وأنت تشق الطريق الواسع من قرطاج نحو المرسى، تمرّ بالجامع الكبير
الذى بني بعد أن هُدمت المباني التي خصصت يوما ما لكبار موضفي الدولة من سلك حساس وربما اعطيت لهم مساكن اخرى بديلا.
وعلى يسارك الحديقة الأندلسية أين تعيش بعض الكلاب الوديعة التى تساهم فى التوازن البيئي رغم تذمّر بغض الناس .إلا أني أحبّ أن أراهما هناك وأحبّ أن أطعمها، يسدّون رمق الامومة المفقودة الّتي كتبت عليّ.وحين يغيّب أحدها القتل،أظل أبكي فكيف لمن يلعق كفّي يموت بهذه الطريقة ؟….غير أنه لا حيلة لي أمام بطش بلدية قرطاج وانانية البشر الذي يرى في وجود الحيوان خطرا على سعادته.
ثم تواصل طريقك لتستقبلك الخضرة في ما تبقى من حقول على ملك الشعابنية.ضيعات تتباهي أمام سماء زرقاء فتسبح عيناك في ألوان الخصب والجمال .ترى معالم أثرية متفرقة تسودها الأعمدة والحمّامات والغرف لتذكرك ان هذا البلد غازل جلّ الشعوب وعانق أغلب الحضارات.
تعود الآثار إلى الحقبة القرطاجنية ويُسمّى المكان “داموس الكريطة.”أنا لا أنكر ان الاسم مألوف وأنّنا سكان دوار الشط منذ الأزل نحلم بوجود الكريطة الممتلئة ذهبا وماسا ولكننا لم نجدها وذهب من ذهب ورحل من رحل ولا أثر للكريطة .تحدّث عنها أبي ،وتحدثت بشأنها مع إخوتي ولكن لم نعرف مكانها أبدا وربما المنطقة الأثرية التي تحمل اسمها هي من باب التعسّف لا أكثر، وقد أعلمتني صديقتي “فرح” أن هناك كتاب يحمل إسم داموس الكريطة ،الا أني لا أعرفه . وكما قلت في كتابى الذي تحدثت عنه قبل أن يرى النور “أشقياء دووراالشط “.ان القرية،اي دوارالشط ، حملت السعادة لفرقة المثاليث والجرابة.ولم يصبهم شقاء اهل دوار الشط ولا لعنة الجدة الأولى “عليسة”.فالجرابة امتهنوا التجارة بعد أن استشار كبيرهم جدتي حول “حل الميزان “الذي كان فيه حبس وقالت جدتي : “إبدأ يا يونس يا ولدي وربي معاك،توكل على الله
قال لها :”الصيد نزير يا خالتي حلومة ونحن نريد ان نبيع ونشتري ونحل الميزان ولكن نخاف أن يصيبنا أذى ،فجدنا سيدى البحري أمرنا أن نركب البحر ونعيش على خيراته ”
“سمي بأسم الله يا يونس ولا تخف ”
كان سكان دوارشط يرون في جدتي ينبوع البركة والحكمة ،يحبونها لطيبتها وتلقائيتها وربما لجمالها أيضا. ومنذ ذلك الوقت،كان سكان دوارالشط يرون الجرابة من أعيان وأغنيائه ،ازدهرت تجارتهم وتوزعت بين الكرم والمرسى ، اشتروا الأراضي القريبة من” المعزولة” وهو المرفأ البونيّ أو هكذا يناديه أهل البلاد وشيدوا منازل فخمة، ولم يتزوجوا من بنات دوارالشط بل تزوجوا من جربيات ذوات الوجه المستدير والجسم المكتنز . وكبرت عوالمهم وصاروا في أرغد عيش لم يعرفوا شقاءا ولا حرمانا وكانت علاقتهم مع أهل دووارالشط متينة وطيبة عموما، ولم يكن لهم طمع في الكنز
المفقود ولم يضيّعوا وقتا حتى في الحلم .
أما” المثاليث ” فلهم حكاية أخرى. جاؤوا مع فجر الاستقلال بعوز ماقت وفقر مدقع ،كانوا يقومون بأعمال مختلفة لكسب القوت، وأنا لا أنسى والدتي وهي تمجّد عم “حسين “حفار الآبار الذي على يديه تدفق الماء وفارت العين التي اكتساها البئر الروماني بعينيه ليصبح بئر بيتنا.كانت امي تشيد بعمله وبشره وكيف أن الماء جاء زُلالا على يديه. نشطتت بناتهم فمنهن
من كانت تبيع الماء لسكان دوارالشط،تحمل قلّتها وتدخل البيوت ،يحبّها الناس ويحسنون اليها.كسب “مثاليث” الجهة الشرقية ودّ السّكان الذين هبّوا لمساعدتهم ،كل على قدر المستطاع ، أذكر مثلا حتى أن خالي رحمه الله كان قد جلب لإحدى العائلات” قارقو”وهو عبارة على صندوق بضائع بحجم الغرفة، من مطار العوينة ليسكنوه يقيهم البرد والحر .وضعوه وسط الحومة ولم يُبد أيّ كان إعتراضا بل رحبوا وهبوا للمساعدة في انتظار سكنهم الجديد.
لم يطل عوزهم طويلا ،أولا لأن إحدى بناتهم اشتغلت عند مسؤول دولة كبير انذاك، وأعتبرها إبنة له .وكان له شأن ثقافي وعلميّ، وانا شخصيا أحب هذا الرجل لانه أهداني جائزة اللجنة الثقافية سنة البكالوريا.
جازى هذا الوزير السابق أهل معينته وأغدق على زوجها المال وفرص العمل وبيعت لهم الأراضي التي وراء الجامع وكانوا يشجعون قدوم ذويهم من مسقط رأسهم، حتى كوّنوا حومة كاملة ،منازلها واسعة جديدة .وشغلوا مناصب في الدوائر البلدية للدولة التونسية الفتية وكانوا والحق يقال، يعلوهم الطموح وحب الوصول .وقد يكون بعضهم سمع عن الحلم الأمريكي الذي كان ممكنا نوعا ما في فجر الاستقلال وستينيات القرن الماضي .تزوجت بناتهم من أعيان المرسى وقرطاج وانصهروا في المجتمع الدورا الشطي .
أما من الجانب الجنوبي أي الأراضي التي تحاذي المعلقة فقد انتشر فيها نوعا ثاني من المثاليث الذين انهمكو في التنقيب عن الآثار القرطاجية .وكانت لهم علاقة مباشرة مع السواح .ففُصّلت أنواعا وأشكالا من وجه “حنبعل” ولويس التاسع وبيعت القطع على أنها أصلية. واستوطنوا الأراضي المحاذية “للمعلقة” وسكن معهم بعض ممن أتوا من الجنوب الشرقي وبات المكان أنذاك يعرف ب les apaches لكثرة المشاكل والخصام بين السكان. وكأن الحلم بوجود الكريطة ساري المفعول وربما هم أخذوا الحكاية على محمل الجد فتكثفت الحفريات إلى أن وجد أحدهم قلة لويس وطفق يسربها في هدوء ويبتاع الأراضي حتى عمّ الرخاء مثاليث الشقة الجنوبية.
كما أن نفوذهم قوي عندما قتل أحدهم معمّرا فجر الاستقلال وأصبح بطلا وأخذ المثاليث المناصب في البلدية وكان دورالشط قنديل السعادة بالنسبة لهم وكان يُردّدُ دائما “دووار الشط تضوي على البراني”
“سهى، سهى مالك تٌديرين سكّة المحراث من جديد؟ وتورّقين أطراس دووار الشط ؟
“جدتي أنت هنا ؟هل أنت ترين ما ادوّن؟ ّأعرف أن الأشقياء يبتهجون لشقائهم ويرقصون مع صدى أرواحهم العليلة ،ربما انا أعيش على ما حصل وأشم رائحة من ذهبوا ،اشتقت إلى صوت أمي وأخي يا جدتي .أستحم في نفاث همسك يا جدتي وأشتاق لسماع كل ما رويته عن دووار الشط
أنا اسمعك مرة أخرى يا جدتي ،يفتح الزمن بابه ولن يبقى سوى القصص الرمادية في “قلوب الاشقياء .
“لماذا تنشبين في عرين الأسد يا سهى اتريدين الكريطة”؟ كان الصوت يأتي واضحا ،كأن السنين قد أصابها العرج ولم تهرول….
“انا يا جدتي منذ فتحت يداي ولا آمل أن تأتي اللقمة على طبق الورود، انا أقتلع “الفرنك” بالعمل ولا أحلم بذهب جاء من بلاد أخرى. إنما أحب أن أعرف أين خبأت “آلزا” المفتاح الذي أعطته لها عليسة وقالت إنه مفتاح الصندوق؟ جدتي أظن أنك تعلمين، انت الأن في عوالم أخرى ولا أشك أنك تعلمين. جدتي جدتي أين أنت؟
غاب الصوت ورجعت سهى الى أوراقها .
فرت عليسة من بطش أخيها وحملت معها أحلى بنات صور وحطّت بأرض الجمال والبهاء .كانت تركب عربة لوحدها ،في المقعد الأمامي هناك دفة عميقة وضعت فيه عليسة صندوقا وكلّفت” آلزا” بحراسته وأعطتها المفتاح .
ظل الناس يبحثون عن المفتاح وحتى وإن وجد المفتاح فأين الصندوق، وحلقت الأحلام عالية وكل يفكر في الكريطة وازدهرالحلم بين مثاليث الشقة الجنوبية وامتهنوا الحفر والتنقيب وتواطؤا مع من نهب خيرات البلاد وزين بالنٌصب والقطع الأثرية حدائق قصره ومطبخه ورميت الحضارة في قدر الطعام .
يحكى ان أحدهم قُبض عليه متلبّسا وقضى مدة في السجن إلا ان حب الكريطة والجواهر لم يعرف الفتور أبدا وظلّ الهوس يكبر . كنت كلما أمّر بالمكان أتساءل مثلهم أين الكريطة ؟كان هناك بجانب الموقع مقبرة اليهود او النصاري لا أعرف بالظبط ولكن كانت تمتد على مساحة خضراء جميلة .كنت أحب أن ألمس بابها المقفول وأنظر إلى القبور، بعضها منسى ونادرا ما ترى زوّارا .فقد رحلت كل الاقلّيات من تونس وأصبح الناس لا يميزون بين بهودي تونسي واسرائيلي سفاح .فهاجر الجميع وفي قلوبهم لوعة هذا الوطن العزيز وبالطبع مات بعضهم أينما رحلوا ولم أرى أي جنازة أقيمت بتلك المقبرة التي تحيط بها الأشجار ويغمرها النسيم الذي لا يقلقه شيء سوى أزيز السيارات المهرولة في الطريق الرئيسي.
ذات مرة،وبعد أن ارهقنا الركض ، قال صديقنا الرياضي “[Clain pause” اي راحة قصيرة مشيرا إلى حجرة تحت ظل شجرة بجانب الحائط.
“لنرتح قليلا”
كان المكان جميلا مريحايبعث فيك الاحساس بالأمان الأزلي .خلفك يرقد الأموات وأمامك موقع أثار داموس الكريطة .
“انظر يا شاكر “ما وراء هذا النفق ،جوار هذا العمود الرخامي ؟ايمكن ان تخبئ” آلزا” المفتاح هنا ؟
نظر اليّ شاكر وابتسم
“المهم ان نجد الكريطة يا سهى والصندوق ”
لم تكن عليسة تثق بأحد سوى بتابعتها “آلزا”.تمتاز عن باقي الجاريات بصفاء روحها وجمال عينيها اللوزتين. قيل انها فقدت امها وهي رضيغة فالتجت جدتها إلى أن تسقيها حليب اللوز فكانت بيضاء مشرقة كأمل الوليد.لم تكن لتعرف ما لون شعرها فهو مزيج بين الأشقر والبنيّ .ممشوقة القوام تسر الناظرين .يقال إن الراهب القرطاجني شهق يوم رآها صحبة سيدتها وكان لها دور كبير في اقتناء جلد الثور الذى حولته عليسة الداهية إلى هضبة بيرسا للتحول إلى دووار الشط مع الزحف الهلالي .
إلا أن بعض الجمال يرافقه الغباء.
وقعت” آلز” في حب ربان سفينة “العشق”حين كانت تزور المرفأ مع الآخرين.كان جذابا رفّت له القلوب في كثير من المرافئ وربما يكون قد أنبت بذوره في بلدان عدة .كان مفخرة القائد القرطاجي “صدر بعل” ومحل ثقته .
أحبته” آلزا “حد الجنون وفي مرة من المرات ،أرادت أن تفتخر بمنزلتها عند عليسة وقصت عليه حكاية الكريطة والصندوق أين توجد المجوهرات والنفائس مما حملته معها عليسة ……والنهاية لا تتطلب المزيد من الحبر.@ سهام مصطفى الشريف “اشقياء دووار الشط “(كل تشابه في الأحداث والاسماء هو من وحي القصص )
الكاتبة سهام مصطفى الشريف
Discussion about this post