مقال (مُجتَمَع مَريض فِكريًا)
بقلم مينا راضي
ما نحن إلا أتباعٌ و أنصارٌ لمُجتَمَعٍ يَرى أنَّ الطَبيبَ النَفسيَّ من المَحظوراتِ بل منَ المُحَرَّمات. لا أعرف سببَ ذلك الرَفض المُجتمَعي لزيارة الطَبيبِ النَفسي، ربما كان ذلك عائِدًا إلى الاعتِقادِ الجَماعي بأنهُ إقرارٌ بالضَعفِ و عدمِ القُدرةِ على إدارةِ النَفسِ أو السَيطَرةِ عليها، أو رُبَّما هو تَقليلٌ من أهَميةِ الصِحّةِ النَفسية. أيًّا كانَ الجَذرُ الذي تَتَفَرَّعُ منهُ تلك العُقولُ الرافِضة، فإنَّها تَصُبُّ في دَمارِ الأفرادِ و المُجتَمَعات.
إنَّ الجِراحَ الجسَدية يُمكِنُ رؤيَتُها و التَعَرُّفُ عليها بعمَليةٍ تَعاونيةٍ بين المَريضِ و الطَبيب، أما الجِراحُ النَفسيةُ فهي لا تُرى أبَدًا، ذلك أنها مَدفونةٌ في بئرٍ عميقٍ يُسَمّى العَقل اللاواعي. في ذلك القَبوِ المُظلِمِ نُخَزِّنُ كل تَجاربِ الماضي التي نَظُنُّ أنها آلَت إلى النِسيان، و لكن الحَقيقةَ هي أننا أرشَفناها، لتَخرُجَ لاحِقًا على هيئةِ ردّاتِ فعلٍ مُؤجَّلة و مَواقِفَ سَلبية. قد تَخرجُ على هيئةِ سُلوكياتٍ غير سَوية تتَضمَّن التَعنيفَ أو التَجريحَ أو التَنَمُّر بغرَض تَعويضِ النَقص و مَلئِ الفَراغ الذي تكَوَّنَ بسببِ تلك التَجارُبِ المُحَنَّطةِ في الذاكِرة. مما سيَبني حَواجِزَ بينَ أفرادِ الأسَرِ و يُفَكِّكُ المُجتمَع، و ستَتَناقَلُ الأجيالُ عَدوى الأمراضِ النَفسيةِ حتى نُصبِحَ مُجتَمعاتٍ مُختَلّةً نَفسيًا، لذلك فإنَّ من الضَروري زيارةَ الطَبيبِ النَفسي لإخراجِ تلك المَواقفِ و المَشاعرِ السَلبيةِ إلى السَطحِ و إطلاقِ سَراحِها ثم استِبدالِها بقَناعاتٍ إيجابية، لأن ما يضَعهُ المَرءُ داخلهُ سيَنعَكِسُ إلى العالَمِ الخارجي شاءَ المَرءُ أم أبى. و إنَّ الطَبيبَ النَفسي ما هو إلا مِرساةٌ تَسحَبُ الماضي المَوئودَ في أعماقِنا ليَتِمَّ تَحليلهُ، ما هو إلا شَخصٌ يَقومُ بطَرحِ الأسئلةَ ليُمَكِّنَ الإنسانَ من اكتِشافِ أعماقهِ و فَكِّ طلاسمِ نَفسه. لأن الأسئلةَ هي الشَرارةُ الأولى التي تقودُ إلى اشتِعالِ الحُلولِ في العَقلِ البشَري. إنَّ النَفسَ البشَريةَ عالَمٌ زاخِرٌ بالمَجهولات، و لا يَجبُ الاستِهانةُ بأي مَوقفٍ من الماضي قد خدَشَ كَرامةَ المَرءِ أو زَعزعَ ثقَتهُ بنفسهِ أو بهذا العالَم، لأن أي مَوقفٍ أو كَلِمةٍ قاسيةٍ ستُخَلِّفُ نُدوبًا في النَفس، نُدوبًا لا يُزيلُها سِوى تَعقيمِ الذات.
يَجِبُ علينا كأفرادٍ أن نُحارِبَ فِكرةَ كَونِ الاكتِئابِ مُجَرَّد “دَلَع” أو مُحاولة للَفتِ النَظَرِ و الحُصولِ على الاهتِمام، لأنَّ الاكتِئابَ و ما سِواهُ من التَكَتُّلاتِ و العُقَدِ النَفسيةِ هم قَتلى صامِتين. فلماذا لا نَلتَفِتُ إلى الأرواحِ السَقيمةِ كالتِفاتِنا للأجساد؟ لماذا لا نُقِرُّ أن نُفوسَنا تُنادينا و تَستَغيث؟ فلنَسمَعها…
Discussion about this post