وبالرغم من اعتماد اليابانيين العلمانية نمطا لحياتهم، وليس منهجا سياسيا فحسب، فإن التراث الشنتوي ما زال حاضرا في تفاصيل كثيرة، وقد يكون الابتعاد والاقتراب منه مؤشرا لمعايير النجاح في شتى المجالات، لا سيما مع تصدر الحزب الديمقراطي الليبرالي للمشهد السياسي منذ سنوات، وهو الذي يحرص على إيجاد توليفة للجمع بين الليبرالية الغربية وإحياء الهوية الشنتوية للبلاد.
وقد يفاجأ القارئ بالاطلاع على تداخل الديانات في اليابان، فالإحصاءات تشير إلى أن عدد معتنقي الشنتوية يبلغ 160 مليونا، وأن عدد من يعدون أنفسهم بوذيين 96 مليونا، مع أن إجمالي عدد السكان هو 125 مليون نسمة. وسبب وجود زيادة في عدد المعتنقين لهاتين الديانتين عن إجمالي عدد السكان، هو اشتراك الشنتوية والبوذية لدى كثير من اليابانيين، بل لا يرى بعضهم أي مشكلة في دمج معتقداته بالمسيحية كذلك.
ومن الشائع في اليابان الاحتفال بالأعياد الشنتوية والبوذية والمسيحية معا، وقد تقام حفلات الزفاف في أحد المعابد أو الكنائس، كما يفضل كثيرون إقامة طقوس الدفن على الطريقة البوذية.
وفي القرن الميلادي الخامس، ومع تشكل الدولة واكتمال نضجها، وضع الكهنة طقوسا معقدة وطويلة لكل مراحل حياة الإنسان، من الولادة إلى البلوغ ثم الزواج والوفاة. وفي هذه الفترة نفسها بدأ دخول البوذية عن طريق الاتصال بالحضارة الكورية، واندمجت بالشنتوية في سلسلة من حلقات التأثير بين الطرفين.
تعود أولى مراحل التدوين في اليابان إلى القرن السابع الميلادي، أي بعد دخول البوذية وتشكل الكثير من مظاهر الحضارة والدين، مما يعني صعوبة تخمين ما حدث في البدايات السابقة قبل ذلك. وتعد سجلات “كوجيكي” أقدم الكتابات اليابانية، وهي سابقة بقليل على مدونات “نيهون شوكي”، التي نتعرف منها على أسطورة نشأة بلاد اليابان، وعلى نسب العائلة الإمبراطورية. وكان هدف تدوين هذه الكتابات المبكرة وغيرها هو تسجيل أسبقية معتقدات الشنتوية ومدى توافقها مع البوذية الدخيلة.
حسب الأسطورة الشنتوية، كان الكون في حالة غامضة من عدم التشكل والسكون، ثم تشكلت الجزيئات الأولية تلقائيا، فتربع الضوء على قمة الكون، وتكثفت من تحته جزيئات المادة المظلمة. وبطريقة غير مفهومة، بدأ ظهور الأشكال الأولى من الآلهة، ولم يكن لها جنس محدد، وكانت تختبئ عند ولادتها، إلى أن ظهرت 5 أزواج من الآلهة، كل منها مكون من إله ذكر وإلهة أنثى.
وكان الإله “إيزاناغي” والإلهة “إيزانامي” هما آخر الأزواج، وقد أوكلت لهما مهمة إنجاب العالم وخلق أرخبيل اليابان، فوقفا على جسر السماء العائم، وقذفا في المحيط رمحا مرصعا بالجواهر، ثم رفعاه إلى السماء فتقاطرت منه قطرات أصبحت جزر اليابان “المقدسة”.
ومن خلال تزاوجهما الطبيعي، نتجت سلاسة الجنس الياباني، أما إلهة الشمس “أماتيراسو أومي كامي” فانبثقت من العين اليسرى للإله “إيزاناغي”، والتي نتجت عنها السلالة المقدسة لأباطرة اليابان.
تعتقد الأسطورة أيضا بوجود الأصل الباطني للوجود، “كامي”. وهو مفهوم غامض تصعب ترجمته للغات الأخرى، ويشمل كل ما يتعلق بعالم الأرواح غير المادي. يرفض كهنة الشنتوية تعريفه بالإله أو الآلهة، فهو في اعتقادهم أكثر شمولا، إذ يطلق على كل تشكلات الآلهة وعلى أرواح القادة العظماء -وعلى رأسهم الأباطرة- كما يتمثل في كل قوى الطبيعة من جمادات وأشجار وحيوانات، ولا يمكن فهمه إلا من خلال معتقدات الحُلولية الغنوصية التي تضفي معنى روحيا على الكثير من مظاهر الوجود.
ولعل تراجع العديد من الأباطرة عن التمسك الفعلي بمقاليد الحكم لعب دورا في احتفاظهم بقداستهم، فمنذ أواخر القرن الثاني عشر الميلادي كان الشوغون (الحاكم العسكري لليابان) هو صاحب السلطة العليا، بحماية محاربي الساموراي، وظل هذا العرف سائدا حتى نهاية فترة إيدو عام 1868، أي مع بدء التاريخ الحديث للبلاد الموافق لبداية فترة مييجي، وهي التي شهدت ما سمي بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والإدارية المقتبسة من أوروبا، وما تبع ذلك أيضا من اقتباس لأسباب النهضة العلمية والصناعية.
ولعل التعايش مع هذا التناقض هو الحل الوحيد الذي انتهى إليه اليابانيون، فاعتناقهم الشنتوية أو البوذية لا يتجاوز القيام ببعض الطقوس الاختيارية، طلبا للبركة والهدوء النفسي، ولسد بعض الفراغ الروحي الناشئ عن نمط الحياة المادي، أما الأسئلة الوجودية فيحاولون التهرب منها بالمزيد من العمل والإنجاز المهني.
لا تقدم الشنتوية حلا ناجعا للقلق من الموت، فهي لا تتحدث عن البعث والخلاص، لذا يفضّل اليابانيون اعتماد الطقوس البوذية في جنائزهم، مع أنهم لا يجدون في النسخة المعدلة منها -وهي “بوذية الزِّن”- ما يشبع نهم الإنسان في البحث عن الخلود، إذ لا تتجاوز وعودها تحرر الروح من أسر التناسخ للاندماج بالروح الكلية للكون.
وبما أن الشنتوية لم تعد تحقق الكثير من الإنجازات، سواء على صعيد تقديم الأجوبة الفردية، أو ضبط العقد الاجتماعي، فمن المفهوم خلوّ معابد اليابان -التي يناهز عددها 80 ألفا- من المصلّين، واقتصار أدوار كهنتها على تقديم البركة وأداء المراسم التقليدية واستقبال السياح.
على طريق النور نسير،،،،
وعلى المحبة نلتقي،،،،
Discussion about this post