موطن الوقار.. قراءة في لوحة مرقد #الإمام_الحسين (ع) في كربلاء
للرسام شوقي دلال
د.بهية أحمد الطشم*
بسطت الشمس وِشاحها الذّهبي في الربوع المقدّسة لمرقد الإمام الحسين (ع) (ثاني أسباط رسول الله (ص), وسَكبت أنوار الوقار سُطوعها الوهّاج, لترتقي كل تنهدة في القلوب الخاشعة وتدرك كنه الإيمان الذي يصدح في أثلام الدماغ ويبثّ روح الوجد والعرفان.
يتقهقر القنوط في أرجاء السّكينة العميقة, وتتملّص العقول من غوغاء الشرور حتى تبلغ أكَمة السّمو الشاهق, فتستسلم العيون لمعالم التأملات الوجدانية في الأروقة الشّريفة, وتنبري الأفكار للارتقاء الى العالم السّماوي, إذ تحيطها هالة الزهور الفوّاحة بعبق الجلال السّرمدي, فتتلاشى الغيوم المتلبدة من أديم المشاعر لكي تنثر خيوط الشمس (مركز الكون) شعاعها قي زوايا النفوس المظلمة وتعلن بزوغ فجر الايمان.
ولعلّنا نقرأ بروح من المسؤولية وبكثير من الإمعان أبرز الحنايا لهذه الأيقونة بغاية التماس حكمة الإشراق الإيماني, ونستلهم شذرات الاطمئنان بعيداً عن أصناف التشرذم في الشرور.
وتُلفت أنظارنا الغارقة في بحر التأمل عبارة ذهبية على البوابة الرئيسية للمرقد: “السلام عليك يا أبا عبد الله”, فالسّلام والحُب سيّان…. وما أحوجنا إليهما في كل زمان ومكان!
نستذكر في هذا السّياق وبصدد الأبعاد الميثولوجية لروح المكان عبارة خالدة للمفكر وليام جيمس (1910 م): “إنّ التجربة الدينية هي قطعة حيّة من الواقع… وإنها تجمع بين القلق والخلاص… قلق من العالم الأرضي, خلاص يُستبان في طموح الأنا الى ما هو أسمى, وفي هذا اذكاء لحيوية البشر, وبثّ الأمل في النفوس”.
وبالعودة الى استقراء المعالم الضّخمة لهندسة البناء, فهي تنمّ عن الجلال العارم لحيّز المكان والقداسة الفائقة في المقام المبارك.
وكذلك تنسحب آيات السّحر الراقي على المآذن الشّامخة الفيّاضة بالوهج النوراني والإشراق الإيماني, وفي الإطار عينه تزدان حنايا اللوحة بالألوان السّاطعة على ايقاع سِهام الشمس, حيث لا تتعب شلالات الضوء من السّطوع الباهر.
إذاً نستقطف من الألوان الزاهية والمضيئة التي تضفي على الأيقونة ألقاً استثنائياً غير ممتنع عن الاكتناه, كلّما تعمّقنا في أعمق الأعاميق, حيث يتموّج اللون الأخضر في حنايا الأروقة… ولا غرابة, فالأخضر هو اللون المميز في الجنّة, ويدلّل على القدسيّة, وهو رمز السُلالة الطاهرة, وكذلك يتماهى الأخضر والاقتران بالنور…
وقد ورد في القرآن الكريم: “يلبسون ثياباً خُضراً من سندس”. القرآن الكريم, سورة الكهف الآية 31.
وفي السّياق ذاته, ينمّ اللون الرماديّ عن ملاذ الاستقرار والاطمئنان وبالمُوازاة يدلّل اللون الأسود على المشاعر العميقة ولَدُن الهدوء.
ويُخيّل الينا بأنّ ريشة الرسّام رسمت ألوان الإيمان في مملكة النور والإشراق المتموّج عبر اللون الذهبي السّاطع.
وقد بلغ الورَع مبلغه, ولا يخمد وهج الإشراق البتّة, إذ يتغلّب الثلج على كل شيء الاّ على حرارة المشاعر, فترسم مسار النفس الشيّق في رحلتها التأمليّة كي تعانق ألق الجلال.
اذاً, ترتقي النفوس الخاشعة نحو العلوّ بجاذب السّماء, وتغتني بالإيمان الراسخ, لتنطلق من محبس المادة الى فضاء الروح الخلاّقة, فتقودها الى سعادة عرفانية محررة من النقائص.
وفي الوقت عينه, تطوف مشيئة الأرواح الهائمة, في حُب صاحب التضحية العُظمى, وتعانق القلوب ستائر العظَمة وجدران الجلال.
حيث تحوم القلوب في مرتع الأسرار المقدّسة وتصارع ذلّ الشرّ, فيغدو موطن الوقار وطناً آمناً للنفوس الظامئة الى ينبوع الاطمئنان الطافح بالوجدان.
وكأننا بصدد كوسمولوجيا الايمان الذي لا ينضب عبر استتاب طمأنينة لا تكلأ متماهية مع صلاة القلوب, وبمنأى عن ربقات التعصّب.
وما أروع أقوال صاحب المقام في الإنسانية: “ومَن أحَسَن أحسَن الله اليه, والله يحب المُحسنين…”, “الرفق لُب”!
* باحثة وأستاذة في الفلسفة وقسم اللغة العربية وعلم النفس في الجامعة اللبنانيّة والاسلامية.
Discussion about this post