من خلال رمزية البحر،الذي يعبر عن عمق أفكار الوجود، والسيطرة والمقاومة يحمل نص ” *يكفيك هذا البحر* ” لجنيد محمد الجنيد رؤية شعرية متكاملة للحياة، والوجود، و القوة السياسية مع التركيز على أهمية استحضار التاريخ من خلال تفعيل الذاكرة في تشكيل الوعي الجماعي، هكذا يعكس نص ” *يكفيك هذا البحر* ” إحساسا بالتحدي والإصرار على التّطور، والنمو رغم الصعوبات، والتحديات التي تواجه البلاد.
و النّص لا يخلو من استخدام اللغة بفاعلية وذكاء للتواصل مع المتلقي وتفعيل نشاطه لمحاورة النص، ويبرز ذلك من خلال شاعرية اللغة والصور الجمالية الغنية المليئة بالإيحاءات والدلالات، والرموز، وتوظيف اللغة من المبدع بهذه الفاعلية يحفز نشاط المتلقي للإسهام في إنتاج رؤية النص ورسالته المنضوتين في البنية النصية للنص، فمن خلال استحضار رمز البحر يحمّله المبدع رؤيته -بلغة شاعرية- للحياة والوجود.
النص يتمحور حول دعوة الفرد إلى التجلي والاعتماد على الذات لتحقيق الأهداف، والنجاح فلكل شخص القدرة على صياغة مصيره من خلال استكشافه لنقاط قوته وضعفه، واستغلال الفرص التي تلوح أمامه في الأفق، وأخذ الحيطة والحذر من التهديدات التي قد لا يحسب حسابها.
ويدعو النص المتلقي إلى التسلح بالفن، والثقافة، والتحدي المستمر للقيود، والتحليق في أفاق أكثر رحابة، وسعة للتخلص من الجمود.
كما يكشف النص للمتلقي عن أهمية وعيه بالزمن وأثره، ولا ننسى فحص أنفسنا ومن حولنا، وتقييمنا تقييما ذاتيا، وتقبل النقد وفحصه.
ويقع على الأفراد التفكير في تجاربهم وتحدياتهم التي يواجهونها بشكل عميق، ويجب أن نحرص على اتخاذ مواقف إيجابية تجاه التغيرات والضغوطات التي نواجهها.
ويبرز الشاعر العلاقة العميقة بينه وبين المتلقي، من خلال استخدامه في النص لتقنيات تواصل فعالة، ويمكن أن نكشف عن تلك التقنيات من خلال تحليلها وكشف آليات إتصالها التي إتكأ عليها المبدع للتواصل مع المتلقي، ومنها:
١- *التوجيهات المباشرة:*
يقدم المبدع مجموعة من التوجيهات المباشرة للمتلقي، والتي تظهر بوضوح من خلال دلالتها الموحية بالنصح والإرشاد ” *خذ ما شئت .. وانظر في المدى المفتوح”* فعل الأمر هنا يأخذ معنى النصح والإرشاد، فلايهم من تأخذ لكن لينم اختيارك عن نظرة ثاقبة، وتأمل عميق، فهذا المدى أمامك واسع، و أنظر إلى هذا الأفق الواسع، ولا تقف مكتف اليدين، فهذه العبارة تفعّل نشاط المتلقي مع النّص وتدعوه إلى استكشاف المعاني المختلفة التي يحملها، هل يقصد المبدع بقوله *”وانظر إلى هذا المدى”* هو تدقيق المتلقي في من سيستعين بهم فالوطن في مختلف أرجائه مليء بالمثقفين والمؤهّلين لقيادة المرحلة وزيادة فاعلية أداء المتلقّي لتحقيق النّتائج؟ أم أن المبدع يدعو المتلقي للانطلاق في اتجهات عديدة، وتوسيع دائرة الحلفاء، وعقد صداقات جديدة مع دول أكثر فاعلية في اتخاذ القرار، ومساعدة المتلقي على استعادة حقّه المسلوب؟
وهكذا تُفعِّل هذه العبارة نشاط المتلقي، وتحفزه للبحث عن المعنى، وإعادة بنائه.
٢- *الاستخدام الجمالي للُّغة:*
يستخدم المبدع اللُّغة استخداما جماليَّا في النَّص، محمِّلا تلك اللُّغة انزياحات معبِّرة عن مقاصده، ورؤيته التي يريد نقلها للمتلقِّي، مما يدعو المتلقِّي إلى التَّأمل فيها والتَّفاعل معها *” عالمك الجميل على شواطئ رمله الذهبي” و”أنت سلطان تسوس الملك”* هذه الصورة تجذب انتباه المتلقي، وتتيح له الانغماس في عالم النص، واستكناه تفاصيله، ومعانيه والاسهام في إعادة إنتاجه، فالشَّواطئ تعبر عن الجمال والصفاء، والتقاء الماء باليابسة، فتبعث في نفس المتلقي الطَّمأنينة، والسكينة، والتَّساؤل عن المعنى المضمر وراء هذا التَّحفيز..وتُنشِّط هذه الصُّورة ذهن المتلقي في التَّفكير بالمعنى المضمر وراء وصف المبدع للرمال بالذَّهبيَّة، هل يقصد استغلال هذه الثَّروة الطَّبيعية، والعمل على الشَّواطئ الجميلة في بلادنا لرفد الاقتصاد؟! أم هل يشير المبدع إلى الثروات الكامنة في الطبيعة؟! من غاز، ونفط، ومعادن ونحوها، بالتَّالي يظهر هذا التعبير العلاقة بين الإنسان و الانتماء إلى المكان، كمكان خصب للإبداع والتأمل فيما يكنزه من ثروات.
٣- *استخدام العاطفة:*
يتَّسم النَّص، بصوره ومفرداته التي تحمل مشاعر جياشة، ومعاني عميقة، فعاطفة المبدع تظهر بوضوح من خلال دعوته للمتلقي إلى الانطلاق في هذا الكون وتغيير الاتِّجهات في حال فشلت المحاولات السابقة
” *حولك من طيور البحر أسراب*
*تسر الناظرين،*
*تعيد تشكيل السماء بهجرة”*
ففي هذه الصورة دعوة من المبدع للمتلقي لسلوك سلوك الطير المهاجر، وتغيير الاتجهات، والتوجهات، ممَّا يخلق تواصل عاطفي بين المبدع والمتلقي، ويدعو المتلقي إلى البحث عن تلك الاتِّجاهات، والمبدع يحمل للمتلقي كلَّ الولاء والاحترام والتقدير ويتَّضح ذلك من خلال قوله ” *لكي يتجهزوا لك بالتحية”* هذه العبارة تشعر المتلقي بمدى احترام وتقدير،المبدع له، وإن ما حمله النص من أفعال الأمر هي عبارة عن نصح وإرشاد، وتفتيح أفاق المتلقي لكلِّ ما يجري من حوله من تغيُّرات، وتحوَّلات.
٤- *البحث عن المعنى:*
يدعو المبدع المتلقي إلى البحث عن المعنى، والتَّنقيب عن دلالاته الدَّفينة من خلال استخدامه للتساؤلات التي تحتاج إلى إجابة
*” *فهل لملمتها لتكون أقرب في*
*حضور الذات؟”**
و ” *هل عتبات هذا الأفق في الحصن الحصين*
**أساسها متجذر الرؤيا؟*
*وهل يوما تلمست النقوش بها؟”**
و *”وماذا أنت تقرأه*
*على أسوار وهج رموزها؟”* كلُّ هذه التَّساؤلات تثير في المتلقي البحث عن عمق الهويَّة والوجود، وتدعوه إلى التَّفكير في التَّجربة البشرية والوعي الذَّاتي، فيعكس من خلالها المبدع الأبعاد الفلسفية للوجود.
وهذا يدعو ويشجع المتلقي على محاورة النص حوارا داخليا وبناء المعنى من خلال التفسير الشخصي.
٥ *- تضمين التَّجارب:*
يوظِّف المبدع في النص تجارب وأحاسيس متنوعة، مما يسهم في قابلية النص للتفسير الشخصي، والتفاعل معه بعمق إذ يقدِّم المبدع للمتلقي نصائح بأن يكون هو محور القضايا التي يحملها النص.
٦- *التجسيد الرمزي:*
يستخدم المبدع مجموعة من الرموز في النص
ليحمِّلها معاني عديدة، ممّا يتيح للمتلقي تأويل تلك الرموز وسبر أغوارها واستكشاف دلالاتها المختلفة، وأبعاد النص المتعددة، كذاكرة الملوك ووهجها.
٧- *الرؤية:*
يُفعُِّل المبدع رؤية المتلقي من خلال تقديمه رؤيته التي ستساعد في حلحلة الرَّكود الجاثم على صدر قضيتنا في الوضع القائم، ورؤية المبدع تضمر في طياتها قدرته التَّحليلية لقراءة الواقع، واستكناه تفاصيله للخروج برؤية واضحة، فيمكن للمتلقي أن يتفاعل مع رؤية المبدع لإنتاج رؤيته الخاصة بناء على تحليل المبدع للواقع، والذي اعتمد في تحليله على استخدام مخطط *صوات* ، الذي يبتكر أربعة عناصر لتحليل الوضع القائم، والوصول إلى نتائج تمكِّن من معالجته.
وكما أبدع *صوات* في ابتكار عناصر لتحليل الواقع، كذلك يقدم مبدعنا رؤيته للمتلقي بطريقة إبداعية حديثة، ومبتكرة، وبلغة شاعرية من خلال استخدامه الشعر لإرشاد المتلقي في تلقي نقاط القوة وتفعيلها، ونقاط الضعف ومعالجتها، والفرص واستغلالها، والتهديدات والحذر منها، والقضاء عليها في بداياتها، بالعقل، أو بالقوة المقننة وممَّا جاء في ذلك:
١ *- نقاط القوة:*
تتمثَّل القوة في قدرة المتلقي على التَّحكم في البيئة المحيطة والتصرف بحرية، وقدرته على التَّعبير عن نفسه واقتناص الفرص. يظهر هذا جليَّا في الأبيات التي تقول: ” *أنت سلطان تسوس الملك، تحتكم الجهات إليك* .. *أنت الآمر الناهي ، فقل ما شئت ..”،* و ” *هذي الأرض ملكك .. فامش منتصباً بقامتك المديدة فوقها”*
٢- *نقاط الضعف* :
غير واضحة في النص، فالمبدع من ثقته، وقراءته للواقع لا يرى في شخصية المتلقي أي ضعف
ولعل تفسير قول المبدع *”وعليك أن تمضي وتحذّر من غبار الوقت..”* كنقطة ضعف تتمثل في الحاجة إلى التوازن بين التقدم والحذر من التّحدِّيات النّاشئة من أجل استغلال الوقت.
كما أن أحد أنساق نقاط الضعف٨ المضمرة يمكن قراءتها من عدم استغلال المتلقي لنقاط القوة، والفرص المتاحة أمامه.
٣- *الفرص*:
من الفرص المتاحة أمام المتلقي التي يراها المبدع هي الحرية والاستقلالية والقدرة على التحكم في محيطه من خلال ثقة شعبه به من أجل تحقيق أهدافهم ورؤاهم وتطلعاتهم . هذا ما يظهر في الأبيات التي تقول: *” *أنت الذي لونته بزخارف العشق* *الجميل وأنت من عنونته* و *بعبارة مثلى دليل محبة* *فأكمل سطورك بالبديع وبالجمال”.*
٤- *التهديدات:*
يرى المبدع أنّ المتلقي يواجه مجموعة من التهديدات، فمن خلال النص يشير المبدع إلى التهديدات التي قد تواجه المتلقي عندما يقول: ” *وعليك أن تمضي وتحذر من غبار الوقت..*
ويقول: *أن تقضي على سوس تكاثر، ضاقت على مفتاحها…”،* وهذا يشير إلى التحديات والعقبات التي قد تواجه المتلقي والتي يجب عليه التغلب عليها، والحذر منها، والتعامل معها بجدية، وحزم.
وفي ختام الحديث عن الرؤية التي يحملها النص هناك الكثير من نقاط القوة التي تُقدِّم للمتلقي رؤية واضحة عند قراءة هذا النص. فالنّص يحمل الكثير من الصور البيانيّة والرموز الثقافيّة، والأفكار الواقعيّة التي يستطيع المتلقي فهمها وتفسيرها إذا كان لديه معرفة بالثقافة العربية والتاريخ العربي. كما أن النص يتحدث عن قضايا سياسيّة واجتماعيّة واقعة في الزمن الحالي يمكن للمتلقي البحث عنها من خلال النص.
قد يكون النص صعبا على بعض المتلقِّين بسبب الغنى البياني والرّمزي، فالنص يتطلب من المتلقي معرفة واسعة بالثّقافة والتاريخ العربي لفهم الرموز والإشارات الثقافية الظاهرة والمضمرة.
وإلّا فأنّه من الصعب على بعض المتلقين فهم النص بالكامل بسبب الغنى البياني والرمزي المكثف في النص..
Discussion about this post