دراسة نقدية
“سخرية الوجع في مرايا الواقع” : قراءة في نص ( طالما حدثتك) للشاعرة فاطمة لغبارى”
الناقد نورالدين طاهري
تعتبر السخرية من أبرز الأدوات الأدبية التي تستخدم في التعبير عن التناقضات الاجتماعية والسياسية. فهي ليست مجرد وسيلة للهزل أو الفكاهة، بل هي أداة نقدية قوية تهدف إلى تسليط الضوء على عيوب المجتمع والنظام السياسي، وكشف التناقضات التي قد يظل القارئ أو المشاهد غير واع بها. السخرية تتيح للكاتب فرصة للحديث عن موضوعات حساسة، ولكن بطريقة غير مباشرة، ما يجعلها أداة فعالة لتوجيه النقد وتحفيز القارئ على التفكير النقدي العميق. في هذا السياق، تبرز فاطمة لغباري كواحدة من الكتاب الذين برعوا في استخدام السخرية كأداة نقدية، إذ تجمع بين الأسلوب الأدبي الرفيع والفكر العميق، لتقديم صورة واقعية للأزمات التي يعاني منها المجتمع في مختلف مجالاته.
من خلال نصها الأدبي (طالما حدثتك )، تتجسد السخرية في لغة فاطمة لغباري كأداة لفك طلاسم الواقع المعيش، فالسخرية هنا لا تهدف إلى التنفيس عن التوترات النفسية فقط، بل تستخدم كوسيلة للضغط على القارئ كي يعيد تقييم مفاهيمه بشأن المجتمع والسياسة والوجود. نجد أن السخرية في كتابات لغباري ليست مجرد حديث عن الهزل أو النكتة، بل هي أداة لإلقاء الضوء على الفساد الاجتماعي والسياسي والطبقي. في هذا السياق، يظهر النص الأدبي على أنه لا يعكس الواقع بشكل سطحي بل يقدم صورة أكثر عمقًا وأكثر وضوحًا للمتغيرات الاجتماعية التي تمس حياة الأفراد. من خلال هذه السخرية، تطرح لغباري تساؤلات عن معنى الإنسان في مجتمع مشبع بالتناقضات، حيث يصبح الفرد مجرد كائن ضائع في متاهات الواقع.
وفي هذه النصوص الساخرَة، تقوم فاطمة لغباري باستخدام السخرية ليس فقط للحديث عن الأزمات الاجتماعية والسياسية التي يواجهها الأفراد، ولكن أيضا لتسليط الضوء على التناقضات التي تتجسد في الواقع ذاته. السخرية عند لغباري تتجاوز الحافة الظاهرة للأحداث لتتغلغل في أعماق الأمور، حيث تصبح وسيلة لفهم الواقع من زاوية مختلفة، زاوية نقدية تتيح للقارئ أن يرى التناقضات في العلاقات الإنسانية، والسياسية، والاجتماعية. حيث تصف لغباري الواقع في كثير من الأحيان على أنه “نموذج من التهريج”، مشيرة إلى السطحية التي تغطي الأحداث والمواقف السياسية، وحالة التجميل الزائفة التي يُقدَم بها الواقع للناس. وفي هذه النقطة بالتحديد، تتجلى قوة السخرية في النصوص الساخرَة التي تكتبها لغباري، حيث تبدو كما لو كانت دعوة للكشف عن تلك الطبقات المخفية وراء السطح الظاهري.
أما على المستوى الاجتماعي، فتُوظف السخرية في النصوص لتصوير الواقع الطبقي الذي يعاني منه الأفراد في المجتمع. حيث تركز لغباري على الفوارق الاجتماعية التي تتحول إلى جدران غير مرئية تعزل الطبقات العليا عن الطبقات الدنيا. وفي هذا السياق، تبرز شخصية “العامل البسيط” أو “الفقير” الذي يُضطهد ويُهمش في المجتمع، بينما يتم تصوير الشخصيات الثرية التي تعيش في عالم من الرفاهية والبذخ. إن السخرية هنا لا تقتصر على التهكم على الفوارق الاجتماعية، بل هي طريقة لفضح آليات النظام الاجتماعي التي تديم هذا التفاوت وتعزز من استمراريته. كما يمكن أن نجد في نصوص لغباري تصويرا ساخرا للطبقات الحاكمة، حيث تُصوَّر الشخصيات الحاكمة على أنها مجرد أدوات سياسية فارغة، تتلون وفقًا للمصالح والمواقف المتغيرة.
من ناحية أخرى، تبرز في نصوص لغباري الاستخدام المكثف للاستعارة والمجاز. فالأدوات البلاغية في الكتابة الساخرَة لديها تُستخدم بشكل مكثف لإبراز المضمون النقدي بأسلوب فني عميق. تعتبر الاستعارة والمجاز بمثابة الأدوات التي تسمح للكاتب بتقديم نقده بطريقة غير مباشرة، حيث يتحول الواقع إلى رموز وصور، قد لا تكون واضحة على الفور، لكن تتحقق فهمها بعد التأمل العميق. من بين الصور البلاغية التي تعكس هذا الاتجاه، نجد استعارات مثل “المدينة التي تبتلع نفسها”، حيث تشبه المدينة بكائن حي يلتهم نفسه تدريجيًا، وهي استعارة تُجسد حالة الضياع والهدم التي يعاني منها المجتمع في ظل غياب العدالة والتنمية المستدامة.
وهناك أيضا استعارة أخرى قد تكون في تصوير الأنظمة السياسية بأنها “أشجار بلا جذور”، في هذه الصورة المجازية، يتم تصوير النظام السياسي كأشجار تقف بلا أساس قوي، مما يشير إلى هشاشة هذا النظام الذي لا يقيم على أسس صلبة أو قيم حقيقية، بل هو مجرد تكوين هش قائم على القشور. هذا النوع من الاستعارات يخلق صلة قوية بين النص الأدبي وبين القارئ، إذ يتطلب فهمه تأملا طويلا في دلالات الرموز والصور البلاغية.
السخرية عند لغباري تتكامل مع المجاز لتشكل محركًا فنيًا يتيح لها تفسير الواقع بنظرة نقدية عميقة، لا تقتصر على تصوير الظواهر كما هي، بل تذهب أبعد من ذلك لتكشف عن آليات القهر والتسلط التي تحرك هذه الظواهر. هذا الاستخدام العميق للمجاز يضيف بعدًا فلسفيًا للنصوص، حيث تصبح اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي وسيلة للتفكير النقدي، والأداة التي تكشف عن التباينات الجذرية في النظام الاجتماعي.
من ناحية أخرى، تستثمر لغباري في تضاد الأمل واليأس بشكل كبير. فهي، في كثير من نصوصها، تخلق عالما مليئا بالتناقضات بين الحلم والواقع، وبين الطموح والواقع المأساوي الذي يعاني منه الأفراد في المجتمع. في هذا السياق، تُظهر نصوص لغباري فترات من الأمل تتبعها فترات من اليأس، حيث يتداخل الأمل في التغيير مع القسوة التي تظهرها الأنظمة السائدة. وبذلك تخلق لغباري حالة من التوتر الداخلي في النصوص بين التطلعات التي لا تتحقق، والواقع الذي يُرغم الأفراد على التسليم بالاستسلام. هذا التضاد بين الأمل واليأس في نصوصها يعمل كإشارة للقارئ حول عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي يشكل الواقع المعيش.
إحدى الصور الأكثر تعبيرا عن هذا التضاد نجدها في تعبير لغباري: “أفق بعيد نرى حلمه ويخلفه الظمأ”. هذه الصورة تعكس صورة الأمل المفقود بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من التحقيق. في هذه الجملة، تتجسد الفكرة التي تروج لها لغباري في نصوصها: رغم كل محاولات التغيير، ورغم أن الأفق يبدو قريبا جدًا، إلا أن الواقع يظل قاسيا ويتعذر الوصول إلى التغيير المطلوب. هنا تتجلى السخرية بشكل لاذع، حيث يصبح الحلم الكبير مجرد سراب.
على مستوى الصور البلاغية، نجد أن لغباري تتعامل مع الأدوات الشعرية بطريقة فنية تدمج بين الجماليات الأدبية والتحليل النقدي. حيث تصبح الصورة الشعرية وسيلة للكشف عن التوترات الاجتماعية والفكرية، وتعمل على تعزيز دلالات النص. وتعد الصور الشعرية لدى لغباري أكثر من مجرد جماليات تضاف للنصوص، بل هي أدوات لإيصال رسائل فلسفية وفكرية تثير تساؤلات وجودية.
تتمثل هذه الصور في “الزمن الذي يذوب في آلامه”، إذ تُعبر هذه الصورة عن تأثير الزمن في الإنسان، حيث يصبح الزمن ليس فقط مقياسا للتغير، بل هو أيضا عامل يعكس معاناة الإنسان وألمه. الزمن في هذا السياق يصبح أشبه بالكيان الذي يتنفس الألم، في صورة تُجسد عجز الإنسان في مواجهة تداعيات الزمن وظروفه القاسية.
من خلال تحليل نصوص فاطمة لغباري الساخرَة، نجد أن السخرية تتحول إلى أداة تفكيك حادة للواقع. تُستخدم للاستفهام عن المفاهيم السائدة وتطرح تساؤلات حول حالة الإنسان في ظل هذا الواقع. هي ليست مجرد أداة للتهكم أو الترفيه، بل هي وسيلة لتحفيز القارئ على التفكير النقدي العميق. إن أسلوب السخرية عند لغباري ليس تهكما سطحيا، بل هو نقد جاد يستدعي التفكر في الأسئلة الكبيرة حول معنى العدالة، الحرية، والوجود.
—-
مرجع
1- النصوص : للشاعرة فاطمة لغباري
النص الأول: “طالمـا حـدثتـك ـ ـ ـ”
النص الثاني: تتـمـة “طالمـا حـدثتك”
2 – “النقد الثقافي” عند عبد الله الغَذَّامِي “من نقد النصوص إلى نقد الأنساق”
Discussion about this post