#دراسة_نقدية
تأملات في هشاشة الإنسان :
قراءة في المجموعة القصصية “ليل وأسوار ”
للكاتبة ليلى عبدلاوي
نور الدين طاهري
المجموعة القصصية ” ليل وأسوار” للكاتبة ليلى عبدلاوي تعد عملا أدبيا يتجاوز السرد التقليدي ليغوص في أعماق النفس البشرية ويطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول معاناة الإنسان في مواجهة الواقع الاجتماعي القاسي. تتميز هذه المجموعة بتقديم قصص قصيرة مكثفة تُسلط الضوء على قضايا وجودية واجتماعية، حيث تنقل القارئ إلى عوالم موازية مليئة بالألم، الاغتراب، والأمل المفقود. الشخصيات التي تسكن هذه القصص تعيش على هامش الحياة، محاصرة في فضاءات معزولة بين الخوف واليأس، وأحيانا تتطلع إلى أفق ضبابي من الأمل الذي يبدو بعيد المنال.
عنوان المجموعة القصصية” ليل وأسوار” للكاتبة ليلى عبدلاوي يحمل دلالات رمزية عميقة تفتح أفقا واسعا للتأمل النقدي في العلاقة بين الظلام والقيود، وبين الوجود البشري في سياق من المعاناة والبحث عن الأمل. يمكننا النظر إلى العنوان كدلالة على حالة اغتراب وجودي يعانيه أبطال المجموعة، حيث يُمثل “الليل” الظلام الداخلي والخارجي الذي يطغى على حياتهم، في حين تشير “الأسوار” إلى الحواجز المادية والنفسية التي تحد من حريتهم، سواء كانت هذه الحواجز اجتماعية أو نفسية أو حتى فلسفية.
الليل في العنوان لا يعبر فقط عن الظلام الجسدي، بل هو استعارة للظلام الوجودي الذي يعيشه الأفراد في عالم يسوده القهر واللامبالاة. الشخصيات في المجموعة تُحاصر بعوالمها الداخلية المظلمة التي تخلو من الأمل، وتحيا في صراع دائم مع واقع مرير. هذا الليل ليس مجرد غياب للضوء، بل هو استعارة لحالة من العزلة النفسية والاجتماعية، حيث يجد الفرد نفسه وحيدا في مواجهة عالم قاسٍ.
أما “الأسوار”، فتُسهم في توضيح فكرة القيد والحدود التي يضعها المجتمع أو الذات على الإنسان. هذه الأسوار قد تكون في شكل قيود اجتماعية تحاصر الشخصيات وتمنعها من الوصول إلى حريتها أو تحقيق ذواتها، أو قد تكون قيودا نفسية، مثل الخوف، الندم، أو الشعور بالذنب الذي يحكم على الشخص داخل نفسه. الأسوار، في هذا السياق، لا تعني فقط الحواجز المادية التي تحد من الحركة، بل تبرز أيضا تلك الأسوار غير المرئية التي تقيد العقول والمشاعر.
الترابط بين “الليل” و”الأسوار” يبرز الصراع الداخلي الذي تعيشه الشخصيات. ففي غياب الضوء، تكون الأسوار هي تلك القوى التي تقيد الأفراد وتمنعهم من التحرر، مما يعكس حالة من الوجود المكبل والمظلم الذي يسعى الإنسان فيه إلى إيجاد معنى أو مخرج من تلك القيود. في هذا السياق، يمكننا اعتبار العنوان دعوة لفهم تلك التوترات الوجودية التي تمثلها الظلمات والأسوار، وكأنهما يشكلان ثنائية حاكمة في حياة الشخصيات، حيث تتعايش المعاناة والبحث المستمر عن الأمل.
إن العنوان بهذا الشكل يكشف عن الطبيعة الرمزية العميقة للمجموعة القصصية، ويعكس رؤية الكاتبة ليلى التي تتناول قضايا اغتراب الإنسان، التوترات النفسية، والظروف الاجتماعية القاسية التي تحد من حرية الفرد. من خلال هذا العنوان، تدعو الكاتبة القارئ إلى التفاعل مع النصوص بتفكير نقدي عميق، مُتحديا إياه لفهم معنى الحياة في ظلال الليل وما بين الأسوار.
المضمون في ليل وأسوار يعكس معاناة الإنسان ويعتمد على عدة محاور رئيسية تسعى إلى تسليط الضوء على الواقع المظلم. أبرز هذه المحاور هو الاغتراب الإنساني، حيث تعيش الشخصيات حالة من العزلة الداخلية والخارجية. في قصة أشلاء على السكة، يواجه البطل حياة مليئة بالعزلة المفرطة، حيث يُختزل وجوده في انتظار الموت البطيء، كما تقول الكاتبة:
“كمن ينتظر موتا بطيئا… حي لا يعيش.”
هذه العبارة تُجسد حالة الاغتراب الوجودي التي تعيشها الشخصية، حيث يصبح العالم من حوله غير ذي معنى أو تأثير. إنها صورة حية عن الحياة التي لا تقدم سوى الألم، والتناقض الذي يجسد الفصل بين الذات والعالم، ما يعكس بشكل دقيق حالة الإنسان المغترب في زمنٍ يضيق عليه أكثر.
ثنائية الأمل واليأس هي عنصر آخر مهيمن في هذه المجموعة، حيث تبرز القسوة التي يواجهها الأفراد في عالم لا يمنحهم سوى القليل من الأمل. في قصة الشمعة، نجد الكاتبة توظف الشمعة كرمز يعكس حياة الإنسان التي تتضاءل ببطء ولكن لا تزال تمنح ضوءًا ضعيفًا وسط الظلام. تقول الكاتبة:
“أيام عمره تتناقص كشمعة اشتعل فتيلها لزمن.”
هنا، الزمن يصبح عدوا خفيا يلتهم حياة الإنسان ويجهز على ما تبقى من عمره. ولكن، في الوقت ذاته، يُعتبر الزمن مؤشرا على الاستمرارية، حتى وإن كانت تلك الاستمرارية مليئة بالوجع واليأس. المزج بين شعور العجز والرغبة في الاستمرار يعكس الطبيعة المتناقضة للوجود الإنساني.
أما المرأة فهي تمثل محورا أساسيا في المجموعة، حيث تلتقي معاناة النساء في هذه القصص بمسارات الحياة القاسية التي تفرض عليهن تحديات اجتماعية ونفسية معقدة. في قصة التائهة، تظهر البطلة محاصرة بصراعات نفسية واجتماعية متشابكة، حيث تتعرض للابتزاز النفسي والاجتماعي في عالم مليء بالفساد. الكاتبة تصور هذه الحالة بتعبير قوي:
“رأت نفسها فريسة لوحوش تستعد لنهش لحمها.”
هذه الصورة تؤكد على أن المرأة في هذا السياق ليست فقط ضحية لتجربة معاكسة، بل تمثل أيضًا رمزًا للنضال المستمر من أجل البقاء في بيئة قاسية. الكاتبة تمثل في هذه الشخصية حالة من التمرد على الواقع، حيث تبتكر صورة مرئية لفكرة الحرب النفسية التي تخوضها المرأة ضد الضغوط الاجتماعية والمجتمعية.
اللغة التي تستخدمها عبدلاوي في المجموعة تتميز بالإيجاز المكثف، حيث تنتزع من الواقع صورا دقيقة وجميلة، لكنها دائما مشبعة بالحزن. اللغة الواقعية تنقل لنا الحياة اليومية بتفاصيلها القاسية، لكنها تحتوي على أبعاد شعرية من خلال التعبيرات المجازية التي تضفي عمقًا على النصوص. في احتضار، وصفت الكاتبة الجدران المحيطة بالبطلة:
“الجدران الباردة تحيط بها من كل ناحية، كأنها تشاركها الصمت.”
هنا، يصبح المكان جزءا لا يتجزأ من عزلتها النفسية، حيث يعكس الجو المحيط بها الشعور بالوحدة الشديدة. وفي أين طفولتي؟، يتم تصوير معاناة الطفل بعبارة بسيطة لكنها مشبعة بالعاطفة:
“هدّه التعب يا كبدي!”
هذه العبارة لا تنقل فقط معاناة الطفل الذي يعمل لإعالة أسرته، بل تلخص الفجوة الكبيرة بين ما يتوقع من الأطفال وما يفرض عليهم من أعباء الحياة.
تعتبر الرموز من العناصر الأساسية التي تبني بها عبدلاوي عوالمها السردية. في الشمعة، تُستخدم الشمعة كرمز للحياة التي تتناقص ببطء، بينما السكة الحديدية في أشلاء على السكة تمثل المسارات القسرية التي لا خيار للإنسان سوى السير فيها. تستخدم أيضا النافذة في قصص مثل الحديقة كرمز للأمل المحبوس، حيث تجد الشخصية نفسها عاجزة عن التطلع إلى ما وراءها. الرمزية هنا تُضفي على النصوص بعدا فلسفيا عميقا يجعلها قابلة للتأويل من مختلف الزوايا.
الشخصيات في هذه المجموعة ليست مجرد تجسيد للمعاناة الفردية، بل هي تمثل حالات إنسانية أوسع. الشخصيات المهمشة، مثل المشرد في أشلاء على السكة، تُمثل الإنسان المنبوذ الذي يعاني من صعوبة التواصل مع المجتمع، بينما الشخصيات النسائية، مثل البطلة في التائهة، تجسد صراع المرأة ضد الأوضاع الاجتماعية التي تحاصرها. الأطفال، مثل الطفل في أين طفولتي؟، يعبرون عن فقدان البراءة بسبب أعباء الحياة المبكرة التي تحملها عليهم الظروف الاجتماعية. كل شخصية تعد تمثيلا لأزمة اجتماعية ونفسية معقدة، حيث تتحول هذه المعاناة إلى تجارب كونية.
الزمان في المجموعة يتسم بالطابع الدائري والمعلق، حيث يعيش الأبطال في حالة من العجز عن تغيير الماضي أو التطلع إلى المستقبل. الزمن يتداخل مع الحاضر ليخلق حالة من الجمود، كما في الشمعة، حيث يعبر النص عن قسوة الزمن الذي يمضي دون أن يغير شيء في حياة الشخصية:
“الزمن يمضي ولكن لا شيء يتغير.”
المكان، في المقابل، غالبا ما يكون مغلقا وخانقا. في احتضار، يتحول المكان إلى امتداد لصراع الشخصية الداخلية، مما يضيف بعدا نفسيا على النص، حيث يصبح المكان وكأنه يعكس حالتها النفسية.
الأسلوب السردي في المجموعة يعتمد على بناء درامي مكثف، حيث تبدأ القصص بلحظات عادية ولكن سرعان ما تتصاعد نحو ذروة درامية تكشف مأساة الشخصيات. الكاتبة تستخدم أسلوب السرد المفتوح الذي يترك نهايات القصص دون حلول نهائية، مما يعكس العبثية التي تعيشها الشخصيات ويجعل القارئ يشاركهم هذا التوتر والقلق.
من خلال تطبيق التحليل النفسي والاجتماعي على المجموعة، نجد أن الشخصيات تتصارع مع مشاعر الذنب والقلق الداخلي. في احتضار، تعيش البطلة حالة من التوتر النفسي بسبب إحساسها بالفشل تجاه من تحبهم. في الوقت نفسه، يظهر الخوف من الفقد والوحدة كعوامل مشتركة بين معظم الشخصيات، مما يعكس حالة العزلة الوجودية التي تهيمن على النصوص. اجتماعيا، تقدم المجموعة نقدا حادا للفجوة الطبقية، حيث يتجلى التفاوت بين الأفراد والسلطة في قصص مثل الاستشارة.
المجموعة القصصية ” ليل وأسوار ” هي عمل أدبي يتجاوز السرد التقليدي ليغوص في عمق النفس البشرية وينسج مشاعر وأفكارا معقدة ومتشابكة. هذه المجموعة ليست مجرد سرد لحكايات، بل هي دعوة للتأمل في المعاناة الإنسانية، الاغتراب الاجتماعي، والفقد الوجودي. من خلال الأسلوب الأدبي المميز والرمزية العميقة، تقدم ليلى عبدلاوي عملا يلزم القارئ بالتفكير في معاني الحياة والموت، الهوية والمصير. ” ليل وأسوار” هي مجموعة قصصية تمثل نقطة تحول في الأدب المعاصر، فتح أمامنا أبوابا جديدة لفهم التجربة الإنسانية، مما يجعلها جديرة بالتحليل والاحتفاء العميق.
—–
المرجع النسخة الإلكترونية
للمجموعة القصصية “ليل وأسوار ” للكاتبة ليلى عبدلاوي
Discussion about this post