عمر سميرات يكتب
يوم، ليس كسائر أيام هذا المخلوق البائس في كلّ تفاصيله، اختلف شعوره فاندحر للأسوأ، وازداد حنقه فأصبح لا يحتمل أيّ كلمة حتّى باتَ يكافح نفسه ليبقى صامتًا أطول فترة ممكنة، ليس لشيء فقط كي لا يرمي بسهام كلامه المسمومة على الأبرياء من حوله، وأن لا يجرح من لا ذنب له.
على طبيعة الحال، عندما يجتاح الضّيق صدره ويصبح عَكِرَ المزاج، تقوده قدماه إلى أحد الأماكن الّتي لا يعلم بوجودها سواه(ممّن هم بعمره أقصد).
يمشي إلى ذلك المقهى القديم المنسي والّذي يملأه العجائز والمتقاعدين ومن لا عمل له كحالته.
يسير بخطى متفاوتة السّرعة، تارةً ما يزيد سرعته ويفتح قدميه ليقطع مسافة أكبر، وأخرى يماطل ويبطء حركته وهو يخاطب نفسه كالمجنون : ولمَ العجلة ؟ أهناك من ينتظرني، أم اذهب لأنتظر أحد.
إنّ ما أفعله غريب، لا أدرك ما أقوم به إلاّ عند سماع صوت ضحكات الأناس حولي علي غرابتي وتصرفاتي اللاّمفهومة، ها أنا ذا عدت.
بطلةٍ كلاسيكية ومنظر لا يسرّ إلى حد ما، يدخل عمر باب المقهى، شبيه الباب أقصد، فهو كيس بلاستيكي شفاف مشقوق من المنتصف وليس بابًا.
يدخل بقدمه اليمنى تِباعًا لتعليمات العجوز الخرِف صاحب القهوة وهو يقف يرصد كل من يدخل ليقول له بأن يدخل بيُمناه(كي لا تنقطع البركة والرّزق كما يقول).
يا لهذه القامة المهزوزة والشّخصية الضّعيفة، ينظر الجميع إلى تصرفاته المريبة، نظرات عينيه الشكّاكتان، ظهره الأحدب وكتفيه العريضان ولون وجهه الشّاحب وحركاته الّتي تجعلك تقول بأنّه شخص مجنون حقًا.
وعلى الرّغم من ذلك، يحاول التّظاهر بالبرود واللّامبالاة، والتّماسك والصّلابة بوضع يديه بجيوب معطفه، ولكن طبعه الهش يفضح تمثيله الزّائف.
أمّا المقهى فكان قديمًا وأثاثه رثّ متهالك كمن يجلس به.
الجدران زال لونها وبهَت، والسّقف متشقق ويسرب المطر في بعض المنخفضات الشّتوية القوية، ويعجّ بالقدامى العُجّز.
إنّه مكان أقل من أن يُذكر لشدّة بساطته، بل البساطة أعلى منه شأنًا إن صح الوصف فهو بشع.
دخل بخطى ثابتة إلى ركنه المعزول المعتاد الواقع في نهاية هذا المقهى، وجلس.
أتى العجوز بطلب عمر المعتاد، الحليب السّاخن بالقرنفل.
وضعه أمامه دون التّفوه بأي كلمة، نظر إليه بطرف عينه ورحل وهو يتمتم مع نفسه(يا لهذا المجنون).
قد سمعه، ولم يعره أية أهمّية، لطالما سمع مثل هذه العبارات تلقى عليه بكلّ دم بارد، وكأنّ لا شعور له.
أيّها المجنون، الأبله، السّاذج، المختل عقليا، وغيرهن من الكلمات الّتي ينعتونه بها.
أخذ رشفةً من الحليب وابتسم، كان يحادث نفسه والجميع يلاحظ ذلك، وفي كل مرّة يخاطب نفسه ويسخرون منه، لكنّه لا يكترث.
في هذا اليوم تحديدًا، حواره الجنوني مع ذاته كان قصيرًا لدرجة أنّه لم يكمل مشروبه، نهض ورتب نفسه ثمّ ذهب.
عند خروجه من المقهى، كان أحد المارّة في الطّريق صديقه محمود طيب الطبع حسن الخلق، أقبل إليه وهو يضحك فرحا برؤيته و عمر عابس الوجه شاردًا به وهو يتقدم نحوه.
سأله محمود بكل غبطة وسرور:
– أوه عمر كيف حالك؟ ماذا جاء بك هنا إلى هذا المكان المعزول عن الوجود؟
أخذ نفسًا عميقًا وأجاب بكلّ مشقة:
– لا شيء، إنـ..إنّني دائماً ..
– لا تقل لي بأنّك تجلس بمقهى العجائز هذا !
يبدو أنّك كذلك..
– نعم
– ولمَ؟
بلا أيّ مقدمات، ولا تنعتني بالمجنون كالباقين.
آتي إلى هنا لأعيد نفسي الّتي رحلت، يا صاح تالله إنّي اشتقت لنفسي !
لا شيء يسعدني، ولا يوجد ما يروقني، كلّ ما في العالم يعكر صفو حياتي وينرفزني.
يا صديقي أبحث عن نفسي، فلو كانت معك ردّها لي.. أرجوك !
أنا لا أبالغ ولا أصنع الدّراما، ألم تلحظ التّغيير عليّ !
قد تغيرت في كلّ شيء، داخلي وخارجي.
إنّ طباعي غدت هي أسوأ الطّباع، وأسلوبي لهو الأفظع، وخُلقتي الأبشع، بتّّ كالشّياطين يا صاحبي !
إنّني مهجور من الدّاخل ومنسيّ في الوجود.
لا أحد يذكرني ولا أذكر نفسي ولست أدرك أيّ أثر قديم منها.. كم أشتهي الضّحك النّابع من قلبي، وكم أود أن يعانقني أحدهم بكل حبّ ويعصرني بين ذراعيه، ليس لشيء، إنّني فعلاً أرغب بذلك ! ااه يا صديقي الحميم !
أفتش عن عمر القديم فلا أجده، أكلّم نفسي وأشتمها لتعيده فلم تُجب، أهذا جنون وعته؟ قل لي؟
لا تحسب أنّني لا أسمع انتقاداتهم وأجهل انتقاداتهم، إنّني على علم بكلّ شيء، وأعلم بأنّك تقول بداخلك أنّ الّذي أمامك لهو امرءٍ معتوه.
ها أنتَ تنكس رأسك ويحمرّ وجهك، إنّني صادق، أخبرتك بأنّي أعلم كل ما يقال عنّي وما يجول بأنفسكم جميعًا.
لست بمجنون ولا بفاقد ذاكرتي، أنا فاقد لذاتي فقط.
أبحث عن نفسي لربّما معك ومعه ومعها، آهٍ على حالتي المذرية.
لا فائدة..سأرحل.
إيّاك والظّهور أمامي مرّة أخرى. إلى اللّقاء، لا هذا يعني سأراك ثانيةً، الوداع.
Discussion about this post