الكاتب/ محمد نبراس العميسي
من عادة الصغيرة أرجوان الركض السريع نحوي كلّما رأتني أسير في أيُّ مكان من أروقة المستشفى وساحاته. أثناء زيارتي لها في الروضة رفقة أبيها ذات صباح من صباحات الدوام، نظرّت إلى أباها الواقف على الباب فقفزت تعانقه بحرارة وترتمي بين ذراعيه، أخذت وقتها الّذي قدرته ثانيتين بين ذراعي أباها، ثم قفزت تعانقي وهي تردد بحنيّة وحدب ودلال: عمووو.
تفعل الأمر ذاته كلّما رأتني مصادفة أذرع الفراغ الواصل من السكن العمومي إلى المطعم، تتصرف هكذا بخلاف الأطفال الّذين في عمرها، والّذين يملؤون باللعب والصخب الساحة الفارغة بين النادي والمخبز وكرفانة المختبر وبرادة الماء.
تركض نحوي بأقصى سرعة يقطعها من هو في عمرها الصغير، تركض بضحكتها، بدعابتها، بحيويتها، فاتحةِ الذراعين، وشعرها الخجري المجنون تعبث به الريح. أطأمن من قامتي وأجلس على ركبتي، وأفتح ذراعيّن من انبهار؛ بغيّة أن استقبل ركضها الّذي تريد أن تُنهيه بين يديّ.
أرجوان طفلة من طرازٍ فريد، تجري بخفة غزال، عينيها السود كاميرا تماثل كاميرا الكانون وتلتقط بهما كلّ شيء، تنظر بهما إلى الأشياء كأنها تريد أن تقول من خلالهما كلامًا، جسمها متوسط لايُشبه نحافة أباها غير أنّها لم تكن قاسية لطفلة في عمرها. شعرها أسود فاحم. أخبرني أباها أنّها تستيقظ الصباح قبل أن يذهبوا بها إلى روضة الأطفال، تستيقظ تمشط شعرها وحدها دون أن تستعين بأمها، وحدها تمشطه ثم تربطه على جانبي رأسها عنقودين من ليل، أمّا أنفها فدقيقًا مرسومًا بعناية فوق وجهها، وأمّا بشرتها فحنطية، صافية، تشكلت فيها تقاسيم الوجه بسلاسةً فغدت كأجمل مايكون، وإذا لقيتموها كثيرًا لقلتم أنّها كاملة الأوصاف.
تعاملها معي عليه مسحة من دهاء ورقة وينم عن ذكاءًا عالٍ، سر قوتها عاطفتها وغنجها ودلالها الصغير، تنتقي كلماتها بعناية وهي تعبر عن حاجاتها مستندة إلى صيغة الأمر في الطلب، لما تريد أن تخلد في النوم، تستعطف أبيها: يله أفتح لي صدرك أنام، فتنام عالقة فيه حتّى الصباح.
استقبل ركضها إليَّ بحفاوة كبيرة، وأحاول أن أتقمص أدوار الصغار، وأنا أريدها ألاّ تشعر بالملل وتقطع عنّي عادتها المحببّة في الركض، أقبّل رأسها وأسالها إن كانت لعبت أم لا؟!. مباشرة تقذف بسؤالي عرض الحائط والتجاهل والتطنيش، وتبدأ تفرض إجابتها دون أن أسالها. تحدد مكان محمود من تلقاء نفسها دون أن أسألها. تقول ببراءة ملحوظة: محمود مش موجود. تتنوع إجاباتها بين: محمود في البقالة..محمود في الشغل..محمود جالس عند أصحابه، تحدد مكان تواجده بكلّ صدق وشفافية. لم تقل أبي. تسميه محمود كما لو كان صديقها، تجيب وتساورها عاطفة الانتصار، إن قد أفضّت لي بهدية كبيرة يتصورها عقلها الصغير في عالمها الأسر والشفيف، تتملكها نشوة الفوز، أن قد أعطت شيءٍ ثمين، له قدره وقيمته عندي بالضبط.
تخبرني عن المكان الّذي يجلس فيه محمود بتوقيتهُ الحالي وتولّي هاربة صوب بيتهم، أراقب أسلوب هروبها وابتسم ابتسامة عريضة، اتسمر مكاني كالملدوغ ويغمرني شعور طافح بالسعادة. انتعش وازداد إقبالاً على الحياة.
كانت تخبرني بالمكان الّذي يجلس فيه محمود. وكان يخطر في بالي خلسة منها سؤال: لماذا توصّف أباها باسمه الحاف، هكذا بكلّ برود تهمس لك: محمود لم تقل أبي كما لو كان صديقها في اللعب، أو من يشاطرها الطفولة.
تحاول أن تدفع سنوات عُمرها قُدّمًا إلى الأمام؛ تبيّن لي ذلك من خلال مشاركتها للعب مع أطفال يكبرونها بسنوات..تظهر خفة دمها حينما تنتعل أحذيتها على النقيض من بعضهم، تلبس حذاء القدم اليسرى في القدم اليمنى، وحذاء القدم اليسرى في القدم اليمنى، وهكذا دواليك.
التأمّل في روتين الأطفال، والغرق في تفاصيلهم؛ يبسّط الحياة، ويعود بك أعوامًا إلى الوراء. المفكر برنارد شو: يقول إذا أردت أن تبدأ مشوارك في الحياة مرة أخرى صاحب الأطفال كي تأخذ منهم البساطة، وإذا أردت أن تعرف خلاصة تجارب الحياة جالس كِبار السن. الطفولة زمن البراءة الممتد، زمن الشقاء اللذيذ، العفوية.
الزمن الّذي يخلو من التعاقيد الّتي ننالها كضريبة للكِبر. والشيء الجوهري الّذي أستطيع أن أقوله في حضرة أرجوان: ليتني كبرت واصطحبت معي قلب الأطفال الصغار.
انتهت..
Discussion about this post