#مسار
شهادة في حق مسار الأديب محمد العتروس بمناسبة توقيع روايته “الركض إلى الفتنة”
بفضاء الشرق
بقلم: نورالدين طاهري
حيث تعانق الثقافة رحابة الخيال، نقف اليوم على أعتاب لحظة تحمل في طياتها عبق الإبداع وأثر الخلود. ليس هذا اللقاء عاديا، بل هو احتفاءٌ بروح أدبية نادرة، بالأستاذ محمد العتروس، أديب أبركان وركيزة من ركائز الحراك الثقافي فيها. إنه رمز تجاوز حدود الحروف لينسج من الكلمة فلسفة، ومن الإبداع وطنا تتسع أرجاؤه للجميع.
إن الحديث عن العتروس لا يقتصر على أديب يكتب، بل عن إنسان يحمل رسالة، قلمه نافذة على هموم الناس وأحلامهم، وصوته جسر يربط الماضي بالحاضر. بكتاباته، يعيد للأدب هيبته، وللكلمة نبضها، إذ لا يكتفي أن يسرد الأحداث، بل يجعل القارئ يرافقه في رحلة اكتشاف للمعاني العميقة التي تختبئ خلف النصوص.
ومع إصدار روايته الجديدة، “الركض إلى الفتنة”، يفتح العتروس صفحة جديدة في سجل الأدب المحلي، صفحة تجمع بين الحكاية والفكرة، بين الرمز والدلالة. هذا العمل ليس مجرد سردٍ للأحداث، بل هو مرآة تعكس تحولات الذات والمجتمع، تجسد صراعات النفس مع نفسها، وتصور بحث الإنسان المستمر عن معنى وجوده.
إننا اليوم لا نقف فقط لتكريم رواية، بل لنُشيد بمسيرة حياة. العتروس ليس فقط كاتبا متميزا، بل نموذجا للصمود الفكري، للطموح الذي يرفض أن ينطفئ، للإبداع الذي ينمو رغم كل التحديات. إنه منارة أدبية تلهم أجيالا وتؤكد أن الثقافة ليست مجرد رفاهية، بل جوهر يضيء مسار الإنسانية.
بزوغ الكاتب في سماء أبركان
عند شارع ابن سينا، الذي استحق لقب شارع الحب بجدارة، ارتسمت ملامح الطفولة الأولى لمحمد العتروس. لم يكن هذا الشارع مجرد طريق عابر، بل مسرحا للقصص التي نسجت تفاصيلها في الظل وتحت الضوء، بين أزقة حملت همسات العشاق وأسرارهم، وبين دروب احتضنت أوجاع الفقراء وأحلامهم. في منزل عتيق تقادم على مر السنين، لكنه ظل شاهدا على صلابة أسرة كادحة، نشأ العتروس، محاطا بفضاء يفيض بالقيم النبيلة التي صاغت وجدانه وشكلت إرثه الإبداعي.
والده، الفلاح ذو الإرادة التي لا تعرف الانكسار، كان قدوة في الصمود أمام قسوة الحياة، يعلّمه أن الأرض لا تعطي ثمارها إلا لمن يتشبث بها بإصرار. أما والدته، فقد كانت الحنان مجسدا، تحمل في أعماقها قوة المرأة التي تزرع الأمل رغم شظف العيش. كانت كلماتها الحانية ولمساتها المليئة بالدفء مرسى لروحه الشابة، وإلهاما له في سنواته المبكرة.
لكن التأثير الأكبر جاء من أخيه الأكبر، المناضل السياسي، الذي أضفى على حياته أبعادًا جديدة من الفهم والوعي. كان هذا الأخ نافذته إلى عالم من التحديات الكبرى، وأيقونة للثورة ضد القهر، مما جعله يطل على الواقع بعيون الناقد والمفكر. من خلاله، أدرك العتروس أن الحياة ليست مجرد رحلة عابرة، بل سلسلة معارك تصنعها المواقف، وتعيد تشكيلها المبادئ.
في هذه البيئة المليئة بالتناقضات، حيث يلتقي شارع الحب المليء بالعاطفة والدراما بشارع محمد الخامس الراقي، وجد العتروس نفسه أمام عالمين متوازيين، كل منهما يحكي قصة مختلفة. هناك، بين طحطاحة الفقراء التي تعكس قسوة الحياة وألمها، والشوارع الراقية التي تجسد الأمل والطموح، تعلم العتروس كيف يرسم تفاصيل الحياة بلغة أدبية تنبض بالواقعية. هذه المشاهد المتناقضة، المليئة بالصراعات الإنسانية، أصبحت فيما بعد منجمًا يثري نصوصه، ومرآة تعكس نبض المجتمع وتفاصيله الدقيقة.
كانت تلك الأزقة والشوارع بمثابة فصول من رواية كبرى، يقرؤها العتروس ويكتبها في آنٍ واحد. لقد شكلت حياته في شارع ابن سينا لوحة حية، تتداخل فيها ألوان الحياة بكل تناقضاتها، مما جعله ينظر إلى العالم من زاوية مختلفة، زاوية أديب يلتقط جوهر الأشياء ويعيد صياغتها بفن وبلاغة.
البداية: شاب يكتب القصة ويلامس الكبار
منذ خطواته الأولى في دروب الحياة، بدا محمد العتروس مختلفًا، يحمل في أعماقه نضجا سابقا لعمره. كان ذلك الفتى النحيل ذو العينين المتوقدتين بالذكاء والفضول، يمضي ساعات طويلة متأملًا العالم من حوله، محاولا فك شيفرة الحياة التي كانت تتجلى أمامه بأسرارها وغموضها. ما لبث هذا النهم للمعرفة أن تحول إلى فعل يومي، حيث انكبّ على قراءة الكتب بشغف، ملتهما روايات الأدب العالمي وقصص التراث الشعبي، ومتشربًا الأفكار النقدية التي كانت تضيء جلسات النادي الثقافي لملوية.
في ذلك النادي، الذي شكل واحة فكرية لعقول شابة وناضجة على حد سواء، فرض العتروس حضوره بقوة، على الرغم من حداثة سنه. كان يجلس بين الأدباء الكبار كندٍّ لهم، يشارك في النقاشات الفكرية، ويطرح رؤى ناضجة تثير الدهشة. لم يكن مجرد مستمع متأثر، بل مشاركًا فاعلًا، ينثر أفكاره بجسارة، مما جعله محط اهتمام وإعجاب الجميع.
في بداية العشرين من عمره، خطى أولى خطواته نحو عالم الإبداع الأدبي بإصدار مجموعته القصصية الأولى “هذا القادم”. كانت هذه المجموعة أشبه بصرخة ولادة جديدة في المشهد الأدبي المحلي، إذ حملت بين طياتها نصوصًا تتسم بنضج فكري، ومهارة سردية قلما يمتلكها من هم في مثل سنه. لم تكن مجرد كتابات شاب طموح، بل شهادة ميلاد كاتب حقيقي يعرف أدواته، ويجيد توظيفها لرسم عوالم إنسانية عميقة. أضاءت هذه المجموعة اسمه في سماء الأدب، وجعلت النقاد يلتفتون إلى موهبته الفذة، بينما جذب أسلوبه القراء الذين وجدوا فيه صدىً لأحلامهم وهمومهم.
إلا أن إصدار “رجل يحترق”، الذي جاء لاحقًا، كان بمثابة منعطف في مسيرته الأدبية. هذه المجموعة، التي تميزت بجرأتها اللافتة، كانت أشبه بمرآة عاكسة لتفاصيل المجتمع المحلي بكل تناقضاته. صوّر العتروس من خلالها شخصياته بمهارة جعلتها تبدو وكأنها تنبض بالحياة، مستعرضًا أعماقهم النفسية، وصراعاتهم اليومية التي تتداخل مع أسئلة الوجود الكبرى.
لكن هذا التصوير الدقيق لم يكن بلا ثمن. إذ رأى البعض في نصوصه كشفًا عن أسرارهم الشخصية، ووجد آخرون أنفسهم معرّضين على صفحات كتاباته كأنهم شخصيات في مرآة لا ترحم. انتشرت أحاديث المدينة حول “رجل يحترق”، وانقسم الناس بين معجب بجرأته وعمقه، ومعترض على جرأته التي وصفها البعض بأنها تجاوزت حدود الخصوصية. ومع ذلك، استطاع العتروس أن يفرض اسمه ككاتب مثير للجدل، يعيد تشكيل الواقع بنصوص أدبية جريئة، مما أكسبه مكانة متميزة في المشهد الأدبي.
جرأة أدبية وعمق فكري
إن الجرأة الأدبية لمحمد العتروس هي أشبه بوهج شمس لا يخبو، يشق طريقه عبر عتمة الواقع ليضيء زوايا خفية من الوجود الإنساني. ليست الجرأة لديه مجرد ميل إلى كسر القواعد أو تحدي المألوف، بل هي فلسفة متأصلة، نابعة من إيمانه العميق بأن الأدب هو مرآة الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة قاسية أو مُحرجة. في كتاباته، يتخذ العتروس من الجرأة وسيلة لتفكيك التابوهات الاجتماعية، محولًا نصوصه إلى أدوات نقدية تتصدى لكل ما هو مزيف أو مسكوت عنه.
في كل عمل يقدمه، يبدو العتروس كمن يكتب على حافة هاوية، مستلهمًا رمزيته من عوالم تبدو مألوفة للوهلة الأولى، لكنها سرعان ما تكشف عن مستويات أعمق. لغته ليست مجرد أداة تواصل، بل هي بناء هندسي معقد، قائم على التوازن بين البساطة التي تستدرج القارئ، والعمق الذي يحفزه للتأمل والتفكير. إنه كاتب يدرك أن الأدب الحقيقي لا يمنح الإجابات، بل يطرح الأسئلة، ولا يروي قصصًا فقط، بل يستفز العقول والقلوب لتفكيك السرديات وإعادة تشكيلها.
تتجلى هذه الفلسفة بوضوح في تعامله مع التيمات الاجتماعية الشائكة. فهو يكتب عن القضايا التي تؤرق المجتمعات، مثل الفقر، الطبقية، الهوية، والصراعات النفسية، لكنه لا يكتفي بتقديمها كما هي. بدلًا من ذلك، يعيد تشكيل هذه القضايا عبر شخصياته التي تبدو كأنها تستدرج القارئ إلى عالمها الخاص. تلك الشخصيات ليست مسطحة أو نمطية، بل هي كائنات حية تنبض بالمشاعر والتناقضات، تسير في دروب الحياة متأرجحة بين الأمل واليأس.
ومع ذلك، فإن الجرأة الحقيقية في نصوص العتروس تكمن في ما وراء الكلمات. إنه يكتب على مستويات متعددة، مستفيدًا من الرمزية كأداة تفكيك وبناء في آن واحد. على سبيل المثال، قد يبدو مشهد عابر في أحد نصوصه، مثل ضوء مصباح يتسلل عبر نافذة، وكأنه مجرد تفصيل عادي، لكنه يحمل في طياته إيحاءات أعمق تتعلق بالحلم، الغموض، أو حتى الخلاص. هذه القدرة على تحويل التفاصيل الصغيرة إلى عناصر سردية ضخمة تجعل من نصوصه لغزًا أدبيًا يستحق القراءة المتأنية.
إن مشروع العتروس الأدبي هو في جوهره دعوة إلى القارئ ليكون شريكًا فاعلًا في النص. لا يقدم له الحكاية على طبق من ذهب، بل يطالبه بأن يعمل ذهنه، يغوص في الطبقات الرمزية، ويواجه التساؤلات التي يطرحها النص. وهنا تكمن عبقريته: في كونه كاتبًا يرفض السهولة، لكنه في الوقت نفسه يمنح قارئه متعة اكتشاف النص وكأنها مغامرة فكرية وروحية.
إن جرأته ليست مجرد جرأة أدبية، بل هي موقف إنساني وأخلاقي، يؤمن بأن الكتابة مسؤولية، وأن الأدب لا يهدف إلى تسلية القارئ فقط، بل إلى تحفيزه على التفكير، التغيير، وربما التمرد على السائد. بهذا الإيمان، وبفضل لغته التي تمزج بين الدقة الجراحية والجمال الشعري، ينجح محمد العتروس في أن يكون كاتبًا لا يكتفي بعكس الواقع، بل يتحدى قارئه لإعادة النظر فيه، وإعادة تشكيله من جديد.
تأثير المنفى الثقافي
رحلة محمد العتروس إلى باريس كانت بمثابة نقطة تحول كبيرة في حياته، ليس فقط على الصعيد الأكاديمي، بل أيضًا على المستوى الثقافي والفكري. انطلق العتروس إلى العاصمة الفرنسية ليشق طريقه في مجال اللغات الشرقية، حيث اختار هذا التخصص ليجمع بين شغفه باللغة وبين استكشاف عمق التراث الثقافي والتاريخي للشرق. حصل على دبلوم الدراسات العليا بجدارة، ولكن الإنجاز الأكاديمي لم يكن الهدف الوحيد لهذه الرحلة؛ فقد كانت باريس بالنسبة له أكثر من مجرد محطة دراسية، كانت نافذة تطل على عوالم شاسعة من الأفكار والتجارب.
باريس، مدينة التناقضات والأنوار، قدمت للعتروس بيئة فريدة للغوص في أعماقها. هنا، التقى بمثقفين وفنانين من مختلف أرجاء العالم، وشارك في حلقات النقاش التي كانت تدور في مقاهي الحي اللاتيني الشهيرة، حيث تجتمع العقول الكبيرة لتبادل الأفكار. تلك النقاشات، التي تناولت قضايا الأدب والفلسفة والسياسة، كانت بمثابة جامعة أخرى، غير رسمية، صقلت رؤيته للحياة وللأدب. أصبح العتروس على دراية بأن الأدب لا يُكتب بمعزل عن الواقع، وأن الإبداع الحقيقي هو الذي ينطلق من التجارب الشخصية ليصل إلى القضايا الإنسانية الكبرى.
لم يكن انفتاح العتروس على المجتمع الفرنسي مجرد تجربة ثقافية سطحية، بل كان اندماجًا حقيقيًا في نسيج هذا المجتمع. شارك في أمسيات أدبية، واستمع إلى محاضرات أدباء وفلاسفة بارزين، وزار مكتبات باريس العريقة، مثل مكتبة شكسبير آند كومباني، التي كانت تحتضن تراثًا أدبيًا عالميًا. تلك الرحلات الفكرية أضافت إلى تكوينه الأدبي عمقًا وثراءً، إذ بدأ يرى العالم من منظور متعدد الثقافات، مدركًا أهمية الحوار بين الحضارات في خلق أدب عالمي يتجاوز الحدود الجغرافية.
لم تكن تجربة باريس مجرد انتقال من مدينة إلى أخرى؛ بل كانت رحلة داخلية أيضًا. فقد واجه العتروس تحديات الغربة، وصراع الهوية، والتكيف مع مجتمع مختلف في عاداته وقيمه. لكن تلك الصعوبات لم تضعفه، بل كانت وقودا ألهب خياله ودفعه إلى تحويل تلك المشاعر إلى نصوص أدبية تحمل بعدا فلسفيا وإنسانيا. أصبحت كتاباته مرآة لهذه التجربة، تجمع بين الحنين إلى مسقط رأسه في أبركان والدهشة التي عاشها في شوارع باريس.
أثر باريس كان واضحا في نصوص العتروس بعد هذه الرحلة. باتت كتاباته أكثر نضجًا وتعقيدًا، حيث نجح في المزج بين أسلوب السرد التقليدي والتقنيات الحديثة. كانت أعماله تعكس الروح العالمية التي اكتسبها، لكنها لم تفقد أبدًا ارتباطها بجذورها المحلية. فقد ظل شارع ابن سينا في أبركان، بأساطيره وحكاياته، حاضرًا بقوة في نصوصه، يتجاور مع شوارع الحي اللاتيني في باريس في تناغم أدبي فريد.
إلى جانب النضج الفني، أضافت هذه التجربة بعدا فلسفيا إلى أعماله. بدأ العتروس في تناول موضوعات الهجرة، والاغتراب، والتعايش الثقافي بطريقة أعمق وأكثر إنسانية. كانت نصوصه بمثابة جسر يربط بين الشرق والغرب، بين الحنين والانفتاح، وبين الفرد والمجتمع. أصبح قلمه أكثر جرأة في معالجة القضايا الشائكة، مستفيدًا من الحرية الفكرية التي عاشها في باريس.
وفي كل هذا، لم يتخلَ العتروس عن هويته الوطنية. رغم انغماسه في الثقافة الفرنسية، ظل يحمل في قلبه أبركان، بتفاصيلها الصغيرة وتناقضاتها الكبيرة. كانت تلك التفاصيل هي التي تمنحه صوتا أدبيا فريدا، صوتا يمزج بين الواقعية والرمزية، وبين الحنين إلى الماضي والرؤية المستقبلية. باريس لم تكن مجرد محطة في حياته، بل كانت منعطفًا صنع منه كاتبًا عالميًا بروح محلية، قلمه ينطلق من أزقة أبركان ليحلق في سماء الأدب الإنساني.
عودة إلى الجذور وتأثيرها على الحقل الثقافي
رغم سنوات إقامته الطويلة في باريس، حيث انفتح على عوالم فكرية وأدبية رحبة، ظل قلب محمد العتروس ينبض بحنينه إلى أبركان. تلك المدينة التي احتضنت طفولته وشكلت وعيه الأول لم تفارق وجدانه، بل كانت كالوطن الذي يستدعي أبناءه مهما باعدتهم المسافات. حين عاد إلى أبركان ليستقر في المنزل العتيق الذي حمل ذكريات طفولته، لم يكن ذلك مجرد عودة إلى مكان، بل كان عودة إلى الجذور، إلى الحكايات الأولى التي شكلت خياله وملأت روحه.
في ذلك المنزل القديم، حيث تداخلت عبق الجدران مع أصوات الماضي، قرر العتروس أن يواصل مسيرته الأدبية والثقافية، لكن بروح جديدة ملؤها العطاء. لم يكن قلمه وحده هو الذي تحدث، بل أصبح صوتًا جماعيًا يحمل هموم مدينته وأحلام أبنائها. لم يكتفِ العتروس بالكتابة والإبداع الشخصي، بل أدرك أن مهمته تتجاوز حدود ذاته، وأن رسالته هي أن يكون قائدًا ثقافيا يضيء دروب الآخرين.
كانت أبركان، في عينيه، مدينة مليئة بالإمكانات غير المكتشفة، مدينة تنبض بالمواهب الكامنة التي تحتاج إلى من يوجهها ويرعى نموها. من هذا المنطلق، بادر العتروس إلى تأسيس جمعيات أدبية واجتماعية، جعلت من الثقافة جسراً للتواصل والتغيير. لم يكن نشاطه محدودًا بالنخبة المثقفة، بل كان يتوجه إلى الجميع، مؤمنًا بأن الأدب والفن هما قوى اجتماعية قادرة على صنع التحول.
في الأمسيات الثقافية التي كان ينظمها، كان العتروس حاضرا كقلب نابض للمشهد، يحيط بالمبدعين الشباب، يشجعهم على قراءة أعمالهم الأولى، ويمنحهم دفعة من الثقة لتجاوز رهبة البدايات. كانت حفلات توقيع الكتب التي يشرف عليها أشبه بمهرجانات أدبية مصغرة، حيث يلتقي المثقفون والمحبون للأدب في أجواء تسودها الألفة والإبداع. كان يؤمن بأن كل كتاب جديد هو احتفال بالمعرفة، وكل قلم شاب هو إضافة إلى المشهد الثقافي.
لم يكن دعم العتروس للشباب محدودا بتوجيههم فحسب، بل كان يسعى لتوفير منصة لهم لنشر أعمالهم. من خلال علاقاته الواسعة ومعرفته بدور النشر والمجلات الأدبية، كان يفتح الأبواب أمام أولئك الذين يواجهون صعوبات في عرض إبداعاتهم. كان يؤمن بأن الموهبة وحدها لا تكفي، وأن المبدعين بحاجة إلى من يرعاهم، ويزيل العقبات التي تقف في طريقهم.
إلى جانب نشاطه الأدبي، كان للعتروس دور بارز في العمل الاجتماعي. فقد أدرك أن الأدب والثقافة لا يمكن أن يزدهرا في مجتمع يعاني من التهميش، فبادر إلى تنظيم ورش تعليمية للشباب، تضمنت مهارات الكتابة الإبداعية وفنون الخطابة والنقد. تلك الورش لم تكن مجرد دروس، بل كانت لقاءات حوارية، يستمع فيها العتروس إلى أصوات الشباب، ويشاركهم رؤاه وتجربته.
كان حضوره في المشهد الثقافي مميزًا، ليس فقط بأعماله الأدبية، بل بروحه القيادية التي جمعت بين الحزم والحنان. كان يعرف كيف يشجع من حوله دون أن يفرض عليهم رؤيته، وكيف يترك بصمته في كل مشروع دون أن يطغى عليه. بالنسبة للشباب الذين رافقوه في رحلته، كان العتروس أكثر من مجرد كاتب، كان معلما، ومرشدا، وصديقا يؤمن بقدرتهم على تحقيق أحلامهم.
لقد كان محمد العتروس رمزا ثقافيا في أبركان، يجسد قيم الإبداع والتعاون والتضحية. ورغم التحديات التي واجهها، سواء في بداياته ككاتب أو في محاولاته للنهوض بالمدينة ثقافيًا، ظل ثابتًا على رؤيته. كانت عودته إلى أبركان بداية لمرحلة جديدة من العطاء، مرحلة أثبت فيها أن الكاتب الحقيقي لا يعيش في برج عاجي، بل يكون جزءا من مجتمعه، يصغي إلى همومه، ويساهم في رفع وعيه، ويزرع الأمل في نفوس أبنائه.
الإرث الأدبي والإبداعي
محمد العتروس ليس مجرد كاتب تُزين رفوف المكتبات بأعماله، بل هو مشروع أدبي متكامل، يتجاوز حدود الكلمات المكتوبة إلى التأثير العميق في الوعي الثقافي. إنه مؤسسة أدبية متحركة، تحمل على عاتقها رسالة تجاوزت حدود الإبداع الفردي لتشمل بناء مجتمع أدبي قائم على الفكر والوعي والنقد البناء.
الإنتاج الأدبي: ركيزة الإنجاز
على مر السنوات، استطاع العتروس أن ينحت اسمه في المشهد الأدبي من خلال مجموعاته القصصية التي شكلت نقطة انطلاقه. منذ أولى تلك المجموعات، مثل “هذا القادم”، ومرورا بإصدارات مثل “رجل يحترق”، وحتى رواياته التي عالجت موضوعات شائكة بروح جريئة ولغة مُتقنة، كان يضع نفسه في موقع الريادة. تلك الإصدارات لم تكن مجرد نتاج لحظات إبداعية عابرة، بل هي محصلة بحث طويل وتعمق فكري، حيث تسكن تفاصيل المجتمع المحلي في ثنايا النصوص، وتمتزج بالهموم الإنسانية الكبرى.
تطور الأسلوب والتقنيات السردية
من اللافت للنظر أن أسلوب العتروس لم يقف عند حد واحد، بل كان دائم التطور. في بداياته، اعتمد على الوصف الدقيق للبيئة والشخصيات، مستلهما من الحياة اليومية والبساطة المحببة التي تعكس صدق التجربة. ومع مرور الوقت، بدأ يميل إلى الرمزية المعقدة والأساليب السردية المتداخلة التي تتطلب من القارئ جهدًا فكريًا لفك شفراتها. لم تكن نصوصه مجرد سرد لحكايات، بل كانت عوالم متكاملة، تطرح الأسئلة أكثر مما تقدم الإجابات، مما جعلها تلامس أعماق النفس البشرية.
الجرأة في الطرح والعمق الفكري
تميزت أعمال العتروس بجرأتها في طرح التيمات الاجتماعية والسياسية التي غالبا ما يُتجنب الحديث عنها. كان يعالجها من خلال عدسة فنية تعتمد على المزج بين الواقع والخيال، بين الحلم والكابوس، مما أضفى على نصوصه طابعًا فريدًا. لم يكن العتروس يكتفي برصد الواقع فقط، بل كان يعيد تشكيله في صورة فنية تجعل القارئ يعيد التفكير في المسلمات.
أثره في الساحة الأدبية
لم يكن حضور العتروس في الساحة الأدبية مقتصرًا على نصوصه فحسب، بل امتد إلى دوره كناقد وموجه للأدباء الجدد. لقد كان يقرأ الأعمال الشابة بعين الخبير، ويمنحها التوجيه الذي تحتاجه للنضج. كان يعتبر أن دور الكاتب لا يكتمل بمجرد كتابة النص، بل يتطلب منه أن يكون جزءًا من حركة ثقافية أشمل.
كان محمد العتروس يدرك أن الأدب ليس مجرد ترف فكري أو هروب من الواقع، بل هو وسيلة للتغيير والتأثير. لذلك، جاءت نصوصه مشبعة بروح التحدي، موجهة إلى وجدان القارئ، داعية إلى التفكير والتأمل. لقد جعل من قلمه سلاحا للدفاع عن قيم الحرية والكرامة والإنسانية.
” الأعمال الكاملة”: تتويج رحلة الإبداع
إصدار كتاب “الأعمال الكاملة” كان حدثًا مفصليا في مسيرة العتروس، حيث جمع بين إرثه الأدبي المبكر وآخر إبداعاته. هذه المجموعة لم تكن مجرد أرشيف، بل شهادة حية على تطور الكاتب في مختلف المراحل، وعلى استمراريته في التفاعل مع تغيرات المجتمع واللغة والتقنيات السردية. احتفظت نصوصه، رغم تطورها الملحوظ، بذلك الخيط الرفيع الذي يربطها بجذورها الثقافية العميقة. لقد جمع هذا الإصدار بين الأصالة والحداثة، بين العفوية الأولى والنضج الأخير.
توقيع “الركض إلى الفتنة”: حدث أدبي واحتفاء رمزي
عندما وقع محمد العتروس روايته “الركض إلى الفتنة”، لم يكن ذلك مجرد مناسبة أدبية عادية؛ بل كان تتويجا لمسيرة طويلة من النضال الفكري والكتابة المسؤولة. الرواية، بموضوعها الجريء وطرحها العميق، عكست قدرته على استنطاق قضايا شائكة تتعلق بالمجتمع والتحولات الكبرى التي يشهدها. لم تكن الرواية مجرد عمل سردي؛ بل كانت لوحة فكرية تطرح أسئلة وجودية وسياسية، تفتح المجال للتأمل والنقاش. إن توقيع هذه الرواية كان بمثابة تكريم للمثقف الذي لا يخشى مواجهة الواقع، بل يحاول فهمه وإعادة صياغته.
إلهام الأجيال: دور العتروس في المشهد الثقافي
إلى جانب كونه كاتبًا مرموقًا، يُعتبر العتروس مصدر إلهام لجيل كامل من الشباب. لقد أسهم بشكل فعال في خلق فضاء ثقافي يجمع بين الأجيال المختلفة، حيث شجع الشباب على التعبير عن أنفسهم، وفتح لهم الأبواب للإبداع والمشاركة. بفضل جهوده، أصبحت الثقافة في أبركان أكثر حضورًا، وأكثر ارتباطًا بواقع الناس. لقد عمل على تلميع صورة المدينة ثقافيًا، مما جعلها مركزًا للإبداع الأدبي والفكري.
الرواية كمرآة للمجتمع
“الركض إلى الفتنة” ليست مجرد رواية تسرد حكاية، بل هي عمل أدبي يعكس نبض المجتمع المغربي بكل تعقيداته وتناقضاته. من خلال شخصياتها وأحداثها، سلط العتروس الضوء على صراعات الهوية، وتحديات العصر، والتوترات التي تعيشها المجتمعات العربية في زمن التحولات السريعة. بأسلوبه السردي العميق والرمزية التي تتخلل نصوصه، استطاع أن يقدم قراءة فريدة لواقعنا، تجعل القارئ يعيد التفكير في قضاياه الكبرى.
فخر أبركان ونجم القصة القصيرة
محمد العتروس ليس فقط أديبا، بل هو سفير لثقافة أبركان، وشعلة أضاءت سماء الأدب المغربي. بأعماله الغنية والمتنوعة، استطاع أن ينقل صوت المدينة إلى الساحة الوطنية والدولية، مما جعل اسمه مرادفا للريادة الأدبية. إنه ليس فقط فخر أبركان، بل فخر لكل من يؤمن بأن الأدب يمكن أن يكون أداة للتغيير، ومنصة للحرية، ومصدرا للإلهام.
تكريم المثقف العضوي
محمد العتروس ليس فقط أديبا، بل هو مثال حي لما يمكن أن يحققه المثقف العضوي حين يلتزم بقضايا مجتمعه ويجعل من قلمه جسرا للتغيير والإلهام. إنه شخصية متعددة الأبعاد، تتجاوز حدود الإبداع الفردي لتصل إلى أن تكون رمزا للمثقف الذي يرى في الأدب وسيلة لبناء الوعي الجماعي، وتعزيز القيم الإنسانية.
محمد العتروس لم يكن يوما منعزلا في برجه العاجي؛ بل كان دائم الانخراط في قضايا مجتمعه المحلي والوطني، متحملًا دورًا قياديًا في الساحة الثقافية. بفضل نصوصه الجريئة، استطاع أن يلامس هموم الناس ويعبر عن تطلعاتهم، مما جعله نموذجًا للمثقف العضوي الذي يرفض الانفصال عن واقعه. لقد حمل مسؤولية المثقف بجدية، مؤمنا بأن الأدب لا يكتمل إلا بارتباطه بقضايا الإنسان ومعاناته.
هنيئا لمحمد العتروس على إنجازه الأدبي الجديد، وهنيئا لأبركان برجل جعل من نفسه جزءا من نسيجها الثقافي والاجتماعي. إنه نجم ساطع يثبت أن الأدب يمكن أن يكون أكثر من مجرد كلمات؛ بل يمكن أن يكون حياة بأكملها، تنبض بالعطاء والإبداع والتغيير.
Discussion about this post