#دراسات
“بقايا وشم: تشظي السرد والتفاعل الجدلي بين الذات والآخر في محكيات الكاتبة مريم أبوري”
نور الدين طاهري
بقايا وشم لمريم أبوري ليست مجرد محكيات تجري على لسان السارد، بل هي تشكلات نصية تحاكي تفاعلا جدليا بين الذات والآخر، بين الرغبة في التحول والخضوع لقهر الواقع. تنحو الكاتبة في عملها إلى كسر النسق التقليدي للحكي، منتجة نصًا متشظيا، يدعو القارئ إلى ملء الفجوات السردية.
“بقايا وشم” للكاتبة مريم أبوري ليست مجرد نصوص سردية تقليدية تُحكى على ألسنة شخوصها أو تكتفي برصد وقائعها، بل هي تجربة أدبية تجسد تفاعلا جدليا مع الواقع الذي يفرض قهره، والذات التي تقاوم عبر اللغة والانعتاق السردي. تشكّل هذه المحكيات مشروعا نصيا متعدد الطبقات، يتجاوز السطحية، ليحفر عميقًا في الأسئلة الاجتماعية والوجودية، متخذًا من التشظي البنيوي استراتيجية للتعبير عن تعقيد التجربة الإنسانية.
يتّسم النص في “بقايا وشم” ببنية مفتوحة غير تقليدية، وتتخلخل الخطية السردية لصالح بناء سردي متشعب، يجعل من كل نص وحدة قائمة بذاتها، لكن لا تخلو من وشائج خفية تربطها بباقي النصوص، مشكلة نسيجا سرديا متشابكا. تتبنى الكاتبة مفهوم “القصص الدائرية” أو “السرد المفتوح”، حيث يمكن للقارئ أن يبدأ من أي نص دون فقدان السياق الكلي، مما يعكس طبيعة الحياة المعاصرة التي تتميز بالتشظي والتعقيد.
هذه البنية المتشظية ليست محض اختيار شكلي، بل هي انعكاس لرؤية الكاتبة للواقع بوصفه متاهة من العلاقات الإنسانية والقضايا المتداخلة. إن النصوص هنا لا تلتزم بنهاية مغلقة أو دلالات محددة، بل تُبقي الباب مفتوحًا أمام القارئ للتأويل، فتتحول القراءة إلى عملية تأملية ذاتية، تُدخله في صميم التساؤل الوجودي.
في عمق هذه المحكيات، يبرز صراع الذات مع الآخر كموضوع مركزي، إذ تقف الشخصيات في مواجهة منظومة اجتماعية تتسم بالصرامة والتناقض. هذه الشخصيات، التي تتأرجح بين الحلم والخيبة، ترصدها عين السارد، ليس كمتفرج محايد، بل كفاعل نقدي، يفضح التشوهات الاجتماعية والثقافية ويضعها تحت المجهر. هذا الصراع يأخذ شكلا رمزيا في نصوص مثل “غزة تقصف”، حيث يتم تمثيل الثنائية الجدلية بين المأساة الجماعية واللامبالاة الفردية، بين الشجب النظري والمشاركة الفعلية في منظومة الظلم.
إن التفاعل السردي في “بقايا وشم” لا يكتفي برصد المعيش كما هو، بل يتجاوزه إلى طرح رؤى إصلاحية كامنة. السرد هنا ليس انعكاسا سلبيا لواقع متردٍ، بل هو محاولة لتفكيكه وإعادة تركيبه. نجد ذلك في لغة النصوص التي تحتفظ بقدرتها على الإدانة دون الوقوع في المباشرة، وعلى التحريض دون أن تفقد شفافيتها الجمالية. هذه الرؤية الإصلاحية تبرز في محاولات الشخصيات البحث عن صوتها الخاص داخل مجتمع يعاني من الاستلاب المادي والقيمي، ليصبح الحكي ذاته وسيلة لمقاومة السقوط في بلادة الروتين والخضوع للمأساة كقدر محتوم.
تتسم لغة المحكيات بكثافتها التعبيرية ودقتها، حيث تمتزج الشفافية الظاهرة مع العمق الكامن. اللغة في “بقايا وشم” ليست أداة لنقل الوقائع فحسب، بل هي كيان جمالي مستقل، يحمل في طياته انفعالات الشخصيات وحالاتها النفسية. تسير اللغة على حبل مشدود بين المباشرة والرمزية، مما يمنح النصوص بُعدا شعريا، خاصة في وصفها للعلاقات الإنسانية والصراعات الداخلية.
تتميز نصوص المجموعة بقدرتها على محاورة الزمن عبر تمثيل العلاقة المعقدة بين الماضي والحاضر. هناك حنين إلى الماضي، لكنه ليس حنينا تقليديا، بل هو دعوة لفهم الحاضر من خلال جدلية العودة إلى الجذور ومساءلة الذاكرة. في نصوص مثل “لا شمس تشرق يوم الأحد”، يتحول الملل اليومي إلى استدعاء للحظات ماضية تُبرز الفجوة بين ما كنا نطمح إليه وما أصبحنا عليه.
تستخدم الكاتبة الرمز كأداة لتكثيف المعنى، حيث تتحول الأشياء البسيطة إلى حامل لدلالات أكبر. الشاشة، الحذاء، والنافذة ليست مجرد أدوات أو تفاصيل يومية، بل هي رموز لصراعات أعمق: شاشة الحاسوب قد تمثل الانغماس في القضايا الكونية على حساب الحميمية الإنسانية، بينما الحذاء المكعب لعزيزة في نص “غزة تقصف” يرمز إلى الصخب العشوائي الذي يطغى على لحظات الحقيقة.
“بقايا وشم” ليست مجرد مجموعة من المحكيات، بل هي لوحة متعددة الطبقات، تنسج خيوطها بين القضايا الاجتماعية الكبرى والتفاصيل اليومية الدقيقة. إنها دعوة مفتوحة للقارئ للتفكير في ذاته وعلاقاته مع الآخر ومع الزمن. النصوص هنا لا تقدم إجابات جاهزة، بل تدفع القارئ إلى رحلة تأملية عميقة، تُبرز التناقضات التي تشكل جوهر الوجود الإنساني.
النصوص في كتاب “بقايا وشم” لمريم أبوري تمثل بنية سردية مبتكرة، تتجاوز الأطر التقليدية للقصة القصيرة أو الرواية، حيث تفتح الباب أمام نمط جديد من الحكي، يعتمد على التداخل والتشظي، بدلًا من التسلسل السردي الصارم. هذه البنية المفتوحة ليست مجرد شكل أدبي، بل هي انعكاس لرؤية فلسفية وفنية تُحاكي تشابك الوجود الإنساني وتعقيده، مما يمنح القارئ تجربة متعددة الأبعاد.
النصوص لا تخضع لحبكة تقليدية ذات بداية وذروة ونهاية، بل تُقدّم عوضا عن ذلك بناء سرديا مفتوحا يُمكّن القارئ من الدخول إلى عالم النصوص من أي نقطة دون فقدان التواصل مع الرؤية العامة.
البنية المفتوحة تتحدى القارئ وتجعل من قراءته عملية تأملية تفاعلية، حيث يجد نفسه مضطرًا لملء الفجوات السردية، وربط الحكايات المتفرقة ضمن نسيج دلالي واسع. هذه الحرية تمنح النصوص حيوية استثنائية وتُقارب في جوهرها مفهوم “النص الموزايكي”، حيث تصبح كل قطعة سردية وحدة مستقلة بذاتها، لكنها تحمل خيطا خفيا يصلها ببقية النصوص.
هذا التشظي البنيوي يُحاكي الواقع الحديث الذي يتميز بالتعقيد والتشظي، حيث لم تعد الحياة ذات مسارات خطية واضحة. الكاتبة تجعل من البنية المفتوحة أداة لتجسيد التشابك بين القضايا الفردية والجماعية، وبين الخاص والعام، وبين اللحظي والأبدي.
اللغة في “بقايا وشم” تتسم بخصوصية فريدة، فهي شفافة في ظاهرها لكنها ممتلئة بالرموز والدلالات العميقة التي تحتاج إلى قارئ متمرس لتفكيكها.
الكاتبة تُبقي النصوص قريبة من القارئ عبر لغة يومية مألوفة في بعض المواضع، تجعل القارئ يشعر بالقرب من الشخصيات والحكايات. لكن هذه الشفافية تخفي وراءها طبقات من الرمزية التي تجعل من النصوص أكثر تعقيدا مما تبدو عليه.
اللغة تتحول إلى أداة لخلق مشاهد سردية تتجاوز حدود الواقع لتصبح محمّلة بمعانٍ أوسع. على سبيل المثال، في نص “غزة تقصف”:
– شاشة الحاسوب ليست مجرد أداة تقنية، بل هي رمز للانفصال عن الواقع، والانغماس في عالم بعيد، حيث يكون الإنسان شاهدا عاجزا أمام مأساة كونية.
– خطوات عزيزة الصاخبة تمثل احتجاجها على الصمت القاتل في حياة سعيد، فيتحول الصوت إلى رمز للصدام بينهما.
تشكل الحوارات الداخلية للشخصيات إحدى أعمدة النصوص، وتسمح للقارئ بالتغلغل في أعماق الشخصيات النفسية، وكشف صراعاتها الداخلية وتناقضاتها. هذه الحوارات ليست أداة لنقل الأحداث فقط، بل هي وسيلة لرصد التحولات النفسية للشخصيات:
– كاشفة للصراعات الداخلية:
في “غزة تقصف”، يظهر الحوار الداخلي كساحة صراع بين الواجب الأخلاقي والإحباط، بين إدراك المأساة والعجز عن الفعل. سعيد يُعبر في داخله عن ألم رؤية غزة تُقصف، لكنه في الآن ذاته يعيش تناقضًا مع زوجته عزيزة، التي ترى في اهتمامه بغزة هروبا من واقعهما الشخصي.
– البعد التأملي:
الحوارات الداخلية تتيح للشخصيات مساحة للتأمل، سواء في الذات أو في الآخرين، مما يضيف بعدا فلسفيا إلى النصوص. تتساءل الشخصيات بشكل مستمر عن معاني وجودها ومواقفها من الواقع، وهو ما يجعل النصوص تفتح أبوابًا للتفكير بدل تقديم إجابات جاهزة.
النصوص تتسم بإيقاع سردي ديناميكي، يتراوح بين لحظات متوترة تزدحم فيها الأحداث، وأخرى هادئة تتسم بالتأمل والتفصيل. هذا التفاوت يخلق توازنا داخل النصوص ويعكس طبيعة الحياة التي تتأرجح بين الانفعال والسكينة.
– لحظات التوتر:
تظهر في النصوص التي تتناول الأزمات الكبرى أو الصدامات العاطفية، حيث يتسارع السرد ويصبح الإيقاع مشحونا، مثل مشهد مواجهة سعيد وعزيزة في “غزة تقصف”، الذي يعكس انفجار التوتر بينهما.
– لحظات الهدوء:
تُستخدم للتأمل في التفاصيل اليومية أو استكشاف العلاقات الإنسانية، كما في نصوص مثل “لا شمس تشرق يوم الأحد”، حيث ينحسر السرد في تفاصيل الحياة اليومية، لكنه لا يفقد عمقه في رصد هشاشة العلاقات الزوجية.
الكاتبة تعتمد بشكل كبير على الصور الحسية والبصرية لتقديم عوالم النصوص. المشاهد تُبنى بعناية عبر وصف دقيق للحركات والأصوات والأشياء، مما يجعل النصوص أقرب إلى مشاهد سينمائية.
على سبيل المثال:
– في نص “غزة تقصف”، تتحول الخطوات العنيفة لعزيزة وصوت ارتطام حذائها بالأرض إلى دقات طبول، تعكس التوتر بين الشخصيتين.
– التفاصيل الحسية تُستخدم لخلق شعور بالمكان، كتصوير رائحة الطعام في نصوص الحياة اليومية، مما يجعل القارئ يعيش التجربة مع الشخصيات.
رغم أن كل نص يُقدّم كحكاية مستقلة، إلا أن النصوص تتشابك دلاليا وموضوعيا. القضايا التي تناقشها النصوص، مثل القهر الاجتماعي، والاغتراب، والبحث عن الهوية، تخلق خيطا دلاليا يربط بين النصوص، مما يمنح العمل وحدة عضوية رغم تشظيه.
على سبيل المثال:
– القضايا الإنسانية الكبرى مثل الظلم والقهر تتكرر بأشكال مختلفة في نصوص مثل “غزة تقصف” و”الفواجع لا تلين القلوب”.
– التداخل الزمني يظهر في الإشارات المتكررة للحاضر والماضي، مما يجعل النصوص تعيد ترتيب الزمن وتخلقه بشكل جديد.
الشكل في “بقايا وشم” ليس مجرد إطار لنقل المضمون، بل هو جزء أساسي من الرؤية الإبداعية للكاتبة. البنية المفتوحة، اللغة المتعددة الطبقات، الحوارات الداخلية، والإيقاع السردي المتفاوت، كل ذلك يجعل النصوص متميزة وعميقة. الشكل هنا لا يعكس فقط تشظي الواقع، بل يفتح أفقا جديدا للتفاعل مع النصوص، حيث يصبح القارئ شريكًا في بناء المعنى وتأويله. بهذا، تحقق الكاتبة تجربة سردية فريدة تتحدى التلقي التقليدي وتدعو إلى قراءة متأنية وعميقة.
المحكيات في “بقايا وشم” تُقدّم محتوى عميقًا يعالج قضايا إنسانية واجتماعية شائكة تتراوح بين القهر الاجتماعي، الانهيارات القيمية، معضلة الهوية، والبحث عن الذات. هذه القضايا لا تُطرح بشكل مباشر، بل من خلال مواقف حياتية وأحداث يومية تتشابك مع تأملات فلسفية وأبعاد نفسية. الكاتبة لا تنقل الواقع كما هو، بل تحلله وتعيد صياغته بطريقة تجعله أكثر كثافة ودلالة.
النصوص تُبرز بوضوح مظاهر القهر الاجتماعي التي تهيمن على شخصياتها، سواء كان ذلك عبر قضايا الظلم الاجتماعي، التهميش، أو الانتهاكات اليومية التي تُمارس بشكل ممنهج. على سبيل المثال:
– “الفواجع لا تلين القلوب”:
النص يتناول مأساة نساء الصويرة اللواتي فقدن حياتهن في سبيل الحصول على قفة المؤونة، مما يُبرز عمق الأزمة الإنسانية الناتجة عن الفقر وسوء التنظيم. المشهد الذي يُعرض فيه إبراهيم وهو يشاهد أشرطة الفاجعة يمثل إحباطا يتجاوز الموقف الآني ليعبر عن خيبة أمل أوسع تجاه فشل المجتمع في حماية أضعف فئاته.
لكن النص لا يكتفي برصد الألم، بل يُبرز نقدًا اجتماعيًا لغياب العدالة والقيم الإنسانية. نظرة فاطمة المتشائمة في النص إلى أن الفواجع تُنسى سريعًا، تفتح تساؤلا وجوديا حول قدرة الإنسان على مواجهة الألم والاستفادة منه، أو استسلامه للتبلد العاطفي.
– “عواشر المرأة”:
النص ينتقد بشكل ساخر النظرة الاحتفالية السطحية للمرأة في “يومها الوطني”، حيث تُختزل مكانتها في أدوار تقليدية ترتبط بتقديم الخدمات المنزلية، مثل إعداد موائد المناسبات. يُقدم عبد الكريم وعائشة كتمثيل لنقاش أوسع حول التهميش المجتمعي للمرأة رغم مظاهر الاحتفاء الزائف، مما يجعل النص دعوة لتأمل الفجوة بين الصورة الاجتماعية وما يكمن خلفها من تهميش حقيقي.
الهوية في “بقايا وشم” ليست مفهوما ثابتا، بل هي في حالة صراع دائم. الشخصيات في النصوص تعيش ازدواجية بين محاولاتها للحفاظ على جذورها وبين ضغوط الواقع الذي يدفعها للتنازل عن هذه الجذور. يظهر هذا بشكل بارز في النصوص التي تتناول العلاقة مع الآخر، سواء كان ذلك الآخر مجتمعيا أو ثقافيا.
– “لا شمس تشرق يوم الأحد”:
في هذا النص، يُستخدم الملل كإطار لطرح أسئلة عميقة حول الهوية الزوجية ودور الفرد داخل المؤسسة الأسرية. العلاقة بين خالد وخديجة تتجاوز كونها انعكاسا للصراع اليومي بين الأزواج، لتصبح مرآة للخلل القيمي الذي يعانيه المجتمع. خالد، الذي يهرب إلى النوم والتكاسل، يُمثل نموذجًا للفرد الذي يخشى مواجهة ذاته أو إعادة تعريف دوره، بينما خديجة تُبرز الجانب النشط في محاولة إصلاح هذا الواقع، لكنها تفعل ذلك بطريقة ساخرة تعكس استياءها من توزيع الأدوار غير المتوازن.
– “صلاة استسقاء رغم أنف الأرصاد الجوية”:
في هذا النص، تُناقش الهوية الدينية والاجتماعية في سياق جدلي، ويتساءل محمد عن جدوى صلاة الاستسقاء في ظل توقعات الأرصاد الجوية بهطول الأمطار. هذا التساؤل لا يتعلق بالدين فقط، بل يعكس أزمة هوية أعمق تتعلق بمدى انسجام القيم الدينية مع التغيرات الحداثية. النص يدعو القارئ للتفكير في العلاقة بين الطقوس الجماعية والوعي الفردي.
النصوص تُبرز قدرة الكاتبة على تحويل التفاصيل اليومية البسيطة إلى مشاهد تحمل أبعادًا فلسفية واجتماعية. الحياة اليومية في “بقايا وشم” ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي أداة لتفكيك العلاقات الإنسانية والتوترات النفسية التي تحكمها.
– “لا شمس تشرق يوم الأحد”:
النص يتناول يومًا عاديًا في حياة زوجين، لكنه يُبرز كيف يمكن للملل والتفاصيل الصغيرة أن تكشف عن التوترات العميقة في العلاقة. خالد، الذي يعتبر يوم الأحد مملا، يُمثل نموذجا للهرب من المسؤولية، بينما خديجة، التي تعتبره يومًا مرهقا، تكشف عن الظلم الكامن في توزيع الأدوار داخل الأسرة. النص يُبرز التناقض بين النظرة السطحية للحياة اليومية وما تحمله من صراعات داخلية.
– “عواشر المرأة”:
تفاصيل إعداد الطعام وترتيب المائدة تتحول إلى رموز للتهميش الاجتماعي والدور النمطي المفروض على المرأة. عائشة تُحاول، بأسئلتها الساخرة لعبد الكريم، أن تفتح نافذة للتفكير في هذه القيود، لكن النص لا يُقدم إجابات جاهزة، بل يترك القارئ أمام مسؤولية التأمل.
المحكيات مليئة بالرموز التي تجعل القارئ يتجاوز المعنى المباشر للنصوص إلى مستويات أعمق. الأحداث اليومية تصبح مشبعة بالمعاني، مما يمنح النصوص قدرة على التعبير عن مشاعر إنسانية معقدة.
– الرموز المادية والبصرية:
في “الفواجع لا تلين القلوب”: القفطان الذي ترتديه فاطمة يصبح رمزا للارتباط بالجذور والتقاليد، بينما حضنها للمجموعة القصصية يعكس شوقها لحماية القيم الإنسانية التي تمثلها الشخصيات داخل الكتاب.
– الانفعالات الشعورية:
الانفعالات ليست مباشرة، بل تُبنى تدريجيا من خلال الحوار والسرد. شخصيات مثل فاطمة أو خديجة تُعبر عن استيائها بطريقة ضمنية تحمل الكثير من الحزن والإحباط، مما يجعل النصوص عاطفية دون الوقوع في المباشرة.
المضمون في “بقايا وشم” ليس مجرد طرح لقضايا اجتماعية وسياسية، بل هو رحلة تأملية عميقة في صميم التجربة الإنسانية. القهر الاجتماعي، الهوية، والانتماء ليست موضوعات يتم تناولها بشكل نمطي، بل تُطرح من خلال مواقف حياتية يومية تجعل القارئ يعيش التجربة مع الشخصيات. الرمزية، الانفعالات، والحياة اليومية تتحول إلى أدوات لتفكيك الواقع وإعادة تأمله، مما يجعل المضمون في هذا الكتاب متشابكا ومعقدا، يدعو القارئ للغوص في أعماقه.
النصوص في “بقايا وشم” تتسم بتشكيل صور سردية متقنة تدمج بين الرمز والتضاد لتكثيف المعنى. الرمزية تسهم في تحويل التفاصيل اليومية إلى مفاتيح تفتح أبواب التأويل. شاشة الحاسوب، مثلا، تتجاوز وظيفتها المادية لتصبح نافذة على العزلة والانفصال؛ إذ يجلس إبراهيم أمامها في نص “الفواجع لا تلين القلوب” وهو يشاهد مشاهد الكارثة، فيبدو كأنه متصل بالحدث، لكنه في الوقت نفسه غارق في حالة من العجز التام عن الفعل، مما يجعل الشاشة رمزًا لمفارقة الوعي السلبي في عصر التكنولوجيا. وعلى النقيض، تتحرك فاطمة في النص بحيوية، منشغلة بتفاصيلها اليومية، لكن هذه الحركة تحمل استسلاما ضمنيا لنمط حياة لا يتيح لها تجاوز المعاناة، مما يخلق تناقضا بين حركة الجسد وثبات الروح.
الحذاء في نصوص أخرى يُستخدم كرمز للصخب اليومي، كما في “لا شمس تشرق يوم الأحد”، حيث تصبح خطوات خديجة أثناء إعداد الطعام أشبه بإيقاع متكرر يعكس العبء الروتيني الذي تحمله النساء في حياتهن اليومية. الحذاء هنا لا يتوقف عند كونه شيئا ملموسا، بل يرمز إلى ثقل المهام اليومية وصخب الحياة المادية التي تُعيق الشخصيات عن التعمق في ذواتها.
التضاد يُشكّل عنصرا محوريا في النصوص، ويظهر بوضوح في الحوارات التي تجري بين الشخصيات. في “لا شمس تشرق يوم الأحد”، يتجلى هذا التضاد بين خالد، الذي يغرق في حالة من الكسل ويعتبر اليوم فرصة للراحة، وخديجة، التي تراه يوما شاقا بسبب الأعباء المنزلية. التضاد بين وجهتي نظرهما لا يعكس فقط صراعا على توزيع الأدوار، بل يُبرز أيضا تفاوت الوعي بالمسؤوليات الاجتماعية بين الجنسين. التضاد يتسع ليشمل العلاقة بين الثبات والحركة؛ حيث نجد أن خديجة تتحرك دون توقف في مساحات المنزل، بينما يبقى خالد ثابتا في مكانه، مما يعكس فارقا رمزيا بين الإرادة والفعل.
الأطعمة التي تظهر في النصوص، مثل طبق الكسكس في “صلاة استسقاء رغم أنف الأرصاد الجوية”، تتجاوز كونها عناصر يومية لتصبح رموزا للقيم الاجتماعية والتقاليد. الكسكس، الذي يُعتبر رمزا للحميمية واللمة، يتناقض مع فكرة أداء صلاة الاستسقاء في ظروف معلنة مسبقا بأنها غير ضرورية. هذا التناقض يعكس صراعا داخليا بين الالتزام بالطقوس الدينية والاجتماعية والتفكير العقلاني الذي يُحاول مساءلة هذه الممارسات.
الصور السردية تدمج بين الرمزية والتضاد لتشكّل رؤية سردية عميقة، حيث تتحول الحياة اليومية إلى فضاء يختلط فيه الأمل باليأس. الرموز المادية كالحذاء والطعام، والصور المعنوية كالحركة والثبات، تتشابك لتقدم نصوصا لا تكتفي بوصف الواقع، بل تحاوره وتحلل تعقيداته، مما يجعل النصوص دعوة مفتوحة للتأمل.
النصوص في “بقايا وشم” تمتلك قدرة مميزة على الجمع بين المحلي والكوني، إذ تنطلق من تفاصيل الحياة اليومية البسيطة لتتجاوز حدود الزمان والمكان، مما يجعلها قادرة على ملامسة القضايا الإنسانية الشاملة. هذا الجمع بين المحلي والكوني يعكس وعيا سرديا عميقا، حيث تُبرز الكاتبة من خلال قصصها تفاصيل تعكس طبيعة الثقافة والبيئة المحلية، مثل إعداد الطعام أو طقوس اجتماعية كصلاة الاستسقاء، لكنها تجعل هذه التفاصيل جزءا من سياق أوسع يُحاكي التجربة الإنسانية في عمومها. على سبيل المثال، مشهد النساء في نص “عواشر المرأة” لا يعبر فقط عن مظاهر الاحتفاء بالمرأة في مجتمع معين، بل يتحول إلى صورة عالمية تعكس معاناة النساء في المجتمعات التي تضعهن في أطر نمطية محددة، فيصبح النص نقدا للقوالب الاجتماعية التي تعيق تحقيق المساواة.
ومع ذلك، يُلاحظ أحيانا ميل النصوص إلى إطالة الحوارات، مما قد يُضعف من إيقاع السرد في بعض المواضع. هذا التطويل، رغم ما يحمله من تعمق في الشخصيات وصراعاتها الداخلية، قد يثقل النصوص ويدفع القارئ أحيانا إلى الشعور بالرتابة. على سبيل المثال، في نص “لا شمس تشرق يوم الأحد”، يتكرر الحوار بين خالد وخديجة بشكل يُبرز تضاد وجهتي نظرهما، لكنه يمتد في بعض المواضع إلى تفاصيل قد تُعد زائدة عن الحاجة، مما يبطئ من تدفق النص ويُضعف من أثر الرسالة التي يريد إيصالها. ربما كان من الممكن تكثيف هذه الحوارات دون الإخلال بالدلالات التي تحملها.
الإصلاحية الكامنة في رؤية الكاتبة السردية تُعد من أبرز سمات النصوص، حيث تسعى مريم أبوري من خلال قصصها إلى دفع القارئ لإعادة النظر في واقع معيشه، وكأنها تدعوه إلى تفكيك المسلمات الاجتماعية وإعادة بناء فهمه للعالم. النصوص لا تكتفي برصد الظواهر، بل تُقدم رؤية نقدية لها، كما في نص “الفواجع لا تلين القلوب”، الذي يتناول مأساة نساء الصويرة كرمز لفشل المنظومة المجتمعية في حماية الفئات المهمشة. هذا الطرح النقدي لا يتوقف عند حدود التنديد، بل يدعو القارئ للتأمل في جذور هذه المآسي وآليات تجاوزها. الإصلاحية تتجلى أيضًا في شخصيات النصوص التي تعيش صراعات مع محيطها، لكنها تظل تبحث عن منافذ للتحرر أو الحلول، مما يجعل النصوص تقدم أفقا للتغيير بدلا من الاكتفاء بالشكوى أو الحزن.
بهذا، تجمع “بقايا وشم” بين عمق الرؤية النقدية وإبداع الشكل السردي، لكنها في بعض المواضع تحتاج إلى ضبط الإيقاع النصي لتجنب الإطالة التي قد تُضعف من قوة الأثر الأدبي. هذا المزيج من العمق والإصلاح يجعل النصوص مناسبة لقارئ يسعى إلى التأمل في تعقيدات الواقع الإنساني ومحاولة تجاوزه.
“بقايا وشم” ليست مجرد مجموعة نصوص تُقرأ وتُنسى، بل هي تجربة أدبية تتحدى القارئ وتدفعه للوقوف عند كل تفصيلة ليفك رموزها ويغوص في أبعادها. النصوص تتسم بأنها أكثر من سرد للأحداث أو تصوير للمواقف، فهي أشبه بمرآة تعكس التعقيدات الخفية للحياة اليومية، وتكشف عن التشابك بين الفرد ومجتمعه، وبين الذات وتحولاتها الداخلية.
الدعوة التي تقدمها هذه النصوص ليست فقط للتأمل في الواقع كما هو، بل لإعادة تفكيكه وبنائه على أسس أعمق وأكثر إنسانية. إنها دعوة لاكتشاف الجمال وسط الفوضى، والبحث عن المعنى في ما يبدو عابرا أو عاديا. القضايا المطروحة، التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة أو يومية، تتحول تحت قلم الكاتبة إلى نوافذ على أسئلة كونية كبرى تتعلق بالهوية، والوجود، والعدالة، والقيم.
النصوص لا تسعى لتقديم إجابات نهائية أو حلول جاهزة، بل تترك القارئ في مواجهة مباشرة مع ذاته، ليتساءل: ما الذي يمكنني تغييره؟ وما هو دوري في هذا الواقع المعقد؟ بهذا المعنى، تتحول القراءة إلى رحلة مزدوجة: الأولى داخل النصوص بكل ما تحمله من جماليات ورموز، والثانية داخل القارئ نفسه، الذي يجد نفسه أمام أسئلة قد لم يواجهها من قبل.
“بقايا وشم” ليست فقط أدبا يروي الواقع، بل مشروع فكري وفني يؤسس لحوار دائم مع القارئ، حوار يحمل في طياته رغبة في الإصلاح والتغيير، ويُعبر عن إيمان بأن التفاصيل الصغيرة تحمل في أعماقها القدرة على إعادة تشكيل عالم أكثر إنسانية. إنها عمل أدبي يترك أثره العميق، لأنه يتجاوز حدود السرد ليصبح فعلا فكريا وحياتيا يدعو للوعي والتحرر.
—————-
المرجع
بقايا وشم ( محكيات )
منشورات النورس
الطبعة الأولى أكتوبر 2023
Discussion about this post