بقلم الكاتب المصري المقيم بالنمسا / بهجت العبيدي
تظل هناك دائما فروق تفرضها البيئات المختلفة على الإنسان الذي يحيى في إحداها، حيث أن لكل بيئة من البيئات خصائصها التي تصبغ بها الإنسان، والذي لا يستطيع فكاكا من تأثيرها، حيث أنه مجبر على اكتساب قيم البيئة التي يولد فيها، كما أنه مجبر على تلك التقاليد التي يفرضها مجتمعه عليه، إضافة لكونه مجبر على مسايرة عادات البيئة مهما ظهرت لغيره غير مقبولة وغير معقولة وغير مستساغة، هذا الذي لا يمكن أن يستوعبه إنسان هذه البيئة أو تلك، فهو تصدر عنه هذه العادات ويتمسك بتلك القيم، في الغالب، دون أن يخضعها للبحث والفحص والتمحيص بعقل مستقل غير متأثر بمحيطه وبيئته، لأن ذلك في حاجة إلى تجرد من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يتوقف عليه إنسان.
لأن الإنسان نتاج البيئة التي يعيش فيها، فيعتنق الديانة التي يعتنقها أبواه، ويحمل الصفات المكتسبة من خلال التربية التي يتلقاها على يد والديه بالإضافة لمؤسسات المجتمع الذي يربى بين أبنائه، ويتحصل على الثقافة التي تغرسها فيه المدرسة وتبثها فيه وسائل الإعلام المختلفة، ويُعْلي مجموعة القيم التي يعتنقها المجتمع الذي يعيش فيه، ويدافع عن المبادئ التي يتم غرسها من خلال تلك المنظومة المتكاملة.
والبيئات الإنسانية عديدة ومتنوعة، وبتعدد تلك البيئات تتعدد مجموعات القيم والمبادئ فضلا عن السلوك عند الإنسان، فنجد مجموعة القيم الغربية تختلف عن مجموعة القيم الآسيوية، متباينة عن تلك القيم العربية، مفارقة لمجموعة القيم في أمريكا اللاتينية، ذلك التباين الذي يعلوه القيمُ الإنسانيةُ المشتركة.
فالصدق فضيلة عند كل الشعوب، وعند كافة الجماعات الإنسانية، والكذب نقيصة، والشجاعة قيمة عظيمة في كل البيئات، والجبن مستهجن، ولن نجد جماعة إنسانية تعظم الخيانة، وتستقبح الأمانة، فهذه، وغيرها من القيم الإنسانية يشترك فيها بني البشر جميعا.
أما مجموعة القيم المتفاوتة في الجماعات البشرية؛ فهي تلك التي ترتبط بالعادات والتقاليد؛ فهناك من يتخذ اللون الأبيض رمزا للفرح، وغيره يرى فيه رمزا للحزن، وهناك من يأتي بطقوس في بعض المناسبات لا يقبل بها غيره، فمن يقومون بحرق جثمان المتوفى يرون فيه طقسا مناسبا لهذه المناسبة الجلل، وهو عادة قديمة تشير الآثار بأن أقدم طقوسها حدثت قرب بحيرة مونجو في أستراليا قبل ٢٠ ألف سنة، وحرق الموتى هو استخدام درجات الحرارة المرتفعة للحرق والتبخر والأكسدة وذلك لتقليل جثث الحيوانات الميتة، بما في ذلك جثث الإنسان، عن طريق استخدام المركبات الكيميائية القاعدية، مثل الغازات والشظايا المعدنية التي تحتفظ بمظهر، ذلك الفعل الذي هو مرفوض كل الرفض عند الكثير من الجماعات البشرية، التي تستخدم عملية الدفن ويكون تحلل الجثة في القبر مع الزمن هو البديل عن ذلك الحرق التي يستخدم في الهند وفي أماكن أخرى!.
وكثير من عادات الشعوب مرتبطة بالعقائد الدينية؛ والتي هي لا تخضع في الكثير منها إلى العقل، بقدر ما تخضع إلى القناعة القلبية، والإيمان الروحي، وهنا يظهر التباين أوضح ما يكون؛ حيث أنه يكون مرتبطا بالحلال والحرام! وإن الناس تأتي بالأفعال والطقوس نتيجة لأمر إلهي – في قناعة معتنقي هذه الأديان.
فما يأتي به أتباع ديانة ما يراه بعض أتباع ديانة أخرى نوعا من العبث، يتندرون عليه، معتبرين أتباع تلك الديانة في ضلال مبين، ليس ذلك فحسب؛ بل ربما أتباع نفس الديانة الواحدة؛ ينظر بعضهم لبعض تلك النظرة التي ترى في أفعالهم وتصرفاتهم وطقوسهم نوعا من الخروج على الملة، وشكلا من أشكال الفساد في الإيمان؛ هذا يتضح جليا في نظرة أهل السنة لما يأتي به الشيعة في بكائياتهم على سيدنا الإمام الحسين، كما ينظرون بكبير الاستهجان لأصحاب المذهب الصوفي في تلك الطقوس التي يأتون بها في احتفالاتهم.
إن رفض أتباع ديانة لما يصدر عن اتباع ديانة أخرى – وليس لأصحاب الديانة الأخرى – لهو أمر طبيعي، حيث أن ذلك الرفض مبني عن قناعات وإيمان لما في تعاليم تلك الديانة، ذلك الرفض أمر بديهي وطبيعي، ويمكن لأي إنسان أن يقبله وأن يتفهمه؛ لكن المشكلة في أن يتحول الرفض المبني عن الاقتناع بما هو في عقيدة الرافض إلى استهجان، ذلك الذي يمكن أن يتحول إلى مشكلة أكبر إذا تطور وأصبح لزاما على ذلك المستهجن أن يصوِّب ما يراه خطأ، ذلك التغيير الذي ينظر إلى هذا الاختلاف في إطار المنكر: الذي يجب أن يتم تغييره؛ باليد أو باللسان أو بالقلب الذي هو أضعف الإيمان، والذي لا يرضى البعض أن يكون له هذا الوصف، وتكون النتيجة – في محاولة مستميتة – فرض جماعة بشرية ما ترى أنه الصواب، بأسلوب يتجاوز الكلمة التي يجب أن تكون حسنى، فتستخدم القوة كما هو الشأن في فعل الجماعات الإرهابية، التي تريد فرض فهمها على الكرة الأرضية وعلى البشر جميعا؛ متجاوزين ذلك التباين؛ ضاربين بعرض الحائط بتنوع الطبيعة البشرية، واختلاف مشارب البشر التي هي من السنن الكونية.
إن القيم الإنسانية المشتركة تجعل على أصحاب الرأي والفكر في كافة الجماعات الإنسانية دورا هاما في نشر مفهوم قبول الآخر، والعمل على ترسيخ الأخوة بين جميع بني الإنسان، وتأكيد أن مفهوم التعالي من طبقة على طبقة، أو من أتباع ديانة على أخرى، أو جنس بشري على جنس آخر، أو قومية على غيرها من القوميات، لا يتَّبِعه إلا هؤلاء ضيقو الفكر والعقل، ومعدومو الثقافة.
Discussion about this post