مقالي حول الذائقة الشعرية :الذائقة الفنية عموما و الذائقة الشعرية خصوصا هي ملكة تُربّى لدى المتلقي منذ الصغر تتطور و تتأثر بالبيئة و المجتمع و مدى حرص الأسرة على تنميتها و تطويرها و كذلك المدرسة …
وهي تختلف أيضا من عصر لآخر و من حضارة للأخرى حسب قيم الجمال و ما توارثته الشعوب و تداولته الأعراف …
أمّا عمّا يشكل الذائقة الشعرية في علاقتها بالنص و بالمتلقي فإنّ هذين العنصرين متداخلان في تشكيلها ، فالنصّ ليس إلاّ انعكاسا لرؤية نظر الشاعر و مشاعره و مدى قدرته على ترجمان الواقع إلى مادة مؤثرة مستساغة تشدّ المتلقّى و تحدث لديه هزّة المتعة و تفتح عينه على زوايا نظر مختلفة ،هذا من ناحية ، و من ناحية أخرى فإنّ الشاعر الذي يخاطب الجمهور مباشرة يستطيع بمهارات الأداء شدّ المستمع و التأثير فيه فقدرة الشاعر على الإلقاء و كريزما الصوت و الحركة و النبرات و حتّى الوقـْـف كلّها تستهدف ذائقة المتابع فيتفاعل معه عبرها … وكلّها أيضا أدوات يستعملها الشاعر للتأثير و بالتالي خلق جوّ ملائم لاستهلاك القصيدة عبر السماع و تحريك ذائقته نحو التمعّن و التأمل و الإنصات …
هذا النوع من الذائقة الشعرية أنما يرتكز بالأساس على التذوق الحسّي القائم على عدة مؤثرات خارجية تتكامل مع المضمون الذي يتمثله المتلقي ذهنيا و شعوريا…
أما النوع الثاني من المتلقي ونقصد به هنا القارئ فالأمر يتعلق أولا بنوع القارئ فالقارئ العادي كألاف القراء العاديين يتعامل مع النص بذائقة تختلف درجة التعمق فيها و التبصر عن تلك التي لدى القارئ المثقف أو الأكاديمي المتمرس بالقصيد و الواعي بأسرار النص و القادر على التأويل و قراءة الدلالات و تشكيل الصورة الشعرية و المراوغات البلاغية و حيل استثارة الخيال …
و لا يمكن أن ننكر دور الشاعر في الرقي بالذائقة الشعرية فهو مسؤول عن ذلك بدرجة كبيرة فالمادّة التي يقدمها لا بدّ أن يراعي فيها هذا الجانب و إلا فما فائدة شعر يستهلكه المتلقي كورق بلا طعم أو نصّ يكرس فيه الهبوط أو السطحية أ و التمييع….
أمّ النص فهو وسيلة الشاعر في كلّ ذلك و هو أيضا سلاح ذو حدين إمّا ان يرتفع بالشاعر و المتلقّي و إمّا أن يهوي بهما في هوة عميقة، فالنصّ الجيد الذي تتوفر فيه شروط الشعرية و تكامل البنية اللغوية و الصور البلاغية و الرسالة الدلالية و التداولية و القيم الجمالية لا ينقصه إلاّ شاعرمحترف لمهارة الإلقاء التعبيري يستطيع بها شدّ المتابعين و اختطاف ألبابهم…
و هنا يصير القارئ منتجا للنص يتفاعل مع ما وقع لديه من أثر و ما تركه من بصمة لا تغادره…
و قد تفطّن الشعراء إلى ضرورة العمل على ذلك كترك النص مفتوحا أو العمل على إدراج المتلقي ضمن العناصر الدلالية في مستوى موضوعات القصيدة و كشف المسكوت عنه أو التصوير المجهري للمواقف الحياتية و الحالات الشعورية و الأزمات الاجتماعية و السياسية و …ألخ
أما النص المكتوب فلا يغيب عنه ما تعلق بما سبق ذكره في مستوى بنيته إلاّ أنه محكوم بإكراهات النشر و الانتشار و الوصول ألى القارئ التي تتجاوز في أكثرها مجال التحكم الخاص بالشاعر…. وهنا تبقي الذائقة الشعرية رهينة كما الكتاب الورقي عموما ذلك الذي زحف عليه الرقمي و صار يعاني من نفور في علاقة بالمطالعة عموما .
إنّ تأثير التكنولوحيات الحديثة التي أخذت طريقها بين الشاعر و المتلقي في علاقة الشعراء بالقراء لم يعد أمرا خفيا . و نحن نعيش عصر الصورة و الفيديو و التواصل الافتراضي و سرعة نسق الحياة فإن هذه الحيثيات خلقت ذائقة جديدة لذى المتلقي في علاقة بالصورة و الفيديو ….
فلنا أن نعرض مثلا نصّا شعريا على أحد المواقع الاجتماعية فربما تفاعل معه عدد من المتابعين و لكن إدراج صورة مع نفس النصّ قد يقلب الموازين لفائدة الصورة فترى التفاعل معها يزيد، و هنا يكمن الخطر الذي قد يودي بالذائقة الشعرية نحو الاضمحلال أمام سطوة الصورة ….
و لا يمكن النجاة من ذلك إلا بمزيد الوعي و العمل على تطويره لدى المتلقي حتى لا يكون فريسة سهلة لنصوص هزيلة تُقدّم إليه على طبق من التضليل التكنولوجي ….
وقد تتعدد طرق التضليل و اللعب على اوتارها لنراها تنسف الذائقة الشعرية في بعض الأحيان فالنصوص التي توظف مثلا جسد المرأة في ابتذال ركيك إنما تنسف الذائقة و تهبط بالذوق و تهدم و لا تبني….
و ختاما لا بد من التذكير بالدور الذي لا بد أن يلعبه المثقف الناقد فهو الموجه زمن الفوضى و المسؤولية تقع على عاتقه أيضا ….
فبعض التطبيل الزائف و النفخ الزائد فيما لا يستحق يضرب الذوق و يهدمه و لا يخدم الشعر و الشعراء …
و لا يفوتني أن أنوّه بما تقدمه مجلة الحيرة من مادة ثرية في علاقة بتناول موضوعات حارقة في سماء الشعر المعاصر .
شكري و امتناني أيضا للشاعر الصحفي أشرف عزمي على ما يبذله من جهد و وقت من أجل مشهد إعلامي شعري راق .
( الشاعرة أحلام الهاشمي فتيتة )
تونس
Discussion about this post