الشعر في الفايسبوك: بين الرداءة والمحاولة
نورالدين طاهري
مقدمة
باتت وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما فيسبوك، منصة مركزية لنشر الإبداعات الأدبية، بما فيها الشعر. لقد تغيّرت طبيعة التفاعل بين الكاتب والقارئ مع ظهور الفضاءات الرقمية، وأصبح من السهل لأي شخص أن ينشر ما يكتبه دون الحاجة للمرور عبر قنوات النشر التقليدية. من ناحية، أتاح فيسبوك للجمهور إمكانيات لا حدود لها للتعبير عن الذات ونشر القصائد. لكن، من ناحية أخرى، أدى ذلك إلى إغراق المنصة بنصوص شعرية يصفها البعض بـ”الرديئة” مقارنة بالمعايير الأدبية التقليدية. في هذا المقال، سنتناول ظاهرة “الشعر على فيسبوك” ونبحث في أسباب تداخل المستويات بين الرداءة والمحاولة الجادة.
أولا: فيسبوك كمنصة ديمقراطية للشعر
يتميز فيسبوك بكونه مفتوحا للجميع، مما يجعله منصة ديمقراطية تتيح لكل من لديه موهبة أو رغبة في الكتابة نشر إبداعاته. لكن مع هذه الحرية، ظهرت تحديات تتعلق بجودة النصوص المنشورة، خاصة في غياب معايير واضحة للنشر والانتقاد.
هذه السهولة تجعل المستخدمين الشباب، الذين قد لا يمتلكون خبرة كبيرة في الكتابة الشعرية، ينشرون قصائدهم على الفور. لذا، نجد أنفسنا أمام مزيج من القصائد التي تتراوح بين الرداءة في التعبير، والقصائد التي تنم عن محاولة صادقة وجادة لتقديم عمل شعري حقيقي.
ثانيا: بين المحاولة والنضج الفني
عندما يُنشر الشعر على فيسبوك، يكون الحكم عليه فوريا من قبل المتابعين، الذين قد يبدون إعجابهم أو ينتقدون العمل بشكل علني. هذا النشر الفوري، ورغم كونه محفّزا للبعض، قد يحرم النص من فرصة النمو الناضج، حيث أن الشعر يحتاج إلى مراحل من المراجعة والتطوير قبل أن يُعرض على جمهور واسع.
تفتقر العديد من النصوص المنشورة إلى الحس النقدي والتنقيح الأدبي، فالكثير من الشعراء الجدد ينشرون قصائدهم الأولى دون المرور بمراحل تعديل تُغني التجربة وتُنضج العمل. بهذه الطريقة، نجد أن فيسبوك يشجع “المحاولة” على حساب الجودة، ويحوّل القصيدة إلى محتوى عابر قد يُستقبل بلا عمق، أو حتى بلا تقدير جمالي حقيقي.
ثالثا: تأثير الانتشار السريع والتفاعل السطحي
تستند التفاعلات على فيسبوك إلى الإعجابات والتعليقات، التي تكون في الغالب سطحية أو مجاملة، حيث قد يكتفي القارئ بإضافة تعليق قصير أو إبداء الإعجاب دون الخوض في تفاصيل النص. هذا النوع من التفاعل لا يقدم للشاعر الصاعد نقدا بنّاء، ولا يعينه على تحسين مستواه الأدبي. بل على العكس، قد يُشعره بأنه وصل إلى مستوى من النضج الأدبي، ويغفل عن جوانب النقص في نصوصه.
هذا التفاعل السطحي يكرّس الرداءة بدلا من تصحيحها، ويُشجع على نشر المزيد من القصائد التي تفتقر إلى عمق التجربة الشعرية. وهنا، قد يكون دور النشر التقليدي، والنقاد، وأساتذة الأدب، هو الذي يساعد في تأطير هذه المحاولات وإرشاد الشعراء الشباب إلى تطوير مواهبهم.
رابعا: الرداءة الشعرية ودورها في تشكيل الذوق العام
لا شك أن انتشار نصوص شعرية رديئة على منصات التواصل الاجتماعي، ومنها فيسبوك، يُؤثر سلبا على الذوق العام. فالقصائد التي تنشر دون تحرٍّ أو تنقيح، قد تجعل القارئ يعتاد على أسلوب سطحي يفتقر إلى الجماليات الشعرية والإبداعية العميقة، ما يضر بالتذوق الشعري الحقيقي.
قد يُبرر البعض هذا الانتشار على أساس حرية التعبير، لكن في الأدب، توجد معايير جمالية وأسلوبية يتعين على النصوص أن ترتقي إليها ليحظى القارئ بتجربة أدبية غنية. قد تشكل النصوص الرديئة عقبة أمام القارئ الذي يسعى وراء أدب عميق وراقٍ، كما أنها تفرض على الشعراء الحقيقيين منافسة غير متكافئة على جذب انتباه الجمهور.
خامسا: المحاولة الشعرية كخطوة أولى على طريق الإبداع
على الرغم من انتشار الرداءة، إلا أن فيسبوك يُعطي الفرصة للمحاولات الجادة بالظهور والتطور. فبعض الكتاب والشعراء الشباب، يبدأون مسيرتهم من خلال نشر نصوصهم على فيسبوك، حيث يُتيح لهم ذلك فرصة بناء جمهور أولي وتحقيق تواصل مباشر مع القراء.
الشعراء الذين يُبدون استعدادا للتعلم والتطوير، يستفيدون من هذه المنصة بشكل إيجابي. فالتعليقات النقدية الإيجابية، والتفاعل مع القراء، قد يُحفّز هؤلاء الشعراء على تحسين أنفسهم والاستمرار في مسار الإبداع. في هذا السياق، يمكن اعتبار فيسبوك مدرسة غير رسمية لصقل الموهبة، حيث يمكن للكاتب أن يختبر نصوصه الأولى ويستفيد من آراء جمهوره، ما يجعله أكثر وعيا بعيوبه ويشجعه على تحسين مستواه.
خاتمة: نحو توازن بين الحرية والجودة الأدبية
يُمكن القول إن ظاهرة نشر الشعر على فيسبوك تضعنا أمام معضلة بين الرداءة والإبداع، بين المحاولة الصادقة والتسرّع السطحي. في هذا الفضاء، تبرز الحاجة إلى توازن دقيق بين الحرية في التعبير وتوجيه النقد البنّاء. على النقاد والمثقفين أن يساهموا في توجيه الشعراء الجدد، ومساعدتهم على تجاوز الرداءة والوصول إلى مستوى شعري أرقى.
يمكن لفيسبوك أن يكون ساحة أدبية مثمرة إذا ما استُخدم بحذر، مع التركيز على تطوير المحتوى الأدبي والارتقاء بمستوى الشعر المنشور، ليصبح هذا الفضاء الرقمي منصة للنمو الأدبي، لا مجرد مرآة تعكس الرداءة والتسرع.
Discussion about this post