بقلم د. عبد العزيز يوسف آغا.
في البداية يجب علينا تحديد أنواع المروءة:
إذا علمنا أن المروءة هي استعمال كل خلق حسن، واجتناب كل خلق قبيح؛ فإن لكل عضو من الأعضاء مروءة على ما يليق به: فمروءة اللسان: حلاوته وطيبه ولينه. ·
ومروءة الخلق: سعته وبسطه للحبيب والبغيض. ومروءة المال: بذله في المواقع المحمودة شرعًا وعقلاً وعرفًا.
وهكذا دواليك لباقي الأعضاء….
ولكي نعطي مثالاً عن المروءة لايمكن أن نغفل ذلك الموقف الرجولي الذي واجهته هند بنت أبي أمية، أم سلمة، رضي الله عنها حين كانت في طريقها للهجرة، بعد أن أنهكتها قريش نفسيا، فحرمتها من زوجها، ثم من ولدها، وأبقاها الكفار سنة كاملة في عناء وكبـد، لا يعلم مداه إلا رب الأرض والسماء سبحانه، ثم انتوت أن تهـاجر، وجهزت نفسها للخروج، بعد أن مر بها رجل نبيل من بني عمها – من الكفرة – فلما رأي حرقة قلبها، وسخونة دمعهـا، خرج على قومه غضبـان يستجيشهم ويستنخيهم (يثير فيهم النخوة): أو لستم رجالا؟ هل عدمتم المروءة والشهامة؟ أليس فيكم رجل رشيد؟ هذه المسكينة هند : باعدتم بينها وبين عبدالله بن عبد الأسد زوجها، ثم قطعتم قلبـها حين سلبتموها ابنها، ثم هـأنتم تمنعونها الخروج إلى زوجها…
وطابت نفوس القوم أن يعطوهـا (عفوا عاما) فيأذنوا لها بالهجرة، فعجلت ورحلت مع بعيرها، ووضعت ابنها في حجرها، ثم همزت جنب الجمل برجلهـا – كأنها كانت تخشى أن يغيروا رأيهم في لحظة شيطانية – فولى الجمل وجهه شطر المدينة، وسط صحراء قاسية، وحرارة لاهبـة، وطريق أطـول من الليل على الوحيد، ولم يكن يرافقها في سفرها إلا الله رب العالمين.
وخارج حدود الحرم عند (التنعيم) يصادفها (رجل ) من مشركي قريش ملك رجولة نادرة، تقصر عن دركها الدعاوي والتشدقات، هو عثمـان بن طلحة، الذي كان حاجب الكعبة في الجاهلية، فيراها على جملها وحيدة، خفيفة الزاد، غزيرة الدمعة، بادية اللهفة، وحين سألها: إلى أين يا بنت زاد الراكب – وكان أبوها من أجواد العرب المعدودين – قالت له: أريد زوجي بالمدينة.
– أو ما معك أحد يا هند؟
– قالت: لا والله، إلا الله ثم ابني هذا.
– فقال: والله مالك من مترك.. ولست عثمان بن طلحة إن لم أبلغك مأمنك عزيزة حرة كريمة، فلا المروءة، ولا همة الرجال ترضى أن تترك امرأة مثلك وحيدة في هذه الصحراء العريضة.
وأخذ عثمان بخطام البعير فانطلق به دون تردد، ولا تفكير، ولا موازنات..
تقول أمي أم سلمة عليها الرحمة والرضوان:
(والله ما صحبت رجلا من العرب كان أكرم منه ولا أشرف:كان إذا بلغ منزلا من المنازل أناخ بي البعير، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فأعده ورحله، ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاده، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي المدينة).
الغريب – بمقاييسنا – أن الرجل لم يفكر أن (يسجل) مأثرته، ولم يستدع الإذاعة والتلفزيون، وقناة الجزيرة، والسي إن إن، ولم يرسل رسلا إلى مضـارب القبائل العربية يخبرها – “في تواضع” – أن من مآثره حفظه الله كذا وكذا ؛ بل انصرف عائدا مباشرة دون أن يراه أحد، ليواصل مسيرة طولها 900 كم – ذهابا وعودة – دون أن ينتظر من أحد جزاء ولا شكورا..
فحين وصـل إلى المدينة نظر إلى قرية عمرو بن عوف عند قباء، حيث كان أبو سلمة يقيم، وقال للمرأة : إن زوجك في هذه القرية، فادخليهـا على بركة الله، ثم وضع الخطام على عنق البعـير، وضرب كفله، لينطلق البعير إلى المدينة، ولينطلق هو عائدا إلى مكة على طول السفر ووعثاء الطريق.
قارن هذا الكلام قارئي الكريم – الذي كان يفعله أهل الجاهلية مع الذين يعتبرون النذالة (تمشية حال) واضطهـاد الضعفاء قوة وجسارة، وقارنه بحال (الرجال البواسل) أصحـاب المروءة الكريهة الذين يذبحون النساء والأطفال في كل مكان، ويروعون الأبرياء هنا وهناك.. قارنه بالحصار (الشرعي الدولي) ضد بعض البلدان مثل سورية والعراق وفلسطين حتى يموت الأطفال جوعا وجفافا، وافتقادا لجرعة (أنتي بيوتك).. وتأمل تكرار حادثة شعب أبي طالب ضد ليبيا والعراق والسودان ونيجيريا – لكن دون مروءات أهل الجاهلية الأولى – قارنه بأخلاق تجار الأغذية الفاسدة، والأدوية الفاسدة، والأخلاق الفاسدة، رغم استظلالنا (بحمد الله على كل حال) بمظلة الشرعـية الدولية، والأمم المنتفخة، والنظـام العالمي الجديد، وما يسمى بمواثيق وحقوق الإنسان؟!
لقد كان أصحاب المروءة في الجاهلية أشد إخلاصاً من جميع مواثيق منظمات حقوق الإنسان .
على طريق النور نسير ،،،،
وعلى المحبة نلتقي،،،،
Discussion about this post