في العقود الأخيرة، انتشر على نحو لافت، نوع من الأعمال الروائية في العالم الغربي، يستند أساسا إلى شيفرة من «الدمج المركب» للأرقام والرموز، بالإضافة إلى بعض، أو جزء، من القصص الدينية، التي بقيت مبهمة في التاريخ. وقد شاهدنا عدة برامج تلفزيونية تتحدث عن التأويل العددي لتفسير آيات أو تعاليم دينية. ولعل أبرز هذه الأعمال التي شهدت انتشاراً واسعاً، ما قام به الروائي الأميركي
«دان براون»، في روايات: «شيفرة دافنشي»، «ملائكة وشياطين»، و«الحصن الرقمي»، وغيرها.
وربما لم يتم الربط، بما يكفي، بين هذه الأعمال وبين «عقيدة الزوهار» بأرقامها ورموزها. ولا بين الانتشار السريع لهذه الأعمال وعقائد «جمعيات»، أو «أخويات»، عالمية جديدة، تجتاح حالياً شعوب الأرض، وتشكيلاتها الاجتماعية، بـ«زوهارها وإشراقها».
فما هي عقيدة «الزوهار»؟ ومن أين جاءت؟ وما هو مدى انتشارها، وتأثيرها، على يقين الأوساط الصوفية اليهودية، عقائدياً؟ وهل امتدّ هذا التأثير ووصل إلى ثقافات أو عقائد دينية تخص شعوباً أخرى؟.
عقيدة «الزوهار» تعتبر تطوراً ومنعطفاً رئيسياً في تاريخ تطوّر «القبالة»، أي «التصوّف اليهودي». فالقبالة، بما هي التقليد المتوارث عند اليهود «kabbalah»، بدأت بالانتشار منذ القرن الحادي عشر الميلادي، أي منذ بدء حروب الفرنجة على المشرق العربي. وكانت، حتى ذلك الوقت، وقفاً على «النخبة الممتازة»، التي اصطفَت نفسها، لتقبّل التعاليم والعقائد السرية، وتلقّيها عن «السلف الصالح». ومع مجيء القرن الرابع عشر، أصبحت القبالة مدار اهتمام معظم الأوساط اليهودية، بعد أن كانت حكراً على نفر بعينه منهم.
المنعطف الرئيسي، في تطور القبالة، حدث في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، بظهور كتاب «الإشراق Zohar»، الشهير بـ«الزوهار». وقد اتخذ شكل الشرح والتعليق، على أسفار التوراة الخمسة، بهدف الكشف عن المعنى الخفيّ لروايات التوراة والوصايا الإلهية، إذ يعتقدون أن كل حرف يتضمن رقماً سرياً له تأويل ومعنى خاص لايعرفه الا المتمكن من الشريعة، وقد استخدم «الزوهار» عدة طرق لتحقيق الكشف النوراني والإشراقي، وهي ذات الطرق المرصودة في «التلمود». أما هذه الطرق فهي أربع، وسميت باختزال حروفها الأولى إلى لفظة «الفردوس»، أي «Pa-R-De-S» (بَرَدايس).
وهذه الطرق الأربع هي: التفسير الحرفي Peshat، التأويل الرمزي Remez، الدرس والشرح المكثف Derush، والسرّ الصوفي Sod.
وفي عقيدة الزوهار هناك تمجيد لطريقة «السرّ الصوفي» في التفسير، وتعتبرها «جسد التوراة» بينما تؤلف الأسرار الخفية روح ذلك الجسد.
وتعاليم الزوهار، التي ترجع إلى جذور تلمودية، منها ما يتعلق بفكرة مجيء المسيح المنتظر، وقيام الهيكل في موقعه القديم.
وقد استحوذت هذه التعاليم على عقول المثقفين من اليهود، وخلبت ألباب الجماهير من عامتهم. وخلال فترة بالغة القصر، امتلك الزوهار، عقولهم وقلوبهم، وأصبح المصدر الثالث المقدس، بعد التوراة والتلمود، للوحي والهداية والإرشاد. فحملوه معهم عند الخروج من إسبانيا فوصل إلى مدرسة صفد (فلسطين)، في القرن السادس عشر، حيث كان إسحق لوريا (1514_1572)، الملقب بالأسد، يستعد لاستقباله، والإسهام فيه بقسطه في الشرح والتطوير. ومن الذين تخرجوا من المعهد الفقهي اليهودي، بمدينة «لوسيانا»، الواقعة شرقي قرطبة، والى الغرب من غرناطة، الفقيه إسحق بن يعقوب الفاسي (1013_1103).
الذي ألف كتاباً في التشريع اليهودي اسمه «كتاب الفقه»، وجاء هذا المؤلَّف بمثابة «تلمود مختصر». وفي نفس المعهد تتلمذ موسى بن ميمون (1135_1204)، الذي خصصنا له مقالاً سابقاً ،صاحب أهم مصنف للفقه التلمودي، في القرن الثاني عشر، وهو «تثنية التوراة».
مما ساعد على استرداد الزوهار لعافيته، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث توافر المناخ اللازم لتأسيس جمعيات ومنظمات وأخويات سرية، امتدّت في طول أوروبا وعرضها.
ويبقى كتاب الزوهار لغزاً عصياً على من يقرؤه لكثرة رموزه وايحاءاته ومعانيه حتى يومنا هذا.
Discussion about this post