همس الخيزران، ومنذ العتبة الأولى نلمس توافقا بين العنوان وصورة الغلاف، وجه امرأة مقابلا لغصن الخيزران، والمرأة نصف الكون وأحد أهمّ مكوّناته، وأكثر من ذلك، أرادت الشّاعرة أن تضفي عليها نوعا من القداسة، فتجعلها امرأة رمزا، فوق الصّورة المستهلكة للمرأة، امرأة في حالة مناجاة، بما في الصّورة من عمق ومعنى وأبعاد. والخيزران كما اختارت الشّاعرة أن يكون ملهمها لما له من رمزيّة العلوّ والرّفعة والشّموخ .
يوحي لنا العنوان بالتفرّد والاختلاف، نستشعر أنّنا سنلج عالما يستنطق ما لا يَنطِق، ويخرج بنا عن المألوف والأعراف، كأنّنا نعبر إلى ضفّة أخرى، لها مواصفات مختلفة، ضفّة يمكنك أن تسمع فيها همس الخيزران.. وهل يهمس الخيزران؟ ولمَ تختار الشّاعرة سميرة سلطاني الخيزران تحديدا شريكا لمحاكاتها ونجواها؟ ومكوّنا لعنوان كتابها . لمَ فضّلت أن يكون الكلام همسا؟ الهمس حديث الرّوح لما له من صفات الهدوء والتّأثير والسّحر.. الهمس لا يزعج ولا يستخدم كلاما عاديّا، كأنّه لغة التّعبّد في محاريب الذّات، وصدى الدّعاء في أقبية الرّوح.. همس الخيزران.. كيف يهمس الخيزران؟ وكيف ينزل من عليائه هو الشّامخ الأبيّ ، فيحدّث الإنسان مجسّدا في الشّاعرة؟ فتنقل حديثه، بوح الرّوح للرّوح..
في أبعاد أخرى من العالم، وفي مستوى رفيع من الفكر يحدث ذلك، وفي لحظات التّجلّي تنسلخ الرّوح وترتفع، وتكتسب الأشياء قدرات خارقة، فيصبح المستحيل ممكنا، والخارق طبيعيّا متاحا، وتنسجم الأضداد وتتآلف.
تبدأ الشّاعرة سميرة سلطاني كتابها بقصيدة همس الخيزران فتخاطب غصن الخيزران قائلة :” يا غصن الخيزران الأخضر وروح الصّفاء، يناجي غيمة تمطر” .. الغيمة رمز الخصب والعطاء، رمز الماء ، وفي قوله جلّ وعلا ” وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ” . والبداية مناجاة أرواح، عوالم غير عالمنا وكأنّنا بالشّاعرة سليلة كائنات فوق ـ بشريّة، ونزيلة كوكب غير كوكبنا، اخترعته لنفسها وبخيالها الخصب. الخيال عالم بلا حدود، وبلا قيود، عالم يتفرّد باكتمال وعي الإنسان، بتبرّمه من واقعه وتوقه إلى ما هو أرقى وأنقى، وأكثر اتّساعا لأفكاره ومشاعره ومشاريعه الإنسانيّة المقدّسة.
الحديث إذن ليس مجرّد كلام عاديّ، بل هو فوق مستوى ذلك بكثير، الحديث مناجاة بين غصن الخيزران الأخضر وغيمة تمطر، لعلّها الشاعرة وهي تضع نفسها في مقام رفيع، ليكون الحديث أشبه بالصّلوات في محاريب الكلمة، كيف لا وهي ابنة الفينيق رمز الجمال والإعجاز والتّحدي!!
تنهل شاعرتنا من عالم الأساطير الذي لا يحتكم إلى منطق الحدود والحواجز، عالم مفلت من قبضة العجز والمستحيل، منفتح على الممكن أيّا كانت العراقيل، أين يمكن للأشياء أن تنتهي لتبدأ من جديد، من تحت الرّكام تماما كما طائر الفينيق. وتحدث المعجزة كما في الأساطير، ينتفض الفينيق عندما يهمس الخيزران. تستخدم الشّاعرة في قصيدتها معجما صوفيّا فتذكر (روح الصفاء، يناجي، هلّل النصر وكبّر ، النّور، ضوء القمر : عالم فوقي له علاقة بالغيب، أنفصل عن كياني، همس في وجداني، سريرة) وذلك ما جعل الحديث يرتاد القمّة والرّفعة، وكأنّ لذلك الحديث قداسته وطقوسه وأجواؤه.. تقول ” موسم البوح قد حان” .
تشكو الشّاعرة في قصيدتها ثقل الثّواني وتبرّمها من الزّمن، وكيف تمرّ الثّواني على كاهلها بلا روح.. يغطّيها الغمام وتلك الأجواء تذكّرنا بعالم كئيب “يتعثّر فيه النّور”، والقول للشّاعرة، لكنّها تفكّ قيودها وتجتاز انكسارها، تماما كما تلهمها أسطورة طائر الفينيق، فتنفصل عن كيانها فيأخذ الكلام منحى فلسفيّا يطرح ثنائية الجسد والرّوح، وكيف يعيق الجسد الروح ويشدّها إلى الحضيض، لكن الشّاعرة تجتاز جسدها، وتنفصل عنه، وتحلّق في عوالم مقدّسة، لها مواصفاتها الخاصّة، تقول ” لقد بتّ أفقه لغة الشّجر، وهمس الأصيل”.
تخلص الشّاعرة إلى حقيقة معيّنة ولافتة وتعترف ” أنا ابنة الخيزران” وتكتسب ماله من صفات تماما كما ترث الابنة أباها ، تكتسب شموخه وعزّته ومجده تقول “شامخة بالعزّة والفخر والمجد” . وذلك يعزّز ثقتها بنفسها ويتعمّق الإحساس بذاتها، برفعتها، وتتحدّى عالما تنكره، وتشعر فيه بهوّة سحيقة تفصلها عنه، وتتعمّق غربتها والهوّة السحيقة بينها وبين عالم الشّقاء ، لكنّها سليلة الخيزران لا تنحني وقد حاول العالم تركيعها، تقول : “لا أنحني لعالم أشقاني.”
تنتقل الشّاعرة سميرة سلطاني بالخطاب إلى ما هو أوسع وأكبر وأشمل، وربّما يتّسع لآفاقها ويستجيب لتوقها الفريد، وتوهّج روحها فترجوها وتتوسّلها أن تمهلها وهي تتهيّأ للرّحيل، تقول:” يا عيون الكون تمهّلي، حتّى ألبس لحافي ” . وتعلن الشّاعرة عن بلوغها لحظة فارقة، ترفعها من الحضيض إلى القمة، من الثّرى إلى الثّريّا، كأنّما الحرف أسرى بها أو هو الهمس الذي سرى في وجدانها فغيّر لحن قصيدتها، فغيّرت بدورها مسيرتها، وعشقها للشّجر، بما فيه من تحدٍّ وثبات وشموخ، وخضرة رمز الحياة والخصب، وفي قمّة الانتشاء بالبوح تستشعر الأمان في بحر من الحرّية حيث تدوّن سحر ألحانها، فلاشكّ أنّه بحر الكتابة ذلك الذي تظلّ فيه الشّاعرة تائقة إلى الانعتاق من كلّ القيود التي تشدّها ، فاختارت الخيزران الشّامخ لتحاكيه ويحاكيها.
نغلق باب القصيدة المفتاح ” همس الخيزران ” لندخل باحة الكتاب الذي أرادته الشّاعرة سميرة سلطاني أن يكون شاملا فتألّمت لصوت الغريق وهو يطلب الغوث ، ويشكو هول الغرق يوثّق اللّحظة وهو مازال يشتهي البقاء، يشكو الظّمأ، يبحث عن نبع بين الرمال، لكنّه يسقي التّربة الجوفاء، ويالروعة الصّورة! كيف يسقي الغريق الظّمآن التّربة الظمأى؟ يالروعة العطاء! من الغرق تُحدِث الشّاعرة نقلة نوعيّة من أجواء الغرق إلى أجواء الشّدو والغناء، ومنها إلى قصيدة عشق السّكون والهروب من العالم بخيباته، بصروفه ونوائبه.
يستمرّ الهروب من عالم الضّجيج والفوضى في قصيدة ” وسط الزّحام” فتجري الشّاعرة مثل الرّياح تبحث عن الأنس فتصطدم بكائنات غريبة، ولغة غير لغتها، ومعاني منتزعة الرّوح فتخرج من تلك الأزقّة المريبة، ومن جديد تختار عالما يعجّ بالصّمت، لتحيي على ركحه فنونها، وتتعمّق غربتها وهي تبحث لها عن مستقرّ باحثة عن الحقيقة التي كانت مؤلمة ” الآن عرفت كيف ينتحر الفكر وسط الزّحام”. ومن غربة الشّاعرة ينبثق الانتماء إلى وطن منشود، إلى فضاء أرحب، إلى الوطن اللامحدود، فلسطين .. تتحدّث الشّاعرة سميرة السّلطاني بمعجم مخصوص يختلط فيه الوطنيّ، بالإنسانيّ بالحربيّ بالوجع، بالنقمة، بالكرامة بالعزّة، بالأمل والأفق الرّحب.. والحديث عن غزّة تحديدا.. تقول وأمل ينبت فوق الأشلاء:” يا قصيدة تغنّت بها الأمم” وتتساءل ” من يرمّم ندوب الجراح، وينسف أيادي العابثين؟ وكأنّنا بالشّاعرة تتنقّل من مبحث إلى آخر تنبش الكون علّها تعثر على مستقرّ، فتعود إلى منبتها الأوّل ، إلى أرضها التي زجّت بها في هذه الحياة يحدوها الحنين، لكنّ المشهد أليم ، سعت شاعرتنا إلى اجتثاثه من معجم الموت إلى معجم الفرح، فحوّلت موكب الجنازة إلى مشهد فرح ” زفاف أمي”، وتضفي عليها كلّ ألوان النّقاء، والبراءة والصّفاء، وتتوّجها بتاج الوقار، ورضا الرّحمان، وتحوّلها ملكة، تحملها الملائكة إلى قصرها.
تشكو الشّاعرة ألم الفراق وما ألمّ به من غربة ووحشة وحزن، وتبثّ أمّها أوجاعها وما فعلته بها الحياة، ولعلّها أيضا كلّمتها بلغة الخيزران. ويستمرّ حديث الشّاعرة في نفس الموضوع الذي أضفت عليه هالة من القداسة، واستخدمت معجما قدسيّا، فتقول إنّها جنّة ، وتستمرّ في نفس المعجم اللّغويّ (أنوار، تضيء، خفت موازيني، زهرة من جنّتي، يسحرني، ملكوت الخيال، محاريب، أطوف، لحن الحياة، أجنحة تطيّرني، ملاكا تصيّرني…) لكنّها في هذه القصيدة تبدو حالمة محلّقة في عالمها المنشود، عالم الفراشات وسحر البيان ، أين تكون الكتابة هي اليد التي تمتدّ للشّاعرة لتنتشلها من العتمة. تقول ” لنظم أبيات حين أرمّم عباراتها ترمّمني.
في قصيدة ” ذوبان الرّوح، تعود الشّاعرة إلى رحلة البحث عن الذّات وما أجمل ما تقول إذ قالت : أتموّج في كوّة النّور أكتسح عتمة الوجود، أتخطّى حدود الكيان والزّمان … أبحث عنّي ” فالشّاعرة مسكونة بهاجس البحث عن ذاتها، تشعر بغربة رهيبة، تتعمّق وتتعملق وتتّسع .. فتكثّف الشّاعرة مفردات البحث (أقتفي أثري، علّني أجدني ) لكنّها تفشل في العثور عن ضالّتها، فتتحوّل كائنا غير مرئيّ( فلا أراني .. ولا تراني) وتلج عالمها المشفّر أين تتحوّل روحا ذائبة، ( ذبت في لجّة العشق الأبديّ، وما العشق الأبديّ ؟ إنّه عشق الذّات الإلهيّة ذلك العشق الذي لن يفكّ رموزه من لم يذق زلاله ويَذُبْ فيه وينصهر إلى أقصى حدود الانصهار، فالشّاعرة قد أبدعت أيّما إبداع في كتابتها ذات الطّابع الصّوفيّ، كيف لا وقد تلمس ذلك الانصهار والعشق الأبديّ وأنت تقرأ حروفها الأولى..
وأنت تقرأ كتابة سميرة السّلطاني تشعر أنّها أعارتك أجنحة من الضّوء لتلج عالم التّصوّف وتكتشف العشق الحقّ، عشق الذّات الإلهيّة دون عناء، فقد كانت لها قدرة عجيبة على اختراق ذلك العالم والحلول به، فحلّ بها حلول الحلّاج.. أيّ درجة من الرّفعة يمكنها أن تعادل درجة العشق الإلهي، وتضاهي مرتبة الارتفاع من الثّرى إلى الثّريّا؟
تواصل الشّاعرة سميرة سلطاني رحلتها تشقّ عباب اللّيل، على متن خيالها، يطوّقها صفاء الرّوح فتختفي والقول للشّاعرة، وتلوذ بعزلتها وتعتكف بعيدة عن عالم ليست منه وليس منها، تقول “تحت لواء الصّدق أنكمش، في خيمتي، أفكّر في زمن القفر” والصّورة فوق الرّوعة وأكثر!
لقد أنشأت الشّاعرة ركنها الخاصّ بها وهيّأت محاريبها ونأت بنفسها عن عالم أنكرته، ظلّت تتأمّل الطّبيعة وتتدبّر أسرار الكون وتتذوّق رحيق الهوى الذي لا يضاهيه هوى. نهلت شاعرتنا من موروث الكتابة الصّوفيّة التي أسّس لها سابقوها ووضعوا لبناتها الأولى واستثمرت فيها شاعرتنا خير استثمار، ووظّفت تجربتها أجمل توظيف لتكون كتابتها ذات بعد صوفيّ.
في قصيدة لغة الصّمت، هكذا وعلى منوال تلك القصائد نسجت الشّاعرة سميرة سلطاني لغة ذات مواصفات كونيّة تناجي بها الكائنات وتخترق الحدود، لتبحث لها عن مكان رفيع ينأى بها عن عالم البشر الوضيع ولغته المستهلكة فتتراوح الكتابة بين الموجود الذي ملّت نفسها فيه والمنشود الذي تاه منها وتاهت عنه، فسعت للاعتزال هروبا من عالم لوّثته الأيادي، ودنّسه البشر المحدود، وتبتكر لغة فوق مستوى كلام البشر، وكأنّها طفلة تاهت من أهلها فضلّت طريق العودة، وظلّت تبحث عمّا يعيدها للأصل، ولجذورها، وعالمها المفقود المنشود، فحبّها اللّامحدود للطّبيعة خاصّة في قصيدة “سحر السّكون” ليس حبّا عرضيّا عفويّا، بل هو حبّ ناجم عن تجربة تأمّل متفرّدة بعثت فيها الحياة الحقيقيّة، تقول :” عشقت شمس الأصيل ونورها الذي أحياني” والنّور أصل التّكوين لكائنات فوقـ بشريّة، هي الملائكة، وللأصيل في النّفوس المرهفة تأثير عميق، لا يشعر به كلّ من دبّ وهبّ، وشاعرتنا عاشقة للغروب وقد رأينا ذلك في مواقع مختلفة.. وتقول في القصيدة ذاتها:”لقد أنست بوح البراري .. وتركت عالما أفناني” ولم تجد حضنا لها غير انتمائها إلى عالم السّكون بما له من صلة بخالق مدبّر معجز، استحقّ أن يكون معشوقا وبما للشّاعرة من عمق البصيرة ورهافة الحسّ ، فاستحقّت مصافا سعت إليه بنقاء السّريرة أوّلا وإدراكها لمعنى العشق الحقيقيّ .
وهكذا كانت شاعرتنا سميرة السّلطاني وكانت كتاباتها تنهل من مرجعيّة خاصّة جدّا وتجربة صوفيّة نجحت في وضع حجر الأساس لها في هذا الكتاب المميّز، وتعود إلى الطّبيعة الأمّ وتخصّ الشّجر بمكانة خاصّة، فتتعلّم لغته وتتقنها، هي مناجاة بالأساس، فتستلهم قوّتها من همس الخيزران، وتستقي منه الشّموخ والرّفعة والعزّة .. ألم تقل إنّها ابنة الخيزران !
بقلم الكاتبة مفيدة بن علي
Discussion about this post