تجردت من كل ما يربطني بهذا الكون ذات يوم من أيام الصيف الحار ظهرا ،تطهرت طهارة شاملة وكاملة،بسملت وتلوت ما تيسر من القرآن وتوكلت على الواحد الأحد ، رفعت كفي عاليا داعيا الوهاب أن يهبني الإلهام والصبر والثبات والحكمة والعقل والتجرد من كل أنانية قدر الإمكان والتسلح بما ينير طريقي ويثبتني على سراطه المستقيم بإذنه تعالى.
فامتطيت سفينة أفكاري الخاصة بي، وأبحرت في أعماق عقلي الغارق ومكوناته، وكانت أمواج بحره تتلاطم على سطحه وتتلاعب بنا في كل اتجاه، ترقصنا ذات اليمين وذات الشمال ، تعزف أحلى المعزوفات التي لم يهتد إليها موزارت ولا بتهوفن ولا غيرهما من فطاحلة الموسيقى والمعزوفات الهادفة….
وكانت أسماك هذا البحر ترافقنا وتشاركنا فرحنا وترسم بجوارنا أحلى الرسوم في مجموعات، تقفز عاليا في الهواء تارة، تتسابق أمامنا مستعرضة مهاراتها طورا ،وتغوص بسرعة في الأعماق طورا آخر، وتداعب السفينة وتحركها في كل اتجاه مرة أخرى….
وكانت سفينتي وسط هذا المشهد تسير بتأن وانتظام وفن ورشاقة وشموخ وكبرياء، تبتسم في وجه كل من يقترب منها وتتحاشى التصادم مع من يعترض سبيلها، ترحب بمن يمتطيها وتوفر له كل سبل الراحة والسلام والأمن والأمان وما إليه ، وتهديه أغلى وأثمن الهدايا…
وكان من بين هؤلاء الضيوف حوت عملاق قفز بغتة قفزة لولبية في الهواء وتوسط فناء السفينة عند نزولها ، فغمرنا بسيل من المياه التي رافقته ،فدعمت طهارتنا وانتباهنا وزادتهما جمالا على جمالها ورونق على رونقهما.
فاقتربت منه وداعبته برفق ولين وربت على كل مكوناته وأجزائه ، وكان بتحرك بلطف وكأنه يتمتع بهذا التصرف أو بطلب مني عدم التوقف عن ذلك واستمرار إتيان هذا الصنيع قبل أن بفقد الحياة ويمسي لقمة شهية مالحة لي ولبقية الجوعى المتواجدين معي…
فناديت بصوت مرتفع، بل صحت حتى كدت أفقد صوتي طالبا عون ضميري واستشارته ، فلم يتأخر عن الحضور كعادته ورحب بالضيف قبل أن يقول بابتسامته المرافقة المعهودة وصوته الجهوري الذي يخيفني ويبعث في الرعب والخشية والضعف والوهن وحتى التردد وفقدان التوازن عند اللوم والعتاب والمحاسبة العسيرة:
– ناديتني لأنك لم تتعرف على زائرك ولا نوعه بكل تأكيد (وأنا أطأطئ رأسي وأرفعه موافقا نهجه)، ما أضيق ذاكرتك ومحدوديتها؟ إنها أهم سمكة في بحرك، إنها ذكرياتك، ماضيك،سندك في الحاضر وبانية مستقبلك
– (مقاطعا كعادتي) ما فائدة حضورها الآن وأنا مسرور ومبتهج بما يدور حولي
– (معاتبا وساخطا) من لا تاريخ له،لا حاضر ولا مستقبل له أيها الجاحد. اقترب منها وفتش في أعماقها وأغوارها، تصفح ورقاتها وراجع دروسك جيدا….
وواصل نقده وتوجيهه ونصحه وإرشاده لي وكنت في شبه غيبوبة جراء هذه النزهة وهذا الجو والنسيم العليل الذي أخذني إلى عالم جديد بعيد عن الضوضاء والغوغائية وسائر مظاهر الحياة البشرية، فوجدتني فعلا أسبح في بطن هذا الحوت وأجتهد في التنقل من زاوية إلى زاوية ومن ركن لآخر قارئا كل كتب هذه المكتبة الثرية بالأحداث ومتصفحا لصفحات الأيام والسنين،فرأيتني مبتسما حينا وباكيا حينا آخر ،متأففا مرة ومتحسرا مرة أخرى ،متنهدا وقتا ونادما وقتا آخر…..
ثم خرجت ما إن فتح هذا الحوت فاه لتجدني مجددا بين الأحياء وقد استخلصت بعد هذه الجولة القصيرة في الزمن والعميقة في التاريخ والأثر أنه “من يزرع يحصد” و “من يتوكل على غير الله يذل” و “القناعة كنز لا يفني” ….، وكثير من الدروس والعبر التي ما إن يتمسك بها الفرد ويسعى إلى تحقيقها ينجو بإذن الله من كل الشرور والمصائب والمكائد والحفر مهما كان معها وعمقها،وينجح بالتالي في الدارين ويكون من الفائزين.
لكن ،هل نقدر على ذلك وسط ما نشهده من تناقض وتداخل في القيم والمفاهيم وهجر شبه تام للدين والعادات والتقاليد وكل شيء جميل تربينا عليه ونشأنا من خيراته؟ هل نقدر على محاربة أنفاسنا الأمارة بالسوء ومقارعة الشيطان وهزمه في كل مكان وحين؟ هل نملك من الشجاعة ورباطة الجأش والجرأة وسنوها من الصفات الحسنة ما يسمح لنا من صد الشر والأنانية وكافة مظاهر الحياة البشرية التي نعايشها في كل آن وحين؟….
Discussion about this post