عبير شمس الدين ..
الحضور ليس في الضّجيج بل في البصمة ..
بقلم : سلمى صوفاناتي
فِي حُضُورِهَا يُصْبِحُ الْحِوَارُ شَبِيهًا بِالْمَرَايَا، وَفِي صَمْتِهَا، تَتَكثَّفُ التَّجْرِبَةُ، لَا فِي عَدَدِ الْأَدْوَارِ، بَلْ فِي عُمْقِهَا.
وُلِدَتْ فِي عَالَمٍ تُطَارِدُ فِيهِ الْأَضْوَاءُ كَالْفَرَاشَاتِ، وَتَذُوبُ الْأَسْمَاءُ فِي زِحَامِ الْأَدْوَارِ، لَكِنْ تَظَلُّ هُنَاكَ وُجُوهٌ كَالْمَخْطُوطَاتِ النَّادِرَةِ، تُقْرَأُ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَتَنْطَبِعُ فِي الذَّاكِرَةِ كَوَشْمٍ لَا يَبْهَتُ.
لَمْ تَدْخُلْ مِنْ بَابِ الشُّهْرَةِ الْعَرِيضِ، بَلْ تَسَلَّلَتْ كَشُعَاعٍ خَجُولٍ عَبْرَ نَوَافِذِ الْإِعْلَانَاتِ التِّسْعِينِيَّةِ فِي دِمَشْقَ، حِينَ كَانَتِ الشَّاشَةُ الصَّغِيرَةُ تُولَدُ مِنْ رَحِمِ الْحَرْبِ وَالسَّلَامِ مَعًا.
لَكِنَّ الْكَامِيرَا، ذَٰلِكَ الْكَائِنُ الْعَارِفُ، اِلْتَقَطَ لَمَعَانَ عَيْنَيْهَا، فَكَانَتْ أُولَى الْهَمَسَاتِ، فَأَصْبَحَتْ إِجَابَةً عَلَى سُؤَالِ الْفَنِّ: عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْمِلَ الْمُتَنَاقِضَاتِ دُونَ أَنْ تَنْكَسِرَ.
مِئَةٌ وَعِشْرُونَ (١٢٠) عَمَلًا تِلْفَزْيُونِيًّا، وَمِئَةٌ وَخَمْسُونَ (١٥٠) دَوْرًا بَيْنَ السِّينِمَا وَالدِّرَامَا وَالْبَرَامِجِ التَّرْفِيهِيَّةِ وَالْهَادِفَةِ، مِنْ ضَحْكَةٍ تَتَدَفَّقُ كَالنَّهْرِ، إِلَى دَمْعَةٍ تَتَشَكَّلُ كَالْبِلَّوْرِ، مِنْ شَامِيَّةٍ بَسِيطَةٍ إِلَى مَلِكَةٍ تَارِيخِيَّةٍ، تَتَحَرَّكُ بَيْنَ الْمَشَاهِدِ كَأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ذَهَبِ الْعُصُورِ.
هِيَ ابْنَةُ “مَرَايَا” الَّتِي حَوَّلَتِ السُّخْرِيَةَ إِلَى فَلْسَفَةٍ، وَابْنَةُ “الْمُسَلْسَلَاتِ الشَّامِيَّةِ” الَّتِي أَعْطَتِ الْحَارَةَ أُنُوثَةً جَدِيدَةً.
وَلَكِنَّهَا فَوْقَ هَذَا كُلِّهِ، ابْنَةُ ذَاتِهَا أَوَّلًا، الَّتِي رَبَّتْ أَبْنَاءَهَا عَلَى أَنْقَاضِ أَحْلَامٍ شَخْصِيَّةٍ، وَوَقَفَتْ فِي وَجْهِ الْعَوَاصِفِ بِجَسَدٍ نَحِيلٍ، وَقَلْبٍ مِنْ رُخَامٍ صَلْدٍ.
الْيَوْمَ، وَعَبْرَ مِنْبَرِ صَحِيفَةِ “الرُّوَّادْ نْيُوز” الدُّوَلِيَّةِ، نُحَاوِرُهَا لَا كَنَجْمَةٍ سَاطِعَةٍ فَحَسْبُ، بَلْ كَشَاهِدَةٍ عَلَى زَمَنٍ فَنِّيٍّ بَكَى وَضَحِكَ مَعًا، وَكِلَاهُمَا لَمْ يَنْدَمْ.
س١:
عِنْدَمَا تَنْظُرِينَ خَلْفَكِ إِلَى الْبِدَايَاتِ، هَلْ تَشْعُرِينَ أَنَّ عَبِيرَ شَمْسِ الدِّينِ اخْتَارَتِ الْفَنَّ، أَمْ أَنَّ الْفَنَّ هُوَ مَنْ اخْتَارَكِ لِتَكُونِي إِحْدَى أَدَوَاتِهِ الصَّادِقَةِ؟
ج:
أَعْتَقِدُ أَنَّ الْفَنَّ هُوَ مَنْ اخْتَارَنِي، لَا الْعَكْس.
دَخَلَ إِلَى حَيَاتِي بِهُدُوءٍ، عَبْرَ إِعْلَانٍ بَسِيطٍ، لَكِنَّهُ اِلْتَقَطَ شَيْئًا فِي دَاخِلِي لَمْ أَكُنْ أَرَاهُ.
لَمْ أَتَعَامَلْ مَعَهُ كَمِهْنَةٍ، بِقَدْرِ مَا هُوَ شَغَفٌ وَرِسَالَةٌ.
كُنْتُ مُسْتَعِدَّةً مُنْذُ الْبِدَايَةِ لِأَكُونَ مِرْآةً لِلْمَشَاعِرِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَظُنُّ أَنَّ الْكَمِيرَا شَعَرَتْ بِذَلِكَ قَبْلِي.
بِاخْتِصَارٍ: لَمْ أَخْتَرِِ الْفَنَّ… أَنَا فَقَطْ لَبَّيْتُ نِدَاءَهُ.
س٢:
فِي عَصْرٍ يَتَسَارَعُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَتَتَهَاوَى فِيهِ الْمَعَايِيرُ أَحْيَانًا، كَيْفَ اسْتَطَعْتِ الْحِفَاظَ عَلَى خُصُوصِيَّةِ أَدَائِكِ، وَعَلَى تِلْكَ الْمَسَافَةِ الْآمِنَةِ بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْإِبْتِذَالِ؟
ج:
فِي عَصْرٍ يُغْرِي بِالسُّرْعَةِ وَالضَّجِيجِ، اخْتَرْتُ أَنْ أَتَمَهَّلَ.
الْخُصُوصِيَّةُ فِي الْإدَاءِ لَا تُصْنَعُ بِالِانْعِزَالِ، بَلْ بِالِانْتِبَاهِ.
كُنْتُ دَائِمًا أُرَاقِبُ الْخَطَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ الْجُرْأَةِ وَالِابْتِذَالِ، وَأَتَجَنَّبُ أَنْ أَكُونَ نُسْخَةً عنْ أَحَدٍ.
اعْتَمَدْتُ عَلَى حَدْسِي، وَعَلَى احْتِرَامِ الْمُتَلَقِّي.
لِأَنَّ الْفَنَّ -بِرَأْيِي- لَيْسَ أَنْ تَقُولَ كُلَّ شَيْءٍ، بَلْ أَنْ تُلَمِّحَ كَثِيرًا وَتَصْمُتَ بِذَكَاءٍ.
س٣:
“الْفَنُّ عِنْدِي مَوْقِفٌ”.. عِبَارَةٌ نَسْمَعُهَا كَثِيرًا، لَكِنْ مِنْ تَجْرِبَتِكِ، مَتَى كَانَ الْفَنُّ مَوْقِفًا حَقِيقِيًّا؟ وَهَلْ دَفَعْتِ ثَمَنًا لِاخْتِيَارَاتِكِ؟
ج:
نَعَمْ، الْفَنُّ عِنْدِي مَوْقِفٌ، لَكِنَّهُ لَا يُقَالُ… بَلْ يُعَاشُ.
كَانَ مَوْقِفًا حَقِيقِيًّا حِينَ رَفَضْتُ أَدْوَارًا مُغْرِيَةً لَمْ تُشْبِهْنِي، وَاخْتَرْتُ الصِّدْقَ عَلَى الِانْتِشَارِ.
وَحِينَ جَسَّدْتُ شَخْصِيَّاتٍ حَمَلَتْ رَسَائِلَ أَكْبَرَ مِنَ الْمَشْهَدِ نَفْسِهِ.
دَفَعْتُ الثَّمَنَ؟ نَعَمْ، أَحْيَانًا تُؤَخِّرُكَ الْمَوَاقِفُ عَنِ الصُّفُوفِ الْأُولَى… وَلَكِنَّهَا تَضْمَنُ أَلَّا تَقِفَ فِي الْمَكَانِ الْخَاطِئِ.
س٤:
فِي زَمَنِ التَّسَرُّعِ وَالْبُرُوزِ اللَّحْظِيِّ، هَلْ تُؤْمِنِينَ أَنَّ الْبَقَاءَ لِلْفَنِّ الْحَقِيقِيِّ؟ أَمْ أَنَّ الْمُعَادَلَةَ تَغَيَّرَتْ؟
ج:
الْبُرُوزُ اللَّحْظِيُّ يُشْبِهُ الْوَمِيضَ… يُبْهِرُكَ لِلَحْظَةٍ، ثُمَّ يَخْتَفِي.
أَمَّا الْفَنُّ الْحَقِيقِيُّ، فَهُوَ كَالْجَذْرِ… لَا تَرَاهُ دَائِمًا، وَلَكِنَّهُ مَا يُبْقِي الشَّجَرَةَ وَاقِفَةً.
الْمُعَادَلَةُ تَغَيَّرَتْ، نَعَمْ… وَلَكِنَّ الزَّمَنَ فِي النِّهَايَةِ يُصَفِّي، وَيُبْقِي مَا يَسْتَحِقُّ.
س٥:
لَعِبْتِ أَدْوَارًا حَمَلَتْ رَسَائِلَ اِجْتِمَاعِيَّةً شَدِيدَةَ الْعُمْقِ، خُصُوصًا فِي قَضَايَا الْمَرْأَةِ… مَا الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ أَنْ تُؤَدِّيَ دَوْرَ الْمَرْأَةِ، وَأَنْ تُدَافِعِي عَنْهَا؟
ج:
أَدَاءُ دَوْرِ الْمَرْأَةِ لَا يَكْفِي… الْمُهِمُّ أَنْ تُصَدِّقِيهَا.
الْحَدُّ بَيْنَ التَّمْثِيلِ وَالدِّفَاعِ يَزُولُ حِينَ تُؤَدِّينَ الْحَقِيقَةَ، لَا الشَّخْصِيَّةَ فَقَطْ.
أَنَا لَا أَرْفَعُ شِعَارَاتٍ… وَلَكِنَّنِي أُؤْمِنُ أَنَّ كُلَّ مَشْهَدٍ صَادِقٍ هُوَ صَوْتُ امْرَأَةٍ لَا تُجِيدُ الصُّرَاخَ، فَأَتَكَلَّمُ عَنْهَا.
س٦:
نَرَاكِ دَائِمًا قَرِيبَةً مِنَ الْكَمِيرَا، وَلَكِنَّكِ تَحْتَفِظِينَ بِمَسَافَةٍ ذَكِيَّةٍ مِنَ الضَّوْءِ… هَلْ هِيَ فَلْسَفَةُ حُضُورٍ، أَمْ حِمَايَةٌ لِلنَّفْسِ؟
ج:
هِيَ مَزِيجٌ مِنَ الْفَلْسَفَةِ وَالْحِمَايَةِ.
أَقْتَرِبُ مِنَ الْكَمِيرَا لِأَنَّهَا مِرْآتِي، وَأَبْتَعِدُ عَنِ الضَّوْءِ لِأَنَّهُ لَا يُظْهِرُ كُلَّ شَيْءٍ… وَأَحْيَانًا يُحْرِقُ.
الْحُضُورُ لَيْسَ فِي الضَّجِيجِ، بَلْ فِي الْبَصْمَةِ… وَأَنَا أُفَضِّلُ أَنْ يُرَى أَثَرِي، لَا وَجْهِي فَقَطْ.
س٧:
لَوْ طُلِبَ مِنْكِ أَنْ تَخْتَصِرِي تَجْرِبَتَكِ الْفَنِّيَّةَ بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ تُقَالُ لِفَتَاةٍ شَابَّةٍ تَحْلُمُ بِالْوُقُوفِ أَمَامَ الْكَمِيرَا… مَاذَا تَقُولِينَ؟
ج:
لَا تَرْكُضِي نَحْوَ الْكَمِيرَا… ارْكُضِي نَحْوَ الْحَقِيقَةِ، وَسَتَجِدُكِ هِيَ.
س٨:
كَلِمَةٌ أَخِيرَةٌ لِصَحِيفَةِ “الرُّوَّادْ نْيُوز” الدُّوَلِيَّةِ؟
ج:
لِكُلِّ مِنْبَرٍ يُنْصِتُ لَا لِيُقَاطِعَ، وَيَبْحَثُ لَا لِيُجَمِّلَ… شُكْرًا لِصَحِيفَةِ “الرُّوَّادْ نْيُوز” لِأَنَّهَا جَعَلَتْ مِنَ الْحِوَارِ مَسَاحَةَ فِكْرٍ، لَا مُجَرَّدَ فَقْرَةٍ عَابِرَةٍ.






































