بقلم د. عبد العزيز يوسف آغا.
وُلد غيلان في عائلة قبطية، ارتحلت إلى دمشق، وقد دخل أبوه في الإسلام أيّام عثمان بن عفان، ونشأ الفتى في مشهد من التحولات الصاخبة؛ إذ إن اختيار دين دون دين ليس حدثًا عاديًا، بل قرار مصيري صارخ يحتاج إلى شجاعة ورؤية ووضوح.
نشأ غيلان موهوبًا ذكيًا، وارتحل في طلب العلم، وظهر نبوغه طفلًا، وسافر إلى البصرة، وأخذ عن الحسن البصري، واعترض بشدة على تبرير مظالم الحجاج، بأنها أقدار الله وقضاؤه، وأنها ذنوبنا، وكان غيلان يرفض ذلك كله، ويرى أنها مظالم ومآثم، لا يبررها قدر الله بل تعالجها ثورة تحطم عروش الطغاة.
ثم تحوّل إلى المدينة، وأخذ العلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية، ولا شك في أن الرجل ترك في نفسه أثرًا من الاعتقاد بمظلومية أهل البيت، واعتراضًا على سلوك بني أمية، وبالفعل بات غيلان معروفًا بموقفه المنكر للقدر، وخاصة في الاستخدام السياسي لعقيدة القدر، فقد كان بنو أمية يكرّسون حكمهم بثقافة القدر التي يتولى الواعظون نشرها في الشعب، بأن “ما أصابكم هو قدر الله”، وأن حكامهم هم أمرُ الله وقدره، وأن “عليكم أن تسمعوا وتطيعوا ولو أكلوا أموالكم وضربوا أبشاركم، أعطوهم حقهم وسلوا الله حقكم، ولا يكون من ملكٍ ولا سلطان إلا هو قدر الله وقضاؤه، ويا عبادي لا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على أمرائكم، فإن قلوبهم بيدي، أصلحوا ما بيني وبينكم أصلح لكم حكامكم”.. وهذه هي معالم الخطاب السياسي الذي استخدمه الحجاج في قمع العراق: “أنا قدرُ الله وحكمه وأمره، وقد ابتلاكم الله بي بذنوبكم، وإن أهل العراق قد بغوا وطغوا وأكثروا فيها الفساد، فصبّ عليهم ربك سوط عذاب، وأنا عذابه وانتقامه”!
في الشام، تحدث الرجل بوضوح عن الحرية الفكرية وحرية الاختيار، ويمكن عدّه أبرز مؤسسي القدرية في الإسلام، ومن العجيب أن مصطلح “القدرية” مستخدم في التاريخ الإسلامي، لمن ينكرون القدر، لا لمن يؤمنون به، فيما كان المؤمنون بالقدر يسمون “الجبرية”، أو يكتفى باسم الجماعة.
ويمكنك حين تقرأ تراث غيلان الدمشقي أن تنسب إليه ما تشاء من فكر نيتشه وأوجست كومت وجان بول سارتر ومحمد إقبال في الحرية؛ فالرجل لم يكن يقلّ عنهم عبادة للحرية، وبغضًا للجبر وت والقهر، وكان يستوي عنده قهر الحاكم وقهر الدين، وكان عدوًا بالمطلق لكل فكر تبريري يقتل روح الإرادة في الإنسان. وهكذا تم تصنيفه معارضًا عنيدًا لبني أمية، ولامس السيفُ عنقه مرات، وظهر له أعداء واضحون من المشاهير، أبرزهم ربيعة الرأي والأوزاعي.
ومع قدوم عمر بن عبد العزيز إلى الخلافة، أرسل غيلان رسالة قوية وشهيرة ومباشرة إلى عمر بن عبد العزيز، ومن حقها أن تعدّ من وثائق الحرية النادرة في التاريخ، وفيها كتب له:
“أبصرتَ يا عمر وما كدت، ونظرت وما كدت، اعلم يا عمر أنك أدركت من الإسلام خلقًا باليًا، ورسمًا عافيًا؛ فلا تكن ميتًا بين الأموات! لا ترى أثرًا فتتبع، ولا تسمع صوتًا فتنتفع. وربما نجت الأمة بالإمام، وربما هلكت بالإمام، فانظر أيّ الإمامين أنت، فإنه تعالى يقول: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}، فهذا إمام هدى ومن اتبعه شركه هداه، وأما الآخر فقال فيه تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون}”.
وانطلق غيلان في حملة ماحقة لمواجهة الفساد، بأمر عمر بن عبد العزيز، وقام بمصادرة أموال خيالية لأمراء بني أمية، وكان يعرضها للبيع في مزاد علني، ويقول: “هلمّوا إلى متاع الظلمة، هلمّوا إلى أموالهم وتراثهم، يزعمون أنهم أئمة هدى ويكنزون المال، والناس تموت من الجوع”!
بالطبع، أغضب ذلك أمراءَ بني أمية أشد الغضب، وأقسم هشام بن عبد الملك لئن ظفر به ليضربن عنقه، وهكذا كان، وبعد موت عمر بن عبد العزيز، ولي يزيد بن عبد الملك، ووجد غيلان فرصة لمغادرة دمشق وهاجر إلى أرمينيا، أما هشام الذي ولي بعد يزيد بسنوات قليلة، فقد أرسل على الفور إلى ولاته في أرمينيا، واستطاع أن يأسر هذا المهاجر الهارب بطريقة “هرموشية”، وجيء به إلى دمشق، وأُعدّت له محكمة صورية، عبر مشايخ السلطان، وتكاد الروايات تجمع على أن هشامًا قطع يد غيلان بالسيف، ثم قطع رجله وألقاه في بعض سكك دمشق، وفي اليوم التالي، أرسل له من يشمت به: “أرأيت كيف كتب الله عليك قدره، فهل ما زلت تنكر قدره؟!”؛ فصرخ غيلان: “ويلك.. وهل أتهم ربي؟ إنما أتهم هشامًا وأعوانه من الظلمة، عليهم لعنة الله”، ولم يتأخر هشام بأن أمر بصلبه وقتله من يومه.
هكذا قضى غيلان في معبد الحرية، وقد رحلت أيامه وبقي إلهامه، ومن المؤسف أن سلفنا الصالح لم يبخلوا على غيلان وأصحابه بألقاب الزندقة والانحراف والضلال العقائدي، وقاموا عن عمد بتغييب هذه المبادرات الشجاعة التي كانت دعوة للحرية والكرامة، ومحاربة للفساد، واستبدلوا بها نماذج الخنوع للمتغلب ووجوب طاعته والسير في هواه، وتبرير جرائمه بتعلل الأقدار.
على طريق النور نسير،،،،
وعلى المحبة نلتقي،،،،
Discussion about this post