلَى الْأَسْئِلَةِ بِمُتْعَةٍ وَشَغَفٍ، وَكَانَتِ النَّتِيجَةُ أَنْ تَقَرَّرَ تَرْفِيعِي إِلَى صُفُوفٍ أَعْلَى.
س٢:
– أبْحَاثُكَ تَغُوصُ فِي عُلُومٍ عَمِيقَةٍ كَالدَّفْعِ غَيْرِ التَّقْلِيدِيِّ، وَالْمَفَاعِلِ النَّوَوِيَّةِ الْخَضْرَاءِ، وَنَقْلِ الطَّاقَةِ عَبْرَ اللِّيزَرِ… هَلْ تَرَى فِي هَذَا التَّوَجُّهِ رَغْبَةً فِي أَنْ تُسْبِقَ الْمُسْتَقْبَلَ، أَمْ أَنَّ هُنَاكَ سُؤَالًا عِلْمِيًّا مُلِحًّا تَسْعَى لِلْإِجَابَةِ عَلَيْهِ مُنْذُ طُفُولَتِكَ؟
– كُنْتُ دَائِمًا، وَأَنَا صَغِيرٌ، أُفَكِّرُ بِالْفَضَاءِ وَأُحِبُّ هَذَا الْمَجَالَ. وَعِنْدَمَا تَعَلَّمْتُ الْقِرَاءَةَ، كَانَ أَوَّلُ مَا بَحَثْتُ عَنْهُ عَلَى الْإِنْتَرْنِتْ هُوَ أَجْوِبَةٌ لِلْأَسْئِلَةِ الَّتِي كَانَتْ تُرَافِقُنِي عَنِ الْفَضَاءِ. جَمَعْتُ مَعْلُومَاتٍ كَثِيرَةً، وَتَفَاصِيلَ وَأَرْقَامًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْكَوْنِ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَصْغَرَ عُضْوٍ فِي الْفَرِيقِ الْوَطَنِيِّ السُّورِيِّ لِعُلُومِ الْفَضَاءِ وَفِيزْيَاءِ الْفَلَكِ، وَحَضَرْتُ كُلَّ الْمُحَاضَرَاتِ مَعَ زُمَلَائِي وَأُسَاتِذَتِي، وَدَرَسْنَا مَعًا عُلُومَ الْفَضَاءِ وَالْفِيزْيَاءِ النَّوَوِيَّةَ. كَمَا قَدَّمْتُ أَبْحَاثًا فِي مَجَالِ الطَّاقَةِ؛ لِأَنَّنِي أُحِبُّ الْبَحْثَ الْعِلْمِيَّ، وَأَرْغَبُ دَائِمًا فِي اكْتِشَافِ الْمَزِيدِ، خُصُوصًا فِي مَجَالِ الْكَهْرَبَاءِ، حَيْثُ كَانَتْ لِي اخْتِرَاعَاتٌ وَتَجَارِبُ عَمَلِيَّةٌ …
س٣:
فِي بِيئَةٍ غَالِبًا مَا تُقَاسُ فِيهَا الْمَوْهِبَةُ بِالْعُمُرِ، وَيُقَيَّمُ فِيهَا الطِّفْلُ عَلَى أَسَاسِ “مَا لَا يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدُ”، كَيْفَ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَفْرِضَ مَعْرِفَتَكَ عَلَى الْوَاقِعِ دُونَ أَنْ تَخْشَى نَظْرَةَ “الطِّفْلِ الصَّغِيرِ”؟
-كَانَ وَالِدِي – حَفِظَهُ ٱللَّهُ – يَقُولُ لِي دَوْمًا: إِنَّ عُقُولَ الْأَطْفَالِ، إِذَا وُجِّهَتْ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ، قَادِرَةٌ عَلَى إِنْجَازِ مَا لَا يَتَوَقَّعُهُ الْكِبَارُ. كَانَ يُشَجِّعُنِي عَلَى الْمَعْرِفَةِ، وَيُوَفِّرُ لِي أَدَوَاتِ الْبَحْثِ وَالتَّجْرِيبِ. وَعِنْدَمَا كُنْتُ أَلْتَقِي بِالْمُتَخَصِّصِينَ وَالدَّكَاتِرَةِ، وَنَتَحَاوَرُ فِي أَفْكَارٍ تَدُورُ فِي ذِهْنِي، كُنْتُ أَشْعُرُ أَنَّهُمْ يَتَعَامَلُونَ مَعِي بِعَقْلِي، لَا بِعُمُرِي. كُنَّا نُنَاقِشُ الْحُلُولَ وَالتَّفَاصِيلَ وَكَأَنَّنِي زَمِيلٌ فِي الْمَجَالِ، لَا طِفْلٌ صَغِيرٌ. وَبَعْدَ الْجَلْسَةِ، يَعُودُونَ لِسُؤَالِي عَنْ هِوَايَاتِي، وَأَلْعَابِي، وَأَصْدِقَائِي… فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ احْتِرَامِ عَقْلِي، وَتَفَهُّمِ عُمْرِي.
س٤:
أَنْتَ تَنْتَمِي إِلَى عَالَمَيْنِ مُتَوَازِيَيْنِ: عَالَمِ التِّقْنِيَّةِ وَالْمُخْتَبَرَاتِ الذَّكِيَّةِ مِنْ جِهَةٍ، وَعَالَمِ الشِّعْرِ وَالْقُرْآنِ وَالْمُعَلَّقَاتِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى… كَيْفَ تُفَسِّرُ هَذَا التَّوَازُنَ بَيْنَ الْحِسَابِ وَالْخَيَالِ، بَيْنَ الْبَرْمَجِيَّاتِ وَالْبَيَانِ؟
– نَعَمْ، أَنَا أُحِبُّ الْمَجَالَاتِ الْعِلْمِيَّةَ بِطَبِيعَتِي، مِثْلَ الْفَضَاءِ، وَالرِّيَاضِيَّاتِ، وَالطَّاقَةِ، وَالْبَرْمَجَةِ. لَدَيَّ شَهَادَاتٌ فِي لُغَاتِ الْبَرْمَجَةِ، وَطَوَّرْتُ عِدَّةَ بَرَامِجَ. وَفِي الْمُقَابِلِ، أَجِدُ نَفْسِي أَيْضًا فِي عَالَمِ الْأَدَبِ وَالْبَيَانِ؛ فَأَنَا قَارِئٌ نَهِمٌ، أَسْتَمْتِعُ بِالشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ، وَالرِّوَايَاتِ، وَكُتُبِ الْخَيَالِ الْعِلْمِيِّ، وَالْمَسْرَحِ. وَقَدْ يَعُودُ هَذَا التَّوَازُنُ إِلَى جُذُورِي، فَجَدِّي – رَحِمَهُ ٱللَّهُ – كَانَ كَاتِبًا وَمُحِبًّا لِلشِّعْرِ، وَهَذَا رُبَّمَا هُوَ مَا جَعَلَنِي أَعِيشُ فِي عَالَمَيْنِ مُتَكَامِلَيْنِ: الْعَقْلِ وَالْعَاطِفَةِ، الْمُعَادَلَةِ وَالْقَصِيدَةِ.
س٥:
حِينَ تَبْتَكِرُ نَمُوذَجًا، أَوْ تَخُطُّ فِكْرَةً عَلَى الْوَرَقِ، مَا الَّذِي يَدْفَعُكَ أَكْثَرَ: أَلَمُ الْوَاقِعِ الَّذِي تُرِيدُ إِصْلَاحَهُ، أَمْ حُلْمُ الْغَدِ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَهُ؟
-الِاثْنَانِ مَعًا. فِي الْبِدَايَةِ، كَانَتْ أَفْكَارِي تَنْبُعُ مِنْ وَاقِعِنَا الْيَوْمِيِّ؛ مِثْلًا، كُنْتُ أُفَكِّرُ كَثِيرًا فِي كَيْفِيَّةِ الْحُصُولِ عَلَى كَهْرَبَاءِ دَائِمَةٍ وَمَجَّانِيَّةٍ، لِأَنَّنَا كُنَّا نُعَانِي مِنَ انْقِطَاعِ الْكَهْرَبَاءِ. هَذَا مَا دَفَعَنِي لِلْبَحْثِ عَنْ طُرُقٍ بَدِيلَةٍ، وَمَصَادِرَ جَدِيدَةٍ لِلطَّاقَةِ. ثُمَّ تَطَوَّرَتِ اهْتِمَامَاتِي، وَبَدَأْتُ أُفَكِّرُ فِي مَيَادِينِ أُخْرَى؛ كَالْهِنْدَسَةِ الطِّبِّيَّةِ، وَالذَّكَاءِ الِاصْطِنَاعِيِّ، وَالْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ. كُلُّ ذَلِكَ يَصُبُّ فِي حُلْمِ الْغَدِ الَّذِي أَطْمَحُ لِصِنَاعَتِهِ.
س٦:
لَوْ أُتِيحَ لَكَ أَنْ تُغَيِّرَ وَجْهَ التَّعْلِيمِ فِي الْوَطَنِ الْعَرَبِيِّ، لَا عَبْرَ الْمَنَاهِجِ، بَلْ مِنْ خِلَالِ “فَلْسَفَةِ الِاكْتِشَافِ وَالتَّفَوُّقِ”، فَبِمَاذَا تَبْدَأُ؟ وَمَاذَا تَقُولُ لِصَانِعِ الْقَرَارِ؟
-هَذَا هُوَ مَشْرُوعِي الْحَقِيقِيُّ، أَنْ أُسَاهِمَ فِي تَأْسِيسِ مَنْظُومَةٍ تَعْلِيمِيَّةٍ تُؤْمِنُ بِأَنَّ كُلَّ طِفْلٍ يَمْلِكُ مَوْهِبَةً دَاخِلَهُ، وَتَعْمَلُ عَلَى اكْتِشَافِهَا مُبَكِّرًا. أَبْدَأُ بِتَغْيِيرِ النَّظْرَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ الَّتِي تَحْصُرُ الطَّالِبَ فِي قَوَالِبَ جَامِدَةٍ. أَقُولُ لِصَانِعِ الْقَرَارِ: لَا تَجْعَلُوا الْمَنَاهِجَ هِيَ الَّتِي تُحَدِّدُ مُسْتَقْبَلَ الطِّفْلِ، بَلْ اجْعَلُوا مَوَاهِبَهُ هِيَ الَّتِي تَفْتَحُ لَهُ أَبْوَابَ التَّعَلُّمِ. نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى تَعْلِيمٍ يُعَلِّمُنَا كَيْفَ نُفَكِّرُ، لَا مَاذَا نَحْفَظُ، وَيُرَبِّي الْعُقُولَ وَالْعُبْقَرِيَّاتِ، لَا الْمُقَلِّدِينَ.
س٧:
فِي كُلِّ مَا تَقُومُ بِهِ مِنْ أَبْحَاثٍ وَتَجَارِبَ، هُنَاكَ جَانِبٌ ذَاتِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِإِيَادَ الطِّفْلِ، وَجَانِبٌ عِلْمِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْبَاحِثِ… فَمَنْ مِنْهُمَا يَقُودُ الْآخَرَ: فُضُولُ الطِّفْلِ، أَمْ عَقْلُ الْبَاحِثِ؟
-فِي الْحَقِيقَةِ، الْإِثْنَانِ يَسِيرَانِ مَعًا، وَلَكِنْ فُضُولُ الطِّفْلِ هُوَ دَائِمًا الشَّرَارَةُ الْأُولَى. حِينَ تُرَاوِدُنِي فِكْرَةٌ، لَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْبَاحِثِ فَقَطْ، بَلْ أَعِيشُهَا بِكَامِلِ فُضُولِي الطُّفُولِيِّ، ثُمَّ أَبْدَأُ بِتَحْلِيلِهَا وَاخْتِبَارِهَا بِمَنْطِقِ الْبَاحِثِ. إِنَّ الطِّفْلَ دَاخِلِي لَا يَكْبُرُ، بَلْ يُلْهِمُنِي أَنْ أَسْتَمِرَّ بِالسُّؤَالِ، وَأَلَّا أَكْتَفِي بِإِجَابَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَنَا مُؤْمِنٌ بِأَنَّ أَعْظَمَ الِاكْتِشَافَاتِ تَبْدَأُ مِنْ دَهْشَةِ الطِّفْلِ قَبْلَ أَنْ تَنْضُجَ بِعَقْلِ الْعَالِمِ.
س٨:
إِذَا تَأَمَّلْتَ مَسِيرَتَكَ الْقَصِيرَةَ لَكِنِ الْعَمِيقَةَ، مَا اللَّحْظَةُ الَّتِي شَعَرْتَ فِيهَا أَنَّكَ تَرَكْتَ أَثَرًا حَقِيقِيًّا فِي مَنْ حَوْلَكَ؟
-رُبَّمَا كَانَتِ الْمَرَّةَ الْأُولَى الَّتِي عَرَضْتُ فِيهَا أَحَدَ ابْتِكَارَاتِي فِي مَجَالِ الْكَهْرَبَاءِ، وَشَاهَدْتُ الدَّهْشَةَ فِي عُيُونِ الْكِبَارِ قَبْلَ الصِّغَارِ. لَقَدْ شَعَرْتُ أَنَّ مَا أَقُومُ بِهِ لَيْسَ فَقَطْ لِتَلْبِيَةِ فُضُولِي، أَوْ لِإِثْبَاتِ قُدْرَتِي، بَلْ لَهُ أَثَرٌ حَقِيقِيٌّ فِي حَيَاةِ الْآخَرِينَ. وَتَكَرَّرَتْ هَذِهِ اللَّحْظَةُ مَعَ كُلِّ وَرْشَةٍ
عِلْمِيَّةٍ أُشَارِكُ فِيهَا، وَكُلِّ حِوَارٍ مَعَ شَخْصٍ يُدْرِكُ أَنَّ الْأَفْكَارَ يُمْكِنُ أَنْ تُوْلَدَ فِي أَيِّ عُمْرٍ، فَقَطْ إِنْ أُتِيحَتْ لَهَا الْمَسَاحَةُ …
س٩:
لَوْ خُيِّرْتَ الْيَوْمَ بَيْنَ جَائِزَةٍ كُبْرَى، وَبَيْنَ أَنْ تَقْضِي يَوْمًا وَاحِدًا مَعَ أَحَدِ الْعُلَمَاءِ مِنَ التَّارِيخِ أَوِ الْحَاضِرِ… فَمَنْ تَخْتَارُ؟ وَلِمَاذَا؟
– أخْتَارُ دَوْمًا الْيَوْمَ مَعَ الْعَالِمِ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالنِّسْبَةِ لِي هِيَ أَعْظَمُ جَائِزَةٍ. أَعْتَقِدُ أَنَّنِي أُحِبُّ أَنْ أَقْضِيَ هَذَا الْيَوْمَ مَعَ الْعَالِمِ نِيكُولَا تِسْلَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَابِقًا لِعَصْرِهِ، وَكَانَ يُؤْمِنُ بِأَفْكَارٍ كَثِيرَةٍ لَمْ تُفْهَمْ إِلَّا لَاحِقًا. يُشْبِهُنِي بِشَيْءٍ مَا مِنْ نَاحِيَةِ الْحُلْمِ وَالْخَيَالِ الْعِلْمِيِّ الْمُرْتَبِطِ بِالْوَاقِعِ. أُحِبُّ أَنْ أُنَاقِشَهُ عَنِ الطَّاقَةِ، وَعَنْ رُؤْيَتِهِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَرُبَّمَا أَطْرَحُ عَلَيْهِ بَعْضًا مِنْ أَفْكَارِي… وَأَتَعَلَّمَ مِنْ فِكْرِهِ كَيْفَ أُكْمِلُ مَشْوَارِي.
س١٠:
أَخِيرًا… مَا الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَقُولَهُ لِكُلِّ طِفْلٍ يَقْرَأُ هَذَا الْحِوَارَ، وَيَشْعُرُ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَجِدُ مَنْ يَفْهَمُهُ؟
– أقُولُ لَهُ: لَا تُطْفِئْ نُورَكَ الدَّاخِلِيَّ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَفْهَمْكَ أَحَدٌ. قَدْ تَكُونُ مُخْتَلِفًا، وَلَكِنَّ اخْتِلَافَكَ هُوَ سِرُّكَ وَقُوَّتُكَ. ٱبْحَثْ عَمَّا تُحِبُّ، وَٱقْرَأْ، وَٱسْأَلْ، وَجَرِّبْ… لَا تَنْتَظِرْ إِذْنًا لِكَيْ تُبْدِعَ. وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَكَ فَرِيدًا، فَلَا تُشْبِهْ أَحَدًا، وَلَا تُحَاوِلْ أَنْ تُقَلِّدَ أَحَدًا. فَقَطْ كُنْ نَفْسَكَ، وَذَاتَ يَوْمٍ سَيُدْرِكُ الْعَالَمُ مَنْ أَنْتَ …







































