ملامح تغيرات في التفاهمات الاقليمية – الدولية…
السياسة politics باختصار هي الممارسات التي تقوم بها السلطة الحاكمة المنتخبة ضمن الفكر والبرنامج المستمد من العلاقة بينها وبين المجتمع الذي اختارها على المستوى المحلي لبناء علاقات متوازنة ومحوكمة في اطارها الداخلي والاقليمي والدولي ، على أن تتواءم مع السياسات policies والتوجيهات العامة التي تحكم عمل دولة المؤسسات لتحقيق مصالح الشعب وأهداف الدولة ، سواء في ظل الديمقراطية أو في سياق الانتقال الديمقراطي ، على أن يواكب ذلك وجود نخب سياسية قادرة على تأطير الحوار المجتمعي وانتاج نخب ثقافية وادارية تمتلك مخزون فكري وثقافي لتطوير المجتمعات ضمن القدرات والكفاءات للنهوض والتطور .
منذ أن تفرغت للشأن العام والكتابة قبل أكثر من 20 عام ، وأنا مهتم بتكرار فضل الاستقرار في بناء العقل والثقافة والتسامح والسلم المجتمعي ، لأن التشدد والتطرف والاقصاء يُوّلد العنف والكراهية والنزاع ، بينما تُولد الابداعات الفكرية والثقافية والتنموية من رحم الاستقرار و الأمن والسلام .
الحروب مهما طالت انتهاؤها حتمي ، طوفان الأقصى وما تبعه من حرب اسرائيلية مجنونة على غزة ، ستنتهي نصراً للقضية الفلسطينية كتبتها دماء الضحايا والشهداء ، وأيضاً ستنتهي حرب روسيا – اوكرانيا بتحقيق معظم المطالب الروسية ، كل ذلك سيكون حسب اعتقادي ضمن صفقات وتسويات دولية قد تكون منطقتنا الأوسطية مركزها ، وبالتالي علينا الاستعداد لتلك المرحلة بجدية عن طريق الاستدراك والاستشعار لما ستكون عليه الحلول والتسويات القريبة ، بانعكاساتها المختلفة على منطقتنا داخلياً وخارجياً وأقليمياً وهنا تبرز قوة الدول وتأثيرها اعتماداً على شعوبها .
قد يكون طرح حركة حماس الجديد الأخير ، وهو تأييد حل الدولتين من ضمن التسويات المرتقبة بالرغم من الفيتو الارعن للولايات المتحدة الامريكية في مجلس الأمن الدولي منتصف الشهر الحالي بقبول فلسطين عضواً كاملاً في الأمم المتحدة ، وفي نفس الوقت الذي تسعى فيه غالبية الدول بما فيها امريكا إلى وقف التصعيد ومنع تمدد الحرب والمواجهة الإقليمية، وبحال الوصول إلى وقف لإطلاق النار في غزة ضمن المساعي المصرية المدعومة دولياً ، فقد يسري ذلك على لبنان أيضاً ، باعتبار أن حزب الله يربط المواجهة مع إسرائيل في الوقت الحالي بمسار الحرب على غزة ، مما يوحي بسلوك مسار التسويات لتهدئة الجبهات الساخنة وتطبيق القرارات الأممية والمقترحات الدولية لنزع فتيل الحرب ووقف الهجمات المتبادلة بدل الذهاب في الصراع الى نتائج غير محسومة .
هناك حالياً صحوة عميقة وغير مسبوقة فى مختلف انحاء العالم وعلى كافة المستويات حول القضية الفلسطينية من مقاربات انسانية وأخلاقية وتاريخية وقانونية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ، فنشهد حالياً أوسع ثورة طلابية عالمية منذ أكثر من ستين عاماً ، وتتدحرج كرة الثلج بمظاهرات في الجامعات الاميركية تتجاوز 33 جامعة في موقف اخلاقي أممي ، وتنتقل الى اوروبا ، وللعلم فإن جامعات اميركا وطلابها أوقفت حرب فيتنام في سبيعنيات القرن الماضي ، حيث اتضح لمعظم شعوب العالم من خلفيات حرب غزة ، الشكوك في ادعاءات منظومة القيّم العالمية ؛ حول الديموقراطية وحرية الاعلام والرأي والقانون الدولي .
وخلال مداولة المبعوث الدولي الى سورية ” غير بيدرسون ” في مجلس الامن ، قال ” الشهر الماضي، خيم شبح الصراع الإقليمي من جديد على سورية ، أشعر بقلق بالغ إزاء دوامة العنف الخطيرة والمتصاعدة. وكنت قد حذرت منذ فترةٍ طويلة من تعامل العديد من الأطراف مع سورية باعتبارها ساحة مفتوحة للجميع لتصفية حساباتهم ..”
وهذه إشارة واضحة الى الاعتداءات الاسرائيلية خارج قواعد الاشتباك والقانون الدولي ، ورد طهران المباشر على إسرائيل الذي يحمل رسائل متعددة لضرورة وقف الاعتداءات والحرب ..
من زاوية اخرى ، قررت تركيا نشر نظام الدفاع الجوي إس-400 الذي اشترته من روسيا عام 2019 على حدودها الجنوبية ، في نفس الوقت قام الرئيس اردوغان بزيارة العراق ( بغداد واربيل ) في زيارة هامة اجتمع خلالها مع الرئيس العراقي ورئيس الوزراء والقيادات السياسية ومع السيد مسعود برزاني ، الرئيس أردوغان في لقاءاته كان تركيزه على الملف الأمني ، مؤكداً أن “الأمن والتعاون في مكافحة الإرهاب كانا من أهم البنود المطروحة على جدول الأعمال ” ، حيث أن تعقيدات ملفات “حزب العمال الكردستاني” في المناطق الحدودية ، ذريعة توغل تركيا العسكري داخل مناطق إقليم كردستان العراق والهجمات الصاروخية للقرى والأرياف المحاذية للحدود التركية ، من هذه النقاط بدا الاختلاف واضحاً بشأن الأولويات التي تحدد مساحة النقاش في المصالح العليا بين العراق و تركيا ، فالعراق يريد أن تكون الأولوية لمناقشة ملف المياه لنهري دجلة والفرات ، بينما اقتصرها الجانب التركي في مجالات الأمن والتجارة والنقل والزراعة ، بمعنى (المياه مقابل محاربة الإرهاب ..)
ورغم التوقيع المشترك على مشروع ” طريق التنمية ” وفق اتفاق رباعي تركي- عراقي – قطري- اماراتي ، لربط الحدود التركية مع الخليج ( البصرة ) عبر مسار طريق بري وسكك حديدية ، وما يشكله هذا المسار الجديد من ضغوطات سياسية واقتصادية على سورية التي كانت هي الممر الرئيسي للترانزيت والنقل من تركيا الى الخليج قبل 2011
وعبر التاريخ .. حيث أن موقع سورية الجيوسياسي والجغرافي لا يمكن الاستغناء عنه، لمفاضلة الوقت والمسافة والتكلفة في النقل والمرور ، وهي المكان المناسب الوحيد لمد خطوط الغاز من مراكز انتاجه الى اوروبا وتركيا .
لكن الخطر في الاتفاق الرباعي الجديد يتجسد بأن عودة الاستقرار والسلام المستدام في سورية قد يكون متأخراً وليس سريعاً وهو ما حذر منه غير بيدرسون خلال مداخلته في مجلس الامن يوم 25 نيسان / ابريل 2024
وفي خطاب للرئيس الفرنسي ماكرون ، الاسبوع الفائت عن اوروبا ومستقبلها في ضوء المتغيرات الدولية ، قال “على أوروبا القوية أن تجعل الجميع يحترمها وأن تضمن أمنها و تحمى حدودها و ترى المخاطر التي تواجهها وتستعد لها. الآن هو الوقت الذي تحتاج فيه أوروبا أن تسأل نفسها ماذا تريد أن تكون ”
في افريقيا أيضاً ، ورغم النزاع المؤلم في السودان والصومال والتعنت الأثيوبي في ملف مياه النيل ، إلاّ أن الحوارات بدأت بين الولايات المتحدة ( البنتاغون ) والنيجر بشأن الانسحاب المنظم للقوات الأميركية في المستقبل القريب ، وهو ما حدث سابقاً بالنسبة للعراق إلا أن كرات النار اللاسعة والحارقة في المنطقة قد تكون هي السبب لتأجيل مؤقت لهذا الانسحاب .
ثورة الجامعات في العالم ، تنبؤنا بأجيال جديدة ضد العفن الدولي ، في ظل انعدام الرؤى للحفاظ على كوكبنا والخوف من الانهيار التام الاخلاقي والانساني ، العالم يفكر ويعمل بجدية من أجل التغيير ،
وختاماً نستذكر أبيات من الشعر ؛
بِقُوَّةِ الْعِلْمِ تَقْوَى شَوْكَةُ الأُمَمِ فَالْحُكْمُ فِي الدَّهْرِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَلَمِ
لَوْ أَنْصَفَ النَّاسُ كَانَ الْفَضْلُ بَيْنَهُمُ بِقَطْرَةٍ مِنْ مِدَادٍ لا بِسَفْكِ دَمِ
وَلِلْفَتَى مُهْلَةٌ فِي الدَّهْرِ إِنْ ذَهَبَتْ أَوْقَاتُهَا عَبَثَاً لَمْ يَخْلُ مِنْ نَدَمِ
لَوْلا مُدَاوَلَةُ الأَفْكَارِ مَا ظَهَرَتْ خَزَائِنُ الأَرْضِ بَيْنَ السَّهْلِ وَالْعَلَمِ
والى لقاء آخر …
وكل عام وانتم بخير بمناسبة عيد العمال العالمي ، وعيد الفصح وفق التقويم الشرقي
مهندس باسل كويفي
Discussion about this post