بقلم د. بوخالفة كريم ـ الجزائر
يقول الأستاذ “مالك بن نبي”:
“ليس من المقبول أن نستثمر ما نرغب فيه ونريده بالوسائل حتى التي هي في يد الغير، بل يجب علينا أن نستثمر ما نستطيع بالوسائل الموجودة فعلا في أيدينا. وإذن، ماهي الوسائل التي في يد شعب في ساعة الصفر من إقلاعه؟ إن ألمانيا بعدما تعطلت تماما سفينتها في نهاية الحرب العالمية الثانية أقلعت بمقدار خمسة وأربعين ماركا للرأس فقط، لكن الاستثمار الحقيقي كان في رأس كل مواطن ألماني وفي عضلاته، وبصورة أشمل وأدق كان في تصميم الشعب الألماني وفي التراب الألماني على الرغم من فقره” .
من أكبر التحديات التي يواجهها أي مشروع تنمية في الدولة هي ثلاثية: “الفقر، والجهل، والتفرقة”. وهنا فإن المقام أضيق من التعمق في أبعاد هذه الثلاثية السوداء –التي قد تطرق إليها الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي بتفصيل أكثر في رسائل النور-.
بحيث أن الفقر هو اللغم الأول لأي مشروع تنمية، فكلما ارتفع الفقر في البلاد انخفض مستوى التنمية فيها، فأيُّ خطة لم تستهدف مكافحة الفقر بالدرجة الأولى لرفع مستوى القدرة الشرائية سيكون مآلها الفشل أو التناقض عاجلا أو آجلا لأنها قد أهملت الغاية الرئيسية والهدف المسبق من التنمية ألا وهو غِنى الإنسان.
أما اللغم الثاني الذي يواجه قطار التنمية فهو انعدام كفاءة العنصر البشري علميا، وعدم فعاليته عمليا، وذلك راجع إلى الجهل وانتشار الأمية وعدم تغطية النظام التعليمي والتربوي للحاجات العقلية والنفسية للإنسان مما يؤدي به إلى تحويله من عنصر بنّاء إلى عنصر هدّام. فالتنمية لا يمكنها إلا أن تتوافق مع العلم، أما الجهل فلا يمكنه أن يتوافق إلا مع التخلف، ومحاولة الجمع بين التنمية والجهل إنما هي كمحاولة غير منطقية للجمع بين النقيضين، وهذا محال. لذلك فإن تأسيس قاعدة تكنولوجية للتعليم تجعل نظامه مواكبا للعصر وتُوصل المعلومة الموثوقة في أسرع وقت إلى كل ربوع الوطن من مؤسسات تعليمية وتكوينية إنما هي السبيل الحقيقي للتنمية المحلية وجعلها مستدامة لأنها ارتبطت بالمُواكَبَة العلمية للعصر.
أما اللغم الثالث فهو يتعلق بالتفرقة الاجتماعية الناجمة عن الصراعات الطبقية والفتن القومية والعرقية التي تضرب النسيج الاجتماعي للأمة، وهذا ما يمكن القول عنه أنه “ضرب التماسك السوسيوثقافي للدولة من أجل إضعاف قدرات. دفاعها الاستراتيجي”، إذ النتيجة المتحصل عليها في حالة تصدُّع البنية الداخلية هي انخراط مؤسسات الدولة برمتها في حالة من النزاع أو الصراع يرهن فعالية أدائها وإنتاجها فتتخلف مستويات التنمية المحلية لأسباب اجتماعية. ولهذا فلابد من عدم إهمال الدور الارتباطي بين التفرقة الاجتماعية والضعف المؤسساتي باعتبار أن تلك المؤسسات في حد ذاتها تستمد شرعيتها القانونية وطاقتها الحيوية من الشعب، فأيّ خلل يصيب المتغير الأخير سيصيب حتما المتغير الأول، وعليه فكلما كان هناك تماسكا للبنية الاجتماعية كان هناك ثباتا لمؤسسات الدولة، وكلما كانت هناك تفرقة وتصدعا كان هناك اختلالا وعدم استقرار للمؤسسات.. مما يؤثر بطريقة مباشرة في حُسن الأداء الوظيفي لها الذي لا تتحقق التنمية المحلية إلا بواسطته.
انطلاقا من التحديات الثلاث المذكورة آنفا والتي ترهن التنمية، يمكن ملاحظة أنها كلها تتأسس على العنصر البشري، فالفقر والجهل والتفرقة ليست إلا أمراضا تحطم هذا العنصر الذي يُعتبر الرافد المحوري لتحقيق تنمية حقيقية، والغنى والعلم والاتحاد هي الأسباب والأهداف في آن واحد التي بإمكانها تكوين إنسان يحقق التنمية الاقتصادية والتطورات العلمية والتنشئة الاجتماعية في أي ظرف كان،.. “ويُستنتج من هذا كله أن العنصر البشري هو أساس القوة الاستراتيجية لأي بلد، حيث لا يمكن تغيير العناصر الاستراتيجية الثابتة كالجغرافيا والتاريخ، ولكن يمكن للعنصر البشري الجيد أن يُكسب الجغرافيا والتاريخ آفاقاً جديدة، في حين أن العنصر البشري غير الجيد يمكن أن يحوّل هذه العناصر إلى عامل إضعاف للبلد” -على حد قول الدبلوماسي أحمد داوود أوغلو-.
والأمر هنا مرتبط بشكل كبير أيضا بمدى نقص الفساد السياسي والمالي عند الحاكمين ومدى اعتمادهم على التخطيط الاستراتيجي والحكم الراشد بدلا من العمل التكتيكي المؤقت، ومدى اتحادهم والتنسيق فيما بينهم وتفعيل الجماعات المحلية برؤية استراتيجية مشتركة بعيدة عن الفوضى ونقص الفعالية تستهدف الصالح العام.
وعليه فإن هذه التحديات الكبيرة ترتبط ارتباطا وثيقا بالداخل الوطني ومدى اعتماده على نفسه وتشكيل رؤيته لذاته ولمستقبله، إذ كلما كانت التنمية مبنية على الذات وعلى العنصر البشري المحلي كان التحكم في وجهتها المستقبلية واستدامتها أكبر، بينما استيراد النماذج من هنا وهناك فلن يحقق التطلعات المرجوة التي تتماشى مع الواقع الداخلي والأجيال القادمة التي ستكون نِتاجا له.
Discussion about this post