جلابيب واسعة
محمد الفقي
مات عم صديقى ، معنى هذا أن نستعد ليومٍ شاق حيث العزاء لم يقتصر على تشييع الجِنازة ، هناك سُرادقٌ كبير نُصب على مسافة خمسة أفدنة فى الجمَالون القِبْلية ، لا تترك كل شئ و تسأل أين تقع الجمَالون القبلية وهل هناك جمَالون بحرية أم لا ؟ لأننى ببساطة شديدة تكدست رفقة من تكدسوا كالأنعام فى سيارة واحدة لأداء واجب العزاء .. مسافة ساعتين أو ثلاثة ، عينك لا ترى إلا النور ، تحملنا بلادٌ وتتقاذفنا طُرق ، لا أقول غفونا قليلاً أو شردنا عن وِجهتنا ، المأساة الحقيقية بدأت مع ( بازوكا ) السائق المجنون الذى لفرط براعته وضعنا جميعاً فى خدمة ( شقلبنى شكراً) ، كان يقفز بالسيارة عدة أمتار فى الهواء قبل أن يهوى بنا من جديد لندرك أننا مازلنا على قيد الحياة وأن ما حدث كان مزاحاً سخيفا من القدر، لا أقول من بازوكا فقد جاء عابثاً متجهماً من البداية ، كأنه مرَّ بأزمةٍ عاطفيةٍ مُزمنة جعلته يتشاجر مع تسجيل السيارة بأبشع الألفاظ وهو يفر من إليسا إلى أصالة ومن نانسى إلى فيروز ، فى البداية كنت أعتقد أنه يبحث عن قُرءان لنسمعه كما يليق بقومٍ ذاهبين لواجب عزاء حتى جاءنا صوت مصطفى كامل بين دمعتين ( ازيك حبيبى ) ، لا أقول أنه ارتاح تماماً بعدها ، لكنه انتهى من ضوضائه على الأقل ، نحن أيضاً كان من حقنا أن نرتاح ، من حقنا أن نكمل ما تبقى فى هدوء ، لكن يبدو أنه لا سبيل إلى الراحة مع هذا النوع من الأوغاد الذين لا يُبالون بشئٍ ولا يحرصون على شئٍ كحرصهم على استفزازنا بوقاحتهم ، لقد اصطدم بنا من جديد وكاد أن يقتلنا جميعاً ليرحم كلباً قطع علينا الطريق من أبشع موت كان فى انتظاره ، صحيح أنه تمالك أعصابه فى اللحظة الأخيرة وبدا رحيماً بالحيوانات أكثر من البشر ، لكنَّ هذا لم يشفع له عند الكلب الذى قضى له على فوانيس الإضاءة وما يجاورها فى مقدمة السيارة كعقاب على الفزع الذى انتابه قبل أن يواصل سيره أمامنا بكل برود ونحن نضرب كفاً بكف ، الآن أسترجع الذكرى كاملة .. كادت قلوبنا أن تكُف عن نبضها بينما تنهد بازوكا من أعماق صدره وهو يتمتم ( تباً لها من ظهيرة ) ، ثم عاد مُصرَّاً بعد رؤيته للسيارة التى تهشمت من ساق الكلب أنه قطع نفس الطريق بالأمس ولم يكن هناك أثر لمطبٍ أو حفرة أو حتى كلب كما حدث اليوم ، لكنها أقدام ، ليكن هذا هو أول التلميحات البذيئة لنا من بازوكا .. لقد اتهمنا جميعاً بالنحس ثم عاد ليبتزنا بتلميحات أكثر وقاحة على غرار ( من كان جُنباً فليغتسل قبل ركوب السيارة ) ، فى النهاية وصلنا الجمَالون القبلية أو كدنا أن نصل ، كنا قريبين حقاً، لكن السيارة توقفت على مسافة كيلو من المكان وأقسمت ألا تتحرك خطوة واحدة لينطلق بازوكا من جديد بسيلٍ من لعناتٍ كانت مكبوتة بداخله ، أجهده أن يكتمها أكثر من ذلك فبصقها فى وجهنا دون أن يشعر بالذنب ، هذه اللعنات بعضها كان لنا وبعضها كان للسيَّارة التى لم تعد تنطق ، أدركنا أن العطل سيأخذ وقتاً طويلاً من بازوكا فتركناه مع سيارته أو ما تبقى منها وذهبنا نستبق اللعنات عليه فى المسافة الباقية حتى وصلنا السرادق مُنهكين كدجاج الوزارة .. هالنى شكله غارقاً فى الأناقة ، تملؤه العدسات الناقلة ومكبرات الصوت بعدد يفوق نظيره فى مهرجان الجونة ، لا أدرى هل أصبح شرطاً للوجاهة عند الناس أن يفردوا ما عندهم من الحزن هكذا ، هل ثمة حكمة فى ذلك ؟ .. لو وجدت فى ذلك حكمة فقد امتزج فى فمك طعم الملح والسكر وعليك أن تراجع حواسك إذ ربما توقفت ولم تدر .
كان فى استقبالنا عددٌ لا نهائى من الشيوخ والصبيان الذين غاصوا بدورهم فى جلابيب واسعة فلم تعد تميز هذا من ذاك ، مُدت أيدينا لهم بالسلام فتلقفتها أيادٍ كثيرة ، أياد غليظة تربت على حمل الفأس وجهاد السُخرة فى الجبال ثم أوصلتنا فى سلام إلى مقاعدنا ، من بعيد تراءى لىَّ الشيخ الذى اصطحبوه للتلاوة تلوح على وجهه ابتسامة حياءٍ وارتباك ، هكذا لمحته من مكانى بين جمع كثيف من الناس ، كان مميزاً بالجُبة والقفطان وفوق رأسه طربوشه الأحمر الملفوف بعمامة بيضاء ، زاد يقينى بذلك عندما صعد المنصة شابٌ متوسط الوسامة والثقافة ليقوم مقام الحاجب ببراعة و إذ به يسوق لنا الشيخ كما يسوق مصارع فى الرَّسِلْ مينيا ، عندها تورد وجه الشيخ وراح ينفض عن نفسه الحياء والخجل ثم دوى صوته فى المكان فأطرب الأسماع والآذان وانهال محبوه بالتقاط الصور معه ، ما دفع الناس بعد ذلك أن يتسللوا واحداً تلو الآخر لفعل الشئ ذاته ، حتى أهل الميت وذوى رحمه لم يسلموا من فتنة العدسات وراح بعضهم يستخدم عصا السيلفى لجودة أعلى ، لحظات من الفوضى ثم خفت نجم الشيخ الذى سلك مسلك قراء ليبهروك بسعة اطلاعهم تراهم يزجون بك فى مقامات لم تألفها وقراءات لم تتدرب عليها لجذب انتباهك لا أكثر ،لقد خنق الأنفاس بتلك الطريقة ولم ينله منها إلا السخط ، قلت لنفسى هؤلاء ما كان لهم إلا قراءة واحدة ومقام واحد فهم ليسوا سمّيعة كما تعتقد ، إنهم بارعون فى تمثيل الورع كبراعتك أنت فى خداعنا بعذوبة صوتك وبراعتنا جميعا فى ارتجال مشاعر كاذبة ، مشاعر تحت الطلب نرتديها على عجلٍ لأداء الواجب ثم نخلعها بعد ذلك لنواصل حياتنا الطبيعية ، لعل فى هذا النوع من الكذب حكمة نفر بها كل يوم من أعراسنا إلى مآتمنا دون أن تتلف أعصابنا أو تنهار ، لقد احتاج الشيخ نصف ساعة كاملة ليفهم أن المشاعر التى غمرته لم تكن صادقة جُل الوقت .. نصف ساعة لينتهى من قوله ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) .. قالها على مهلين كأنه نسىَّ ما بعدها أو هكذا اعتقد بازوكا الذى فاجئنى همسه قبل أن أنتبه تماماً لوجوده ، لم أعره اهتمامى حتى مال على أذنى وقال (قم رده ) ، تأففت كثيراً حين جاءنى صوته بين قوسين ، لا أدرى أكان موجوداً قبلها أم أنه جاء أثناء انهماكنا بشئٍ آخر ، أكان يقصد حقاً أن أكمل للشيخ ما توقف عنده أم ماذا ؟ ، يا رباه ! كيف ولج هذا الوغد من دون أن ننتبه ؟ ، أين السيَّارة إذن ؟ ، هل أصلحها ، هل تركها وعاد ؟ ، هل … ؟ إلى آخره .. تساؤلات كثيرة عصفت برأسى ما إن تحسست موضع بازوكا القريب من دهشتى ، دقائق مرت والشيخ رغم كل هذا لم يتجاوز الآية التى بدأها فتعجل الناس النهاية بهمهمات تورث الغضب وشاع الهمس فى الآذان شيوع النار فى الهشيم، لكن مجاذيب الشيخ ودراويشه الذين أتوا معه ارتفع صوتهم بالتهليل له فبدأ يأنس بهم من جديد وخال أن وجوده بيننا فيه تعطف منه على جُهلاء مثلنا لا يعرفون قدره ، الآن من حقنا أن نرحل ، لقد أدينا الواجب على الوجه الأكمل وجلسنا مسافة آية .. آية بمقام حزب ، تغنى بها الشيخ أيما غناء ولحن فيها أيما لحن ، نال استحسان الناس تارة ومقتهم تارة أخرى ، لكنه فى النهاية نال إعجاب بازوكا وهذا يكفى وإن أدى ذلك فيما بعد إلى كارثة جديدة وما حسبته قد لقيته بغتةً حين قبض بازوكا على يدى بقوة لا تقاوم وقال (قم التقط لى صورة مع الشيخ فإنى لا أطمئن للسيلفى ) ، أعطانى هاتفه وراح يُجلى الزحام عن وجهه حتى جاوز مقعد الشيخ فارتفع صوته مشيراً إلىَّ كى أتبعه فتبعته بخطى متباطئة كمن يُساق للإعدام ، فى المشهد الضوئى تصنَّع الشيخ ابتسامة وقارٍ واحترام حين احتضنه بازوكا الذى ابتسم هو الآخر فبدا فمه كمطفأة سجائر وافترت شفتاه عن أسنانٍ صُفر ، تعقبتنا نظرات الناس الحائرة بعبثٍ ساخرٍ كأننا أول من ظفر بصورة مع الشيخ فتملَّكنى شعورٌ عميق من الندم ووقفت لا أدرى كيف أتخلص من موقفى ذاك ؟ بيد أن بازوكا مضى ولم يلتفت كأن شيئاً لم يحدث ، هم أيضا تجاهلوه تماما ولم يلقوا له بالاً وانعقدت عيون الناس من حولى كمشنقةٍ، بدا لى حقاً أن العربدة التى كان عليها بازوكا أعفته تماماً من الخجل وجعلته مقبولاً عند الناس وإن تبوَّل فى حِجرهم ، أما أنا فلم يتجاوز مقامى فى أعينهم قدْر الأحمق عديم الواجب ، منزوع الكرامة ، تذكرت قول ديبويتز ( وجهك عنوان حياتك ) ، لكن ماذا قال وجهى لتلك الريبة وهل دلت ملامحى على التشرد حقاً ؟ ، جننت من تصرفهم! ، لم أقبل فكرة أن تظلمنى سيكولوجية الانطباع الأول وتنصف بازوكا فى أعينهم ، ضاق صدرى كثيراً حين عجزتُ أن أُفسر لهم أن ما حدث كان جُزءاً من التصرف وليس التصرف كله فمضيت أرطن بالشتيمة والسُباب حتى وافيت الطريق بعيداً ، كان الأخ بازوكا قد سبقنا جميعاً إلى الشقاء وانبطح تحت سيارته كأنما يخوض غِمار معركة لا نعرفها ، بدا غاضباً وما كان بوسعنا أن نستجوبه ، من بعدها صرت أبحث عن كذبة منطقية أعتذر بها كلما كان علىَّ أشارك الأوغاد سذاجتهم لا لشئ غير يقينى بأن من بينهم من سيقلب علىَّ الطاولة فى أى وقت .
Discussion about this post