فيلم «يوم جرذ الأرض».. سحر الرومانسية الدفينة في الإنسان
«يأمل المتشرد والنبيل والشاعر والحالم الذي يعاني من الوحدة في الرومانسية والمغامرة دائما». لم يكن تشارلي تشابلن مخطئا عندما قال هذه الكلمات، فقد كان أفضل من أحس بمشاعر الإنسان مهما كانت خلفيته. وفيلم «يوم جرذ الأرض» (1993) الشهير، الذي يعده النقاد أحد أفضل الأفلام في تاريخ السينما الأمريكية لاسيما في مجالي الرومانسية والفكاهة، الأكثر عرضا في قنوات التلفزيون الغربية حتى إن قناة شهيرة تعرضه بتواصل على مدى أربع وعشرين ساعة يوم الثاني من شباط/فبراير.
كما نشرت عنه عدة كتب وأطروحات أكاديمية، وتقوم وسائل الإعلام بنشر مقالات عنه دائما. وجعل هذا الفيلم الممثل بيل مرّي من أشهر نجوم السينما الأمريكية، ومن الصف الأول. وقبل الخوض في تفاصيل الفيلم، من الضروري التوضيح، أن جرذ الأرض ليس الجرذ الذي يعرفه الجميع بل هو نوع ضخم من السناجب، يصل طوله أحيانا حوالي سبعين سنتمترا ووزنه أكثر من ستة كيلوغرامات.
أحداث الفيلم
تبدأ أحداث الفيلم في اليوم الأول من شهر فبراير حيث يعلن «فيل كونرز» (بيل مرّي)، مذيع النشرة الجوية، على شاشة التلفزيون، أن منطقة غرب ولاية بنسلفانيا الأمريكية لن تكون على مسار عاصفة ثلجية. وفي تلك الأثناء كانت إحدى البلدات في غرب بنسلفانيا تستعد للاحتفال في اليوم التالي، أي الثاني من الشهر نفسه فبراير، حيث يسمح لحيوان «جرذ الأرض» بالخروج من الأسر، وإذا قام بحركة معينة فور خروجه، فهذا يعني حسب الأسطورة، أن الشتاء قد انتهى ليحل الربيع. أما أذا لم يقم بها، فهذا يعني أن الشتاء سيدوم لستة أسابيع مقبلة. وتأمر إدارة قناة التلفزيون «فيل كونورز» مع المنتجة التلفزيونية «ريتا هاريسن» (أندي مكدول) والمصور «لاري» (كرس أليوت) لتغطية ذلك الاحتفال، ويصل الفريق تلك البلدة يوم الأول من فبراير.
ولكن «فيل» يشعر بالإهانة ، فهذه البلدة الصغيرة بسكانها الأغبياء في رأيه وذلك الاحتفال السخيف أقل من مقامه، وأكد أنه سيغادر البلدة في اليوم التالي، أي يوم الثاني من فبراير، ويترك العمل في تلك القناة للالتحاق بقناة أخرى. ويستيقظ «فيل في الساعة السادسة صباح الثاني من الشهر ويقوم بتغطية الاحتفال بشكل سيئ حيث يقدم عرضا تلفزيونيا تافها ويزعج زميليه بقلة أدبه واحتقاره للجميع. ولكنه يفشل في مغادرة البلدة بسبب هبوب عاصفة ثلجية كبيرة عزلت البلدة عن العالم الخارجي، فيضطر أن يقضي ليلة إضافية في فندق المدينة. وعندما يستيقظ في الساعة السادسة صباحا مرة أخرى يكتشف أن اليوم السابق، أي الثاني من فبراير، يعيد نفسه ما يثير دهشته، ولكن الأمر لم ينتهِ هنا، إذ يكرر اليوم نفسه كل يوم، فيفقد «فيل» أعصابه ويصبح أكثر عدوانية مع الآخرين ويشعر باليأس.
ويصل به الأمر إلى انتحاره ليفاجأ أنه يستيقظ في اليوم التالي في الوقت نفسه ويبدأ اليوم نفسه من جديد، ولذلك، فإنه يعيد الكرة لينتحر مع جرذ الأرض هذه المرة، ولكن دون جدوى، حيث إنه يستيقظ مرة جديدة ويبدأ اليوم نفسه. وفي هذه الأثناء يكتشف «فيل الكثير عن هذه البلدة وما سيحدث فيها من مشاكل خلال ذلك اليوم. ويكتشف كذلك أنه أخذ يعجب بـ»ريتا»، المنتجة التلفزيونية، ولكنها تصده لأنه الأكثر تعجرفا والأقل أدبا. ولذلك يقرر أن يتغير ويصبح رجلا طيبا طمعا بحبها. وطالما أنه كان يعرف عنها شيئا جديدا كل يوم، فقد حاول أن يبهرها، فعندما يعرف أنها مهتمة بالأدب الفرنسي، يتقن الفرنسية ويقرأ الكثير عن الأدب الفرنسي كما يتقن العزف على البيانو بسببها.
ولم يكن ذلك صعبا، فاليوم يعيد نفسه دائما ما يعني أن لديه كل ما يحتاجه من الوقت. وتدريجيا أصبح الأكثر شعبية في البلدة، حيث إنه ينقذ عمدة المدينة من الاختناق أثناء تناوله الطعام وينقذ طفلا من السقوط من أعلى شجرة ويساعد نساء في تغيير عجلة سيارتهن المعطوبة في الصقيع، ولكنه يفشل في محاولة إنقاذ المتشرد من الموت، ما يثير استياءه بعمق. وفي نهاية المطاف يصبح «فيل» الأكثر شعبية وإبهارا في البلدة بلا منازع. أما «ريتا»، فتبدأ في تغيير رأيها عنه وتميل إليه تدريجيا، حتى تقرر أن تقضي الليلة في غرفته. وعندما يستيقظ «فيل» في اليوم التالي يكتشف أن اليوم هذه المرة لم يكرر نفسه، حيث كان تحوله إلى رجل طيب وحصوله على حب «ريتا» طريقة الخروج من دوامة تكرار اليوم. وينتهي هنا الفيلم.
الرومانسية
يلمس الفيلم وبطريقة بالغة البراعة، وترا حساسا في شخصية المشاهد مهما كانت خلفيته عن طريق تناول موضوع الرومانسية، إذ أن الرومانسية جزء مهم من الطبيعة الإنسانية، ما يجعلنا تواقين إلى العثور على شريك الحياة. ولهذا السبب كذلك كان المشاهد متقبلا للقصة غير الواقعية للفيلم. ويتناول الفيلم أيضا مشكلة يعانيها الكثير من الناس، ألا وهي شعور المرء بأن حياته اليومية تتكرر بشكل ممل ولا يمكن تغييرها. والحل الذي يقدمه الفيلم فكرة مفادها، أن الحب والسعي لتحقيق هدف يخدم المجتمع، هما الطريقتان الأفضل للخروج من النمط المتكرر والممل للحياة اليومية. ونجح الفيلم في تصوير موقف مأساوي تمثل في تكرار اليوم الذي أصاب «فيل» باليأس بشكل فكاهي، ما جعل وقوع «فيل» في حب «ريتا» وتغير شخصيته يبدوان طبيعيين جدا.
ولكن الغريب في الأمر أن الفيلم يجعل المشاهد يشعر بالسعادة، فالمرح الصفة السائدة في الفيلم، على الرغم من كون القصة في أغلبها بائسة في الحقيقة حتى ربع الساعة الأخير، فعلى الرغم من محاولات «فيل» الحثيثة لا يوجد ما يضمن قبول «ريتا» به. وقد يكون هذا سبب مشاهدة البعض الفيلم مرات عدة وشهرته، إذ أنه يعطي الانطباع بأن هنالك طريقة للتخلص من اليأس الذي قد يدفع المرء إلى الانتحار، وأن على المرء عدم الكف عن المحاولة.
أبدع كل من مثل في الفيلم في أداء دوره، لاسيما الممثل بيل مرّي، الذي طالما مثل الشخص الأناني الكريه (يقول كل من يعرفه أنه في الحقيقة أسوأ من ذلك)، وللمرة الأولى يمثل دور الرجل الطيب وأبدع في هذا.
كان من المقصود أن تكون شخصية «فيل» فكاهية وأن تكون شخصية «ريتا» جدية ولكن لطيفة لخلق التناقض بين الشخصيتين. وهذا أسلوب معروف في العروض الفكاهية وقد تكون أشهر الأمثلة في هذا المجال «لوريل وهاردي» حيث كان «لوريل» المضحك بين الاثنين، بينما كان «هاردي» نظيره الجدي. ومن الأمثلة الأخرى «دين مارتن وجيري لويس»، وكذلك «أبوت وكوستيلّو».
يركز الفيلم بشكل غير مباشر على الشخصيات التي يقابلها «فيل» ورد فعله تجاهها. وقد يكون أقربها إليه المتشرد، الذي يفشل «فيل» في إنقاذه، حيث إن المتشرد كان وحيدا وغير قابل للانسجام في المجتمع مثل «فيل»، وعندما توفي المتشرد وحيدا وبائسا، دون أن يشعر أحد بذلك أدرك «فيل» أن هذا سيكون مصيره في نهاية المطاف، إلا إذا غير نفسه نحو الأفضل.
على الرغم من أن نجاح الفيلم لم يكن استثنائيا عندما عرض في دور السينما، فإنه أخذ يزداد أهمية تدريجيا حتى تحول إلى ظاهرة فنية وثقافية عالمية. وأصبح محور نقاش في مختلف المستويات، حتى إن بعض المتدينين المسيحيين أعدوه فيلما دينيا، بينما اعتبره هواة الفلسفة فيلما فلسفيا. وقد يكون سبب ذلك أن كلا من هؤلاء أعجب بالفيلم، وأخذ يجعله بعد ذلك متناسبا مع أفكاره الشخصية.
لا يبين الفيلم عدد الأيام المتكررة، ولكن القصة الأصلية ذكرت عشرة آلاف سنة بينما ذكر المخرج حوالي عشر سنوات. ولكن أحد النقاد أكد أنها ثلاث وثلاثون سنة وثلاثمئة وخمسون يوما، على الرغم من أن ناقدا آخر اقترح ثلاث سنوات. وربما يدل هذا على أن بعض النقاد بالغوا في أخذ الفيلم مأخذ الجد، فهو في نهاية المطاف ليس سوى فيلم خيالي.
التصوير
رفضت عدة شركات للأفلام السينمائية قبول القصة حتى قبلها المخرج والممثل هارولد راميس، الذي حولها إلى قصة فكاهية وقام بتغييرات كثيرة فيها. وكانت المشكلة اختيار الممثل لأنه يجب أن يجيد أداء دور الرجل السيئ في بداية الفيلم والرجل الطيب في نهايته، ولذلك رفض الممثل توم هانكس تمثيل الدور، لأن الجميع يعلم أنه يمثل الرجل الطيب، مما يشير إلى نهاية الفيلم منذ البداية. وأخيرا لجأ المخرج إلى زميله في عدة أفلام سابقة، بيل مرّي، الذي وافق لاسيما أنه سبق وأن مثل دور الشخص الذي يبدأ سيئا، إلا أنه يصبح إنسانا لطيفا بعد ذلك.
ولكن الممثل عرف بشخصيته الفظة وتعجرفه، أي مثل شخصية «فيل» في الفيلم، إن لم يكن أسوأ. وكان الممثل كذلك في حالة نفسية سيئة لأنه كان في فترة الطلاق من زوجته. ومما زاد الطين بلة، أن الممثل أراد الفيلم أن يكون فلسفيا، بينما أصر المخرج على أن يكون فكاهيا. واستمر الخلاف بين الاثنين حتى انتهى تصوير الفيلم لتبدأ قطيعة طويلة بينهما.
قرر المخرج عدم تصوير الفيلم في البلدة التي يقام فيها ذلك الاحتفال، لأنها صغيرة جدا ولعدم وجود فندق مناسب فيها، ما أغضب مجلس بلدية البلدة ورفضها إعارة «جرذ الأرض» لطاقم الفيلم، حيث كان ذلك الجرذ يُربّى لديهم خصيصا لذلك الاحتفال، أي أنه لم يكن جرذا بريا حقيقيا. ولذلك حصل المخرج على جرذ بري تم اصطياده. ولكن هذا الجرذ البري عض الممثل بيل مرّي، الذي اضطر أن يذهب إلى المستشفى لتلقي العلاج ضد مرض الكلب، مما زاد من استياء الممثل الذي كان يشكو كذلك من برودة الطقس طوال فترة التصوير.
احتفال «يوم جرذ الأرض»
لم يكن الاحتفال بهذا اليوم في تلك البلدة خياليا، بل كان حقيقيا جدا، وهدفه توقع نهاية الشتاء، أي أن جرذ الأرض يتوقع الأنواء الجوية. ولا يأخذ أحد توقعات ذلك الجرذ مأخذ الجد، ولكن الأمر مناسبة للاحتفال وجذب السياح. وقد أثبت العلماء أن توقعات الجرذ لا علاقة لها بالواقع.
كان المهاجرون الألمان قد جلبوا معهم هذا الاحتفال، حيث كان يمثل احتفالا دينيا في ألمانيا، إلا أن الألمان لم يستعملوا «جرذ الأرض» في بلادهم، بل حيوان الغرير. وبدأ الاحتفال في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1887، وكان يحضره عدة مئات من المتفرجين. ولكن الأمر تغير بسبب شهرة الفيلم، حيث صار عدد الزوار بالآلاف، ويحضر الاحتفال حاكم ولاية بنسلفانيا، وأصبحت هذه البلدة مركزا سياحيا مهما.
أصول القصة
كتب الكاتب الأمريكي داني روبن قصة الفيلم. وعلى الرغم من ادعائه أن القصة أصلية، إلا ان البحث التاريخي يثبت عكس ذلك، فقد ظهرت فكرة مأساة حياة رجل في زمن متوقف حتى يعثر على فتاة تحبه في فيلم «باندورا والهولندي الطائر» Pandora and the Flying Dutchman الذي عرض عام 1951 ومثله جيمس ميسن. أما فكرة تكرار يوم معين، فقد ظهرت للمرة الأولى في الفيلم الفرنسي «الخامس عشر من مايو» Le 15 mai الذي عرض عام 1969 ثم ظهرت مرة أخرى في فيلم ياباني عرض عام 1984.
تأثير الفيلم على السينما والثقافة الشعبية
كان تأثير الفيلم على الثقافة الشعبية قويا إلى درجة أن اسم الفيلم أطلق على حالة مرضية يمتاز المصابون بها بشعورهم بأن حياتهم تتكرر بشكل يومي إلى ما لا نهاية. وفي الوقت نفسه، فإن أبحاث المختصين في علم النفس تبين أن القيام بتغييرات كبيرة على حياة الإنسان لا تجلب السعادة على المدى الطويل. جعل الفيلم فكرة تكرار الزمن معتادة في الأفلام السينمائية حيث يعرض فيلم، أو مسلسل جديد يتناول هذه الفكرة كل عام تقريبا مثل «يوم موت سعيد» Happy Death Day (2017) و»الدمية الروسية» Russian Doll (2019-2022) و»بالم سبرنغس»Palm Springs (2020) وأفلام أخرى كما أنتجت عدة أفلام مقتبسة من هذا الفيلم.
باحث ومؤرخ من العراق
زيد خلدون جميل
Discussion about this post