(( عائشة المحرابي .. ودلال الجنون ))
*******************************
بين يدي اليوم ديوان أهدتني نسخة منه الشاعرة المبدعة عائشة المحرابي ، وهو بعنوان ( وللجنون دلال) ، ولقد جاءت واو العطف سابقة في العنوان ، فكأنما الجملة التالية لها إنما هي استدراك لما قبلها ، وأحسب أن النص الذي حمله الغلاف الأخير قد أوضح المعنى ، إذ جاء في نهايته _ بعد الاقتطاع_:
عاريةٌ عواطفهُ
محتفلٌ بهوسِهِ،
يدندنُ طرباً :
… للجنون دلال!!.
ولاحظ معي أن جملة للجنون دلال التي وردت في آخر النص لم تسبقها الواو ، ولكن سبقتها نقاط الحذف الثلاث ، مما يشير إلى استدراكية حرف الواو.
الغلاف ارتسمت عليه حروف عربية شكلت قلبا على هيئة منطاد ، انسدلت منه أرجوحة جلس عليها أحدهم ، فكأنه يطير فوق البحر والقلب منطاد.
وقصائد الديوان في مجملها تشير إلى أنه ديوان رومانسي ، فالنفس الرومانسي طاغٍ فيه، والمفردات الرومانسية لها النصيب الأوفر ، مثل: الشوق ، الحنين ، شجن ، أحبني ، في منفى حبك ، تابو الحب ، لوعة ، ذكرى حب .. وغيرها.
لكن الشاعرة وهي تبحر في بحر العواطف والمشاعر الجياشة ، لاتواتيها الرياح بما تشتهي سفنها من اللقاء والوصال، بل تعيش في كثير من القصائد حالات من المشاعر المرتبكة والمضطربة ، ومن حالات الوجع وفتور العلاقة والهجران ، لذا نجد عناوين بعض قصائدها تحمل دلالات كل ذاك ، مثل: رماد الذكرى ، صدى كلماتي ، رجل لمزاج، غيب على مرمى وجع، غربتنا، على مدى الوجع.. وغيرها من العناوين.
وليس أدل على رومانسية القصائد من ورود مفردة الحب 102 مرة ، أما مفردة الجنون فقد وردت 36 مرة .
وإذا كان المفكر الفرنسي رولان بارت كأحد أهم القائلين بموت المؤلف في النظرية البنيوية ، فإن الشاعرة عائشة المحرابي تتحداه بقوة إذ تكرر اسمها في الديوان سبع مرات بدلالة الاسم أو الحال، وتضع أيضا قصيدة عن ابنتها (فرح).
وإذا ماطوّفنا في رحلة لاستكشاف جماليات القصائد والتقنيات التي اعتمدتها الشاعرة عائشة المحرابي واشتغلت عليها في تشكيل قصائدها، فلسوف نجد الكثير، فلنعرج أولاً على التناص، حيث تتناثر التناصات ومنها:
*وتتلو آيات العذوبة.
*قبل أن يرتد إليك طرفك.
*دثريني
دثيريني
دثريني
*وقلمٍ أهشُّ به على تراتيل الهباء.
*بلغتُ من الشوق عتيا.
أما الانزياحات الدلالية( البلاغية) ، والانزياحات التركيبية( النحوية من تقديم وتأخير وحذف..) ، فلا تكاد تخلو قصيدة من كثير منها، فمن الانزياحات الدلالية قولها:
* تعلقتُ بسارية الرجاء.
* اشتاق لموج حنينك
يتدفق في أرخبيل دمي.
*أمزق حدود الزنابق
أضرب وجه الندى.
*للمدن المضرجة بالخرائب.
*يدوس على أنينه.
والانزياحات التركيبة كثيرة هي أيضا ، منها:
* وأسدل الظلالَ فوقنا يمامتان وسعفة.
* في كأسنا لم يبقَ إلا الفراغ.
* وبصوتك العذب تقول مكابرا.
* كفراش حول محرابك يحومون.
وبين قصيدة وأخرى ، تشد انتباه القارىء الانزياحات الدلالية /التركيبية مجتمعة في عبارة واحدة، مثل قولها:
* ووراء كلماتي تسكن أنت.
* غيثٌ من حبٍ أنت.
* لأنني على أطراف الخطيئة نائم.
* لك في القلب مراكب حنين.
ومن الظواهر الأسلوبية التي استخدمتها الشاعرة عائشة المحرابي في قصائد ديوانها هذا لتضفي جماليات على نصوصها؛ ظاهرة التوازي ، منها قولها في توازٍ متقابل:
*ممطرٌ حيناً، وصحوٌ حين المطر.
* همساً وضجيجاً
صمتاً ونواحا.
* كم قلتها صمتاً آلاف المرات.
ومما يلفت النظر في قصائد الديوان بروز ظاهرة التكرار في صور مختلفة ، فهناك تكرار للحرف ، وتكرار للفعل.
فمن صور تكرار الحرف تكرار حرف الشين في مقطع صغير خمس مرات ، حيث تقول:
عرشك فوق بحر ( الضاد)
سفينة نوح
تدهشني
وأنت توشوش الكلمات
تدس وشايةً رعناء
بين السطر والتالي.
وتكرر حرف القاف ست مرات في مقطع آخر/ فتقول:
التقينا صديقين.. ربما
وافترقنا غريبين.. ربما
وكنا ذات شوق
عاشقين.
أحقاً كنا عاشقين؟
ربما!!
وفي قصيدة ( عدنا) المكونة من 26 سطراً تكرر حرف القاف 19 مرة.
وتكرر ياء النداء في أحد المقاطع القصيرة مرات ليحمل دلالة البعد.
والأفعال أيضا تكررت هنا وهناك منها تكرار فعل الأمر أو الرجاء ليحمل دلالة الأمر من علو حينا، والرجاء المسكين حينا آخر ، مثل قولها:
* أحبيني
وازرعيني شجرة ميلاد
في كفيك
علقي عليها أحلامك
أمنياتك
اجعلي مني خاتم سليمان
وتستمر الأفعال في ذات القصيدة : أجيبيني .. دلليني .. اغسلي.. اسكبي..لملميني.. ضميني .. اعزفيني..انثريني.
أما من حيث الصور البديعة في الديوان ، فهي جمة في عددها ، نقتطف منها:
* عن ضحكةٍ مأسورةٍ
في الحنجرة
معلقة بين كبوتها
وبين الانطلاق.
* وجمعتُ اشواقي
قصاصات مطرزةً
برنات القبل.
*كنت أقبعُ خلف نافذة قلبك
ومنفيةً في العراء.
* وحدي إلا من وجع ينزف تحت
وسادتي
عمدت الشاعرة إلى التنويع في أشكال نصوصها، فأتحفتنا بقصيدة ( موعد) في صورة سرد شعري فبدت قصة مسرودة شعريا.
وإذا كانت قصائد الديوان قد غلب عليها الشعر المنثور إلا أن قصيدة ( رؤيتان) قد جاءت موزونة وتفعيلية على وزن( متفاعلن) ، وكذا قصيدة (على ذكراك) التي جاءت على وزن(مفاعلتن).
وعمدت أيضا إلى استخدام ظاهرة التناوب بين الموزون والمنثور بين الحين والآخر، كما في قصيدة ( أوتكرهينني) ، جيث تبدأ القصيدة بمقطع نثري ثم تتبعه بمقطع موزون ، فآخر نثري، وفي قصيدة ( الجنون النبيل) يتناوب النثري مع الموزون أيضا.
وإذا ما أردنا الحديث عن البناء الهندسي المتميز، وهو تقنية بصرية ، نجده مبثوثا بين قصائد الديوان ، فلا مفر من أن نعرض لبعض هذه العينات، منها:
وينسى بأني الحبيبة تلك التي يدّعي
….. ويهيم
ي
ه
ي
م
فهيام الحبيب ارتسم متشظياً في دلالة على كذب ادعائه.
وفي بناء هندسي يحمل دلالة التساقط ، تقول:
فأتساقط
أزهاراً
وقبلاً
وخزامى
ولعل القارىء لن تخطىء عينه ولاحسه هذا الجمال المصور في تكرار مفردة تهواني لتأكيد الفعل ، ثم إيرادها مقطعةً كأنما الشاعرة تتمتقها، إذ ترسمهاعلى النحو النتالي:
وأنا التي أقسمتَ بها، وبحبها
وبعهد الهوى وليالي السهد
أنك تهواني
و
تهواني
و
ت
ه
و
ا
ن
ي.
حوى الديوان 60 قصيدة ، تبعتها ( عتبات من حروف مجنونة ) ، وهي عبارة عن 54 نصاً جاءت على شكل ومضات أشبه ماتكون بقصائد الهايكو ذات المنشأ الياباني، مثل:
*أجمل الوعود ماكان بعد لقاء عالق.
*مجنون يختبىء في أزقة الحروف
خوفاً من ظل حبه.
*ظننته قمراً يضيء عتمة روحي
كان ثقباً في عباءة الليل.
وعلى الرغم من رومانسية قصائد الديوان ، إلا أن هذا لم يمنع الشاعرة عائشة المحرابي من أن تضمّن بعضا من القصائد آراءها السياسية والاجتماعية التي تؤمن بها ، فتقول:
اطلق عليّ من الصفات ماتشاء
أنا:
طفولةٌ تقاسمت
نبض الرصيف مع الضياع
تكونت بحمق سمسارٍ وضيع
حمل البلاد بضاعةً
وأسرَّ أحقاداً وباع.
وإدانة سياسية /اجتماعية / اقتصادية تتبدى في قصيدتها(عيد بلا لقيا)، نقتطف منها:
مالهذا العيد
يطرق بابنا
يتسول الفرحة من ملاذات الهباء
وجيوبٍ حافلاتٍ بالخواء.
الديوان حفل بالقصائد والنصوص التي تؤكد شاعرية الشاعرة عائشة المحرابي ، وتمكنها الجلي من صوغ انفعالاتها ومشاعرها وأحاسيسها في قوالب وأشكال شعرية متعددة اعتمادا على تجربتها الشعرية الطويلة.
**********
بقلم : كمال محمود علي اليماني
Discussion about this post