وصية العمر
كلما وقف “الحاج صميدة” وهو جدّي لأبي أمام شجرة الزيتون ليلا سمع أنينًا وحشرجات في الحقل، وحين يعود إلى البيت يجد بقعًا حمراء في صدره وتنتابه الحمّى فجأة. “الحاج صميدة” لا يفهم ولا يتقن غير الفلاحة وما يتبعها من غرس وزرع وسقي وجني وتجديب وتسميد وليس عنده غير موضوع الفلاحة من يتصدر مجالس أحاديثه ونقاشاته، فهو متشبث بجذوره كما تتشبث جذور شجرة الزيتون بالتربة على قاعدة واسعة، فالحقل هو حظه وقدره. ولد أبي بأحد الأرياف التي لا يجد أهلها أي فرق بين الفلاح الذي يبيع أرضه والبكر التي تبيع عرضها ليتساوى لديهم من يتنازل عن أرضه من أجل تحسين ظروفه بالمومس التي تبيع جسدها بطرق شتى، طرق موروثة وأخرى مستحدثة مفضوحة عن طريق بلاغتها الاشهارية من أجل الحصول على بعض مال لمواكبة الموضة… هذا ما زرعه الحاج ابراهيم في ذهن ابنه صميدة الذي هو أبي.
كنت صغيرة حين كان جدّي ووالدي يزرعان مشاتل الزيتون في هذا الحقل الذي ورثته عنهما، كنت شعلة فرح، وكان الحقل مرتع ساعات فراغي، كنت أقفز وأنط كالعصفورة بين المرتفعات والمنحدرات وفي سواقي المياه الجارية، والنسائم تتمازج فيها عطور الزهور وقت ايناعها من يتطئ لحظة يختطفه النوم ساعة كاملة في هذا الصمت الجميل، الصمت له صوت خاص يخبر بثراء الموسم القادم. كنت أمضي جلّ أوقاتي معهما، جدّي كان يقول أن الزيتون مثل الأبناء وسأورثه لهم ولأحفادهم، فالأرض هي العرض والعهد والقسم بيني وبينهم، هي وصية العمر، أن أزرع فيهم عشقها وحبها، ولمّا يراني أنطّ وأقفز يبتسم ويقول شكرا للطبيعة التي وضعت الأحفاد بعد دورة على درب الأسلاف.
ذات مساء بعد أن تدللت السماء بسحب الخريف وذابت الشمس اليائسة التي لم يبق منها سوى بعض الضوء الفاتر وقد ملأ الكون عاد أبي من الحقل مرهقا، في البيت يجد رسالة تضمّ أسماء الفلاحين الشهداء مكتوبة بمداد أحمر أما الأنين فيقول جدّي بأنه هو بالضبط أنين الجدّة والحمّى التي سكنت مفاصلها حين كانت تعاني أيام القبض على أولادها الشهداء.
مع أنّي كنت وقتئذ صغيرة، تثبّت مليّا في الأسماء، وجدت منها أسماء نساء شهيدات، عرفت أنّهن لم يبعن أرضهن، ولم يفوّتن في عرضهن، فشتّان بين دمّ الشهيدة، ودمّ بيع العرض.
ياسمين خدومة/ تونس
Discussion about this post