(( محاولة في قراءة نقدية لمرثيّة غير تقليدية أعدّتها الأديبة كوثر بلعابي))
** تعريف لابدّ منه :
حاتم بن حمادي المنصري أصيل تالة من ولاية القصرين التونسية.. فيها ولد و نشأ و تدرّج على مقاعد الدّراسة حتى حصوله على شهادة البكالوريا و عاد إليها أستاذا في التاريخ و الجغرافيا متخرجا من كلية الآداب ” 9 أفريل ” كما زاول فيها مهنة الشّقاء اللذيذ مدّة خمس سنوات بالمدارس الإعدادية و المعاهد الثانوية تحوّل بعدها الى الأعمال الحرّة في مجال الرّخام و استمرّ فيه كرجل أعمال ناجح..
علما و أنّه خاض غمار السّياسة منذ كان تلميذا بمعهد ابن شرف بتالة و ظلّ لسنوات عديدة من القياديين الشّرسين في خليّة حزب البعث العراقي بالجهة بما أنّه فكريا تلميذ ميشال عفلق فيلسوف نظرية البعث و سياسيّا تلميذ الزعيم الشهيد صدام حسين.. عاش قصّة حبّ استثنائيّة مع المرحومة نادية سائحي زوجتِه الأولى التي أحبّها و هما في يفاعة الشباب و علّمها الحبّ بنفسه إذ كان حبّها الأوّل و الوحيد فأحبّته كما أراد و أحبّها كما أرادت و عاشا معا السّعادة التي لا يتسنّى لأغلب الناس إدراكُها..
كانت هذه المسيرة الحافلة وراء علاقة حاتم بالكتب ينهل منها شوقا الى إدراك حقيقة ذاته و ليكتسب الخبرة و اللّباقة في التّواصل مع حبيبته و عالم السياسة و الأعمال إلّا أنّه لم يمارس الكتابة قبل سنة 2019 التي مثّلت في حياته لحظة فارقة على حدّ عبارة الهادي دانيال.. فقد ثُكِل حاتم خلال هذه السّنة في حبيبته نادية يوم 14 سبتمبر 2019 و هما في منتهى السّعادة و التماسك الأسري خاصة و قد أنجبا ولدين و بنتا انكبّا على رعايتهم.. شعر عندها بقسوة الحياة حين تغدر بالانسان في غفلة منه و حزّ في نفسه و عمّق وجعه في ذاك الوقت أنّه لم يستطع رثاء حبيبته الرّاحلة أو تأبينها بما يليق بها و بمنزلتها في حياته..
عندها ألحّت عليه الرّغبةُ في الكتابة و طَفِق يمارسها في البداية كوسيلة تعويض يستحضر عبرها روح نادية ليحاورها و يعيش معها في عوالم الخيال التي اتاحتها له اللغة و تواصلت المأساة الوجودية خاصّة بعد وفاة والدتِه يوم 5 ماي 2022 ثمّ والدِه يوم 14 أكتوبر من نفس السّنة فعمّق ذلك الإحساسَ بفقدان الحبيبة التي تشدّ الأزر و تواسي و تخفّف الحزن في مثل هذه الظروف العصيبة ممّا أجّج الرغبة أكثر في مواصلة الكتابة يقودها الانفعال ثم بعد ذلك الوعي فالخيار المخصوص المتّجه نحو قصيدة النّثر بالذّات.. لعلّه خيار ملائم ليسع هذا التشابك في خلجاته بين المأساة العاطفيّة و المأساة الوجودية و لِيسع الموقف التّحديثي التّنويري للشّاعر في نظرته الى الأدب و الثّقافة عموما ..
فكانت هذه التّجربة التي استقطبتني منذ انتبهتُ إليها قبل حتى صدور المجموعة الشعرية.. ذلك أنّ حاتم المنصري استطاع و بطريقة لا أعتقد أنّه سُبِق إليها أن يُحوّل أبجديّات الحياة و الموت من لغة الواقع و المعاجم و لغة الرثاء المعتاد إلى لغة مختلفة لكتابة الحياة في الموت و الموت في الحياة ضمن رؤيا شعريّة رفعت حاجز التّنافر و لو بحجم شعرة معاوية بين حدّيْ الوجود الأساسيَين..
أ لم يكتب الشاعر منصف الوهايبي : أنّ (( ما نَعُدّه شعرا إنّما هو تحويل شكل لغويّ إلى شكل مِن أشكال الحياة و تحويل شكل من أشكال الحياة إلى شكل لغويّ)) ذلك أنّ شعريّة اللغة بهذا المعنى تكمن في سياق ذاك التّحوّل الذي يستوجب الخروج بلغة الكتابة عن لغة الواقع بما لا حدّ له من الإمكانات التعبيريّة و الذي تُقَاسُ إليه درجة الإبداع أو الشاعريّة بشكل خاصّ تِبَعًا لمدى قدرة الشاعر على استخراج هذه الإمكانات و فنّية إخراجها.. تلك الفنّية التي اتّسمت في : “” هي تقول… و ليس طيفها “” بمنتهى الإغراب سواء في إنشاء الخطاب أو التعامل مع اللغة الشعريّة و ما تُتيحه من وظائف الإبلاغ أو في حيثيات حضور ثنائية الرّاثي و المرثيّة بما أنّ الكتاب ورد مجملا في رثاء بمنتهى الوفاء للحبيبة الفقيدة نادية السايحي رحمها الله..
** الإغراب في إنشاء الخطاب :
نحن إزاء خطاب شعري يشمل الكثير مِن مظاهر الإغراب خاصّة في امتداده على إحدى و عشرين قصيدة مطوّلة و متوسّطة محورها “”طَيفها”” هذه التّيمة التي تدور في فلكها كافّة مكوّنات الكتاب منذ العنوان.. في حضور لغويّ مجرّد و غير مادّيّ للفقيدة التي تجلّت طيفا و جوهرا وجوديّا يحتلّ في ذات الشّاعر منزلة وجدانيّة استثنائيّة فنتبيّن من الوهلة الأولى أنّنا إزاء موضوع يتجاوز الرّثاء و يختلف عنه حتى و هو يذكّر بما عرفه شعرنا العربي عبر التاريخ من مراثي الشّعراء المشهورين لزوجاتهم وقد كانت تُعرف بمراثي السّتيرة (و السيرة هي الزوجة المحصّنة التي يمتنع زوجها عن ذكر إسمها و مفاتنها أثناء الرّثاء) هذه المراثي على قلّة عددها مقارنة بمراثي الأقارب من الرّجال تُعتبر أجود ما أثِر من الأشعار فنّيّا و لا بأس هنا من أن نذكر مثلا جريرا ( العصر الأموي) في قصيدته التي قال فيها :
((لَو لا الحياء لهجاني استعبارُ و لزرتُ قبرَكِ و الحبيب يُزار))
و مسلم بن الوليد ( العصر العبّاسي) في قصيدته التي قال فيها :
((و كيف يُدفَع اليأس و الوجدُ بَعدَها و سهماهما في القلب يعتلِجان؟))
و من أشهر الذين رثوا زوجاتهم في العصر الحديث محمود سامي البارودي في رائعته التي قال فيها :
(( يا دهرُ فيمَ فجعتَني في حَليلتي كانت خُلاصَةَ عُدّتي و عَتادي
إن كُنتَ لم ترحَم ضنَاي لِبُعدِهَا أ فلا رحَمتَ مِن الأسى أولادي؟؟))
و طبعا لا ننسى نزار قباني في قصيدة (( بلقيس)) و في تونس الشاعرين القيروانيين المنصف الوهايبي و محمد الغزّي رحمه الله الذي رثى زوجته رجاء في قصيدة الوصيّة و جاء فيها :
(( تخاف من الموت سيدتي
و تخاف من الليل و الصّمت
يا إخوتي الليلَ و العشبَ و الماءَ
جاءت إليكنّ هذا الصّباحَ مُتوّجةً بِطفولتِها و وداعتِها
فأحِطن بها حين ننفَضُّ عنها و أسعِفن غربتَها…))
هؤلاء و كثيرون رثوا زوجاتهم في قصيدة أو قصيدتين او حتى أكثر ما عدا المصري عزيز أباضة (على حدّ علمي) إذ رثى زوجته في ديوان كامل عنوانه : (( أنّاتٌ حائرةٌ)) و تلاه في تونس حاتم المنصري و لكن بشكل مختلف تماما عن أنّات عزيز أباظة قوامه التّهويمات و التّخييلات العجيبة التي احتكمت إليها مُجريات العدول المُدهش و المُثير و حتّى الصّادم في عدّة مواضع منها عنوان الكتاب (( هي تقول… و ليس طيفها)) و كذلك القصيدة الأخيرة (( لا تهمّ المسافة ص 173)) نُسِبَ القول إلى صاحبة الطّيف فإذا بها كائن حيّ ليس في عداد الرّاحلين و طيفها روحٌ حاضرةٌ حائمة هنا و ليست في عالم البرزخ : تريد حبيبها و تتخطى المسافة لتصل إليه و إذا بالشاعر الرّاثي هو الطيف الذي يقول : (( ص 175
تقصر المسافة أو تطول
أهطُلُ كامِلًا.. و ككلّ الفصول أنهَمِرُ
إلّا أنّني أتدفّق إليكِ في جزء مِن ثانية))
و هنا نجلو إغراب الخطاب في تمظهر آخر من تمظهراته على مستوى بناء القصائد في شكل حواريات ليست هي بما عرف من سجال الشعراء و لا بالسّرد التعبيري الذي مثّل جانبا من خصائص الكتابة في قصيدة النّثر إنّما هي”” فانتازيا “” حوارية متخيّلة بين الذّات الرّاثية و الذّات الرّاحلة.. إذ أقِتمت كلّ قصيدة على عنوان يليه قول الشاعر مشفوعا بِقَول الفقيدة او على الأدق بقول طيفِها في حديث منسجم بين الطرفين حول مسألة من مسائل حياتهما المشتركة العاطفية حينا و الوجوديّة حينا آخر (( قص صناعة أخرى لكنها خام ص 15 :
أما عن قسوة الفقد التي عجز عن احتمالها فقد حولت عالم الأحياء إلى (سديم و عالم الأموات حيث الحبيبة إلى أبجديّات صاخبة و متلعثمة و مستجدّة).. بل أكتر من ذلك يذهب الشاعر بخياله المستحضر للفقيدة إلى تَمَثّل تقلّبات الأحوال بينهما في ظلّ تقاسم الحياة الزوجيّة و ما يعتريها من حميميات مثل ما ورد في (( قص بين رصاصتين ص 63 : دون جميع الخلق تأتي من الغيب / تتدفّق و تفيض دائمة البحث عنّي و عنها /في وضح الكون مخضّبة الجناحين)) و مناكفات و مشاكسات و حتى لحظات مكر الزوجة في حرصها المبالغ على امتلاك زوجها و حفظ أركان بيتها مثال ذلك في (( قص لقاء بحسبان ص 83 : تُعيد الحساب إلى غمده / و تسألني : لِمَ يصّاعد من رأسك كلّ هذا الدّخان… فكرهتُ البقاء و طرح السّؤالِ / ذهبتُ على عَجل دون سين و جيم… )) هكذا كان ثقل
** غربة الذات الشاعرة وراء إغراب الخيال الشّعري :
الذي ألقى بظلاله على مقومات الكتابة و أبعادها و هي تلحّ في البحث عن طريقة لإحياء الذات الفقيدة في ابجديات القصيدة عسى ان تنتشلها من براثن موتها المبكّر عبر الكتابة فتخلّدها إذ تحوّلها من كائن بشري مآله الفناء إلى كيان لغويّ إبداعي مآله الكتاب يضمن له البقاء… و الشاعر في غضون ذلك بدا مستسلما إلى موته فيها حين أطبق عليه فراغ الحياة من دونها فغدا بدوره حيا في القصيدة معها أسير الموت خارج القصيدة بعدَها.. بذلك كتب الرثاء ذاته خارج الأنساق و السياقات التعبيريّة العاديّة و داخل أنساق الكينونة الجمالية للكتابة و سياقاتها المتأتّية من طرافة المجاز المفتون بعالم الأرواح و بفتوحات لغة الشعر ممّا استوجب بدوره علاقة خاصّة مع متلقّ خاصّ يجيد إدراك المعنى العميق للوفاء الذي إذا بلغ منتهاه يمكنه تحويل حالة الغربة في واقع الحياة إلى حالة إغراب في واقع اللغة و الإبداع و وقع النّصّ المبتدع الذي يكون في العادة ممتعا بقدر ما يكون موجعا ..
Discussion about this post