د. عبد العزيز يوسف آغا.
فكرة الله Dieu داخل الميتافيزيقا الديكارتية ككائن كامل هو الضامن للحقيقة. ومن هذا المنطلق، سيشرع ديكارت في الاستدلال على وجود الله انطلاقاً من استناده على العقل، ولهذا لن يأخذ ديكارت بالبراهين التي استند عليها الفكر الأرسطي والسكولائي، والتي تنطلق من العلة إلى المعلول؛ وذلك لسبب رئيس هو كون مثل هذه الأدلة تستوجب وجودًا في عالم، وهذا أمر لا يزال محط شك عند ديكارت. من هنا سيستند ديكارت على العقل فقط للبرهنة على وجود الله مؤسسًا بذلك لثلاثة براهين على وجود الله Dieu:
الدليل الأول: هو دليل مستمد من قاعدة الشك نفسها؛ فالشك Doute الذي ينطلق منه ديكارت لبلوغ اليقين، سيكون في الوقت نفسه إثباتاً على كونه كائنًا غير تام الكمال Imparfaite، لأن المعرفة أكمل من الشك الذي هو دليل واضح على النقص، وهذا ما استدعى بالضرورة تفكيره في كائن كامل أبدي éternel لامتناهٍ Infini وثابت Immuable، ”
أرى أنّ فكرة اللامتناهي سابقة لديّ على فكرة المتناهي؛ أي أنّ الله سابق لذاتي، فأنا أعرف أني أشك، أرغب، أعني أنّ شيئاً ينقصني أي لست كاملاً كلّ الكمال” وهكذا وجد ديكارت بين أفكاره الفطرية فكرة الكائن الكامل اللامتناهي كفكرة واضحة claire ومتميزة Distinction. ” هذه الفكرة عينها هي فكرة- الله- واضحة جداً، ومتميزة جداً، تتضمن في ذاتها الوجود الواقعي أكثر من أية فكرة أخرى”ولهذا، يستحيل أن تكون فكرة الكمال متضمنة في الوجود المتناهي. كما لا يمكن أن تتحقق فكرة الكمال اللامتناهي Infini انطلاقاً من تراكم الأشياء المتناهية Fini لكون المتناهيات لا يمكن أن تؤدي إلى اللامتناهي؛ أي أنّ فكرة موجود كامل بالفعل تفوق كلّ اكتساب للكمال بالتدريج. كما أنّ العلة بالقوة ليست علة، لأن الوجود الذهني لفكرة من الأفكار لا يخرج عن كائن هو موجود بالقوة فقط، إذ ليس لهذا أي معنى في الواقع، بل يخرج عن كائن موجود بالفعل، “لست أرى لم لا تغدو قوتي على اكتساب هذه الكمالات، إذا كانت موجودة لديّ… لكن عندما أدقق النظر في الأمر أتأكد أنّ ذلك غير ممكن، لأنّ جميع هذه الكمالات لا تمتّ لي بصلة، ولا تقترب إطلاقاً من فكرتي عن الألوهية التي تشتمل على كل شيء بالقوة والفعل معاً”. وبهذا تكون فكرة الله Dieu نموذجًا لفكرة الكمال اللامتناهي وعلتها.
الدليل الثاني: وهو دليل مستمد من الدليل الأول على اعتبار فكرة الكمال، فلو كان ديكارت علة نفسه؛ أي مُوجد نفسه، لمنح نفسه جميع الكمالات، لكنه كائن ناقص لا يمكنه أن يكون خالق نفسه، لذا لابد لوجوده من علة لكونه لا يمكن أن يكون علة لنفسه بمقتضى نقصه، “لو كنت خالق نفسي لما شككت في أمر، أو رغبت في أمر، ولا افتقرت إلى أيّ من الكمالات، ذلك لأنني سأمنح نفسي حينئذ كلّ كمال يخطر ببالي فأكون إلهاً”.
إذن، فالله باعتباره كائنًا كاملاً هو علة وجودي، وهو علة وجوده أيضاً؛ أي أنه سبب ذاته la cause de soi، فالله ليس فقط مقدمة منطقية، إنما له من العظمة والقدرة ليمنح لنفسه الوجود، أي أنه سبب لذاته وليس سببًا للأشياء فقط. كما أنّ الله هو مانح الوجود وحافظ الوجود، أي أنّ له قدرة على الخلق وحفظ الخلق، لهذا فمن البدهي ـ حسب ديكارت ـ أن نتبين إذا أمعنا النظر في طبيعة الزمان أنّ حفظ جوهر من الجواهر عبر لحظات وجوده هو على غرار الخلق من خصائص الكائن الكامل، وبالتالي ككائن غير كامل لا أمتلك القدرة على حفظ وجودي في الزمن، فأنا لست بقادر أيضاً على خلق نفسي؛ أي أنني لا يمكن أن أكون علة لوجودي. بهذا يؤكد ديكارت أنّ الله هو علة الوجود بوصفه كاملاً.
الدليل الثالث: هو دليل مستوحى من الهندسة، ويُعدّ من أقوى هذه البراهين وأدقها، ففيه حاول ديكارت أن ينتقل من الفكر إلى الوجود؛ أي أنه استخلص وجود الله من فكرة الله Idée de Dieu ذاتها على نحو ما نستخلص صفات المثلث من فكرة المثلث، فحينما يتصور فكرة الله فهو يتصور ماهية ثابتة لم يخترعها وليست مرتبطة بفكره كما ليس بمقدوره أن يغير فيها شيئاً، على غرار ما يتصور ماهية المثلث، كماهية ثابتة لم يخترعها وليست متعلقة بفكره، كما لا يمكنه أن يزيد عليها أو ينقص منها شيئاً. بهذا المعنى تكون فكرة الكامل تتضمن الوجود بالضرورة على اعتبار أنّ الوجود كمال، وبالتالي لو كان الكامل غير موجود لكان ناقصاً مفتقراً لموجود، وهذا أمر مناقض “أرى بوضوح أنّ وجود الله لا ينفصل عن جوهره، كما لا ينفصل جوهر المثلث المتساوي الأضلاع عن زواياه الثلاث المساوية لزاويتين قائمتين، وكما لا تنفصل فكرة الوادي عن فكرة الجبل”؛ أي أنّ وجود الله متضمن في فكرة الله ككائن كامل لامتناهٍ، فالكمال يستدعي بالضرورة الوجود، لهذا فكرة الله تتضمن الوجود كمحمول ذاتي، ولا يمكن أن نفصل فيها الوجود عن الماهية.
يتبين إذن، أنّ ديكارت بإثباته لوجود الله أسّس لكل يقين عقلي؛ أي أنّ فكرة الله كانت بالنسبة إليه بمثابة الضامن لصدقية وصحة أفكاره، لأنّ حقيقة باقي الأفكار مرتبطة أساساً بحقيقة هذه الفكرة، لذلك فمادام الله هو مصدر أفكارنا، وهو كامل مطلق، وهذا ما يجعل صفة الخداع تسقط عنه، فأفكارنا التي صدرت عنه هي منزّهة عن كلّ خداع، وبالتالي أمكن الآن الاطمئنان للعقل وتصديق أحكامه في كل ما يبدو أمامه واضحًا ومتميزًا. هكذا إذن كان الله ضمان اليقين، وبدونه لا يستقيم استدلال أو يقين عقلي.
على طريق النور نسير،،،،
وعلى المحبة نلتقي،،،،
Discussion about this post