على متن هذه الطّائرة أنت لست راكبا عاديّا
أنت مسافر من بين مجموعة من البشر قبلوا بشروط التّواجد
في هذا المكان المغلق
(لا داعي إلى استباق الأحداث)
اقتربت منّي المضيّفة الشّابة
الفاتنة مبتسمة بلطف وطلبت منّي ربط حزام الأمان
والانتباه إلى الصّوت الّذي شرع
يشرح كيفيّة استعمال وسائل النّجدة في صورة طارئ لا قدّر الله ،أدركت بتأخير قليل لماذا قصدتني أنا بالذّات ؟لأنّها لاحظت أنّني منغمسة في التهام الكتاب الّذي بين يديّ…علا صوت وفي نبرة لطيفة ردّد
بلغّات ثلاث: بعد لحظات تقلع الطّائرة،الرّجاء عدم مغادرة المقاعد ويحذّر التَنقل في الممرّات …أمّا الحفاظ على أحزمة الأمان مربوطة وغلق الجوالات فهو ضرورة قصوى…
الشّاب الّذي يجلس على يميني
وضع يده على قلبه وأغمض عينيه وتمتم:عندي رهاب المرتفعات،نظرت صوبه ولم أعلّق وابتعدت بحركة آليّة دون قصد إلى أقصى مقعدي قد يكون – التّحسّب من العدوى – هو من قرّر ردة الفعل انطلاقا من اللاوعي المتحفّز …
في اللحظة الفاصلة بين غلق الكتاب وربط حزام الأمان
سافرت إلى المستقبل..
ابنتي تعمل في برمجيّة الذّكاء الاصطناعي تزّوجت هذا الشّبح الهلامي وأوسعت له مكانة في حياتها فهي تحدّثه وتجادله
تتسوَق باسمه تقتني له الثّياب الفخمة تفتح له باب السّيارة
تأخذه لأفخم المطاعم تسكن معه أحدث النّزل في (الويكند)…
وفي شقّتها المجهّزة بالآلات الذّكيّة له مكان معها ،في الفراش تتغزّل به وتحيا معه حياة زوجيّة ممتعة فيها الوئام والانسجام وعلى مائدة الإفطار
تضع له صحنا وشوكة وسكينا وملعقة وصحنا وتسكب له الطّعام وقد تطلّب منه الاعتدال في جلسته والكفّ عن مداعبة جوّاله لدرجة أنّني سمعتها ذات مرة
تبشّره بأنّها حامل وسمعت تعبيره عن فرحته بهذا الخبر السّعيد…ترى من المختلّ عقليّا
أنا أم ابنتي الّتي من جيل هذا الذّكاء الاصطناعي
ابنتي معارضة شرسة فبينما أسعى لإثبات أنّ هذا الذّكاء الاصطناعي زاد من ظلم المرأة وتشويه صورتها وعمل على تسليعها وبيع مفاتها بالتّقسيط ومنح فسحة أوسع للرجال في سوق الشّغل ورفّع من عطالة المرأة…ابنتي تراه مستقبل الإنسانيّة جمعاء، ولا خوف على المرأة لأنّها ستستمرَ تنجب وتنجز وتخترع وتعتني بنفسها وقد يكون إنجازها الأعظم على الإطلاق هو المحافظة على شبابها ونضارتها …أصبت برعب شديد لدرجة الغثيان ، ورأيت أنّ السّقوط في الماضي والعودة إليه أرحم بكثير
من هذا السّفر في المستقبل الَذي أرعبني وأشعرني بالانقباض الحادّ وكتم على أنفاسي….
لا شيء مخطّط له …رسالة قصيرة من أمّي بدون مقدّمات تقول فيها (أنا قادمة لأقيم عندك )تفاجأتُ أمّي الَتي ترفض
حتّى التّفكير في الابتعاد عن منزلها الرّيفيَ الأنيق
بكلّ ما فيه من التّرف والبذخ
قادمة للعيش معي في شقَة في المدينة الّتي طالما نفرت من كثافة سكّانها وحركتهم الّتي تمثّل تيارا جارفا على مدار السّاعة ،وضجيج سيّاراتها وأصوات المنبّهات ومبانيها العالية الّتي تقول عنها أنّها تحجب السّماء وتجعل البصر حديدا، وتشعرها بالغثيان …
وحلَ ركبها …كانت تحمل حقيبة صغيرة فيها
بعض الثّياب ودفاتر وأقلام و لا أعلم لماذا جلبت (وسادتها) الّتي لا تفارقها أبدا ، وأكيد هناك علاقة وطيدة بينهما ،لا أستطيع فكّّ طلاسمها ،وها هي عندي من أسابيع ،وها أنّني أكتشف وجه أمّي الآخر والّذي لا أعرفه… كانت تشبه طفلة صغيرة طاعنة في السّن ضعيفة تجرّ خطاها جرّا وكأّنها تتجاوز عقبات وحواجز غير مرئيّة تتحرّك ببطء شديد خجولة كتومة ..تنام كثيرا …تتناول قطعة الشَكولاته الّتي أتركها لها على الطّاولة الصّغيرة قربها وتستلذّ بها مع فنجان القهوة الّذي تمسكه بين يديها
المرتعشتين كما تتفقّد دوما
إسورة ص في معصمها الأيسر النّحيف ،أما جوّالها فهو دوما متواجد في حقل رؤيتها تلامسه بين الفينة والفينة كقطعة منها ،وكأنّها تخاف من ضياعه وفقدانه …أمّــي ما عادت تلك المرأة القويّة المتمرّدة المنطلقة تترشف فرحة الحياة …تضع رأسها على صدري كأنّها تخاف شيئا ما، تحسّ بالأمان والارتخاء وتشعّ سكينتها، فأمتلئ طاقة إيجابيّة ويتبخّر الإرهاق وننصره معا وأعود جنينا في رحمها أنعم بلحظة نفخ الرَوح الأولى… في رحلات هذا الحجّ العاطفي والانصهار الرَوحي،حكت لي تفاصيل حياتها بعدد السّنوات الّتي عاشتها وكأنّها تقرأ كتابا وتقلّب الصّفحة تلو الأخرى بحبّ كبير وحنين مضاعف،أخذتني معها في رحلة سندباديّة عبر العالم برّا وبحرا وجوّا… أمي كانت رحّالة حيث زارت جلّ بلدان العالم…بدأت أدرك أن ما يهمَها هو تواجدي قربها لأطول وقت ،كما كنت أفعل وأنا طفلة حيث أبقيها بجانبي وقتا طويلا قبل النّوم، لذلك حاولت العودة مبكرا من عملي …وأوّل ما أفعله أدخل عليها أشمّها وأضمّها وأقبَلها تماما كما كانت تفعل معي وأنا طفلة
وكم كانت ترتاح لوجودي قربها…صرت أطبخ الحساء كلّ مساء كما تحبّه وكما كنت أفعل وأطفالي صغار وكما كانت تفعل هي وأنا طفلة
وكنت أترك على طاولة المطبخ صحن بسكوت من النّوع الّذي تحبّه …
وكلّ يوم أحسّ بعمق الحبّ الّذي أحمله بين ضلوعي
لهذه المرأة الّتي عاشت حرّة معتدّة بنفسها يُكْبِرها ويحترمها كلّ من عرفها…
أمّي باتت طفلتي الصّغيرة المدلّلة ،أحمّمها ،أسرّح شعرها
أختار ثيابها… قبل النّوم أقرأ لها صفحات من مؤلّفاتها شعرا أو سردا تفرح كثيرا وتخلد للراحة
أحسّ بموجات السّعادة تغمرني ،أقبّل جبينها ،أطفئ النّور ،وأترك باب الغرفة مواربا
ألج غرفتي أتمدّد على سريري وأنام مرتاحة البال …أمي جنبي…
مر هذا الشّريط أمامي لحظة بلحظة عشت الأحداث بكلّ وعي وبكامل مداركي العقليّة
ما كنت في حالة تهويم او استرخاء أو إرهاق ،هي زيارة مكّوكية للمستقبل والماضي
حتّى أنّني ما أغمضت عيني
حيث كنت أرى المضيفات يتنقّلن في ممرّات الطّائرة ويساعدن الرّكاب على وضع متاعهم في الأدراج ،وأسمع بكاء رضيع وجلبة بعض الأطفال ،فكيف عشت كلّ هذا في الزّمن الفاصل بين إغلاق الكتاب وربط حزام الأمان
قد تكون عبارة(لا داعي إلى استباق الأحداث) شيفرة قذفها اللاوعي… عبارة عن مرآة عكست أعماقي…
فائزه بنمسعود
Ottawa/12/1/2025
Discussion about this post