لِمَ تصلح الرواية اليوم؟
مطارحات حول رواية طوفان من حلوى لأمّ الزّين بنشيخه
بقلم: د. هيبة مسعودي
إنّ أكثر ما يشدّد عليه آرتور دانتو الباحث في الفنّ المعاصر في كتابه إعادة تشكيل المبتذل الاعتناء بعنوان الأثر. صارت العناوين في الفنّ المعاصر كبراديغم مخصوص، أمارة إستطقية فارقة في الأثر الفنّي لأنّ “العنوان أكثر من اسم، إنّه الموجّه للتأويل والقراءة” بعيدا عن مجرد المصطلحات التي تحترف الغواية والإغراء المجاني للقراءة ليكون لزاما علينا في ديباجة تفكيك شفرات هذه الرواية، التوقّف عند ذلك الثنائي من الأسطر الذي تتوسّطه ثلاثة نقاط .
طوفان من الحلوى
…
في معبد الجماجم
عنونان؟ أم هو واحد يستعيد نفسه في وشاح مغاير؟ إذن منذ البداية تزجّ بنا الرواية في زخم من التأويلات متجاوزة بذلك المفهوم التقليدي للعنوان، ربّما لأنّ الرواية المعاصرة قتلت العنوان الواحد الأوحد لتدثّر ذاتها في الكثرة والتعدّد. لقد سئم الأدب الدكتاتورية المعيارية وسطوة المقاييس فلا أحد وصيّ على الكتابة وأشكالها. وعلى ما يبدو لقد آثارت هذه الرواية الفلسفية التحرّر من قداسية العنوان الواحد المتقن أو المكتمل في شيء من تخييب أفق انتظارات القارئ كما قد تعهّد بذلك روبارت ياوس في نظرية التلقي. فثمّة إصرار على التحرّر من الكلاسيكيات في الأدب التي غدت خانقة للنفس الإبداعي ومسببة للرتابة الأدبية القاتلة.
“طوفان من حلوى” والطوفان يعني اصطلاحا “الماء الذي يغشى كل مكان، وقيل: المطر الغالب الذي يغرق من كثرته، وقيل:الطوفان الموت العظيم”. والطوفان من كل شيء ما كان كثيرا محيطا مطيفا بالجماعة كلها كالغرق الذي يشتمل على المدن الكثيرة. والقتل الذريع والموت الجارف يقال له طوفان. فكيف للطوفان بجبروته وقسوته أن يعدو ناعما لأنه ليس معدا للقتل بل للحلوى؟ هل يمكن للرواية المعاصرة أن تُهدئ من روع المريع وريعه وتعيد تشكيله في مذاق مستصاغ؟
“…”ثلاث نقاط التي تعودنا بها في آخر الكلام أو الكتابة لكنها ههنا تتوسّط العنوانيْن بمثابة المساحة البيضاء تعفيك من قراءة الألفاظ لتزجّ بالقارئ في مساحات قرائية لعوب أكثر شساعة، لأنّ تأويل البياض الصامت أكثر ذروة وعسرا من تأويل الكلام. إنّها نقاط ليست اعتباطية لا محالة تحيلنا إلى ما أقرّه أمبرتو إيكو في كتابه الأثر المفتوح في علاقة بالأثر الفنّي والمتلقي فيكتب”انفتاح ينبني على المشاركة النظرية والعقلية للقارئ الذي يجب أن يؤول بشكل حر أثرًا فنيًا سبق تنظيمه ويتوفر على بنية معينة.” فقد تحملنا هذه النقاط إلى الدعوة للاشتراك في كتابة العمل الفنّي ضربا لديكتاتورية الكاتب ونحن قد شهدنا في الجماليات المعاصرة موت الكتاب كما قد أوضح جاك دريدا.
“في معبد الجماجم” الثّاوي على مفارقة بين المعبد كمكان للتعبّد والتهجّد للمقدّس طمعا في حياة أخرى منصفة، والجماجم بما تختزله من موت ونهاية وجودية إضافة إلى فظاعة المكان المقام على مخلّفات الموت، وعلى خلاف كل الأمكنة المقدسة ففيه”تنهار طمأنينة المصلين في مستنقع قديم” فالمعبد ليس معبدا والمقدّس صار قاتلا لا يفرز غير الجماجم والرؤوس التي أُحل قطعها باسم إله بريء من تأويلاتهم الخاطئة.
إنّها لخيمياء جمالية تقيم الربط بين عنوانيْن تبدو متنافرة حدّ التناقض إذ ما تأوّلناها وفق المعايير العامة التي دأبت الرواية على اقتفاء أثرها في الأدب. غير أنّ الكاتبة منذ البدايات تقرّ أنّها تشذّ عن السرد واللذّة السردية نحو منطق فلسفي خاص بها، باعتبارها قد اشتغلت على الجماليات المعاصرة وأتقنت الولوج إلى باحة نظرياتها قراءة وترجمة سواء كدروس أو كبحوث لتكون طوفان من الحلوى … في معبد الجماجم رواية فلسفية مضادة تكتب الكارثة في سردية مغايرة قائمة على جمالية الفاجعة وسرديات المريع. وليس أعظم من تدوين فاجعة الإنسانية المتهاوية في أوطان الوجع والوهن، أين تسهر السياسات على توزيع الجثث على قدر من اللامساواة على شعاب الجبال.
كتب بلانشو” لن تكون المتكلم، فدع الفاجعة تتكلم فيك، ولو بالنسيان أو بالصمت” غير أنّ أم الزّين بنشيخه جعلت القلم يتكلم عن الفواجع في لغة الجمع في هذه الرواية لأنّ” كل الأمكنة احتلتها القتلة ولا مناص من التماسك” لنغدو أمام كثرة من التراجيديا الواقعية تتهاطل من كل صوب من أرجاء الرواية، هو الإرهاب وسياسة اغتيال الحياة أينما استطاع لها أهلها سبيل، أودية وعيون جارية من الدماء البشرية المتمسكة بحقها في المقاومة في شيء من التخثّر، علّها تتحوّل إلى أمارة مادية تدل على بشاعة همج الإرهابيين الذين مروا على هذه الأرض.
إنّ الرواية توثّق فاجعة القتل والجماجم المتحرّرة من التدليل على هويّة بعينها تملأ الصفحات من كادحات تناثرن جزافا في حفر المسالك الفلاحية حيث يطعمن أمة لا تؤمّن لهنّ بضع كيلومترات تعيسة وعرة، أمّا الشباب الذي تعدّدت طرق حتفه عوضا عن طرق الدفاع عنه، بين أطعمة لحيتان البحار، وبين قرابين لشوق الحياة في المدن المحجوبة من السياحة المنظّمة…لذلك افترعت لهم الكاتبة أفقا وجوديا مغايرا عبّرت عنه بكلماتها” طفقت تجمع أصواتهم الضائعة من أجل أن تضع بها حكاية جديدة”. في شيء من التعويض السردي أو الثأر من سياسة الإنهاء وقسوة النهاية. فكيف لكل هذه الجثث أن يبتلعها النسيان دون أن تحولها الرواية إلى وشم في الذاكرة ينقشه “الهذيان البهيج للسرد”؟
ههنا، لم تعد الكتابة شيئا من فيض خاطر أو لفحا من الخيال الهاوي للتحليق، إنّها تأريخ عميق يخاف أن يفلت منه أيّ تأوّه أو يغفل عن أيّة غمغمة للآقاصي. إنّ الكتابة في الرواية المعاصرة إنصات عميق للأصوات التي يتجاهلها الكل، والتي لا تسمع هسهستها غير أذن العدم أو قعقعة معبد الجماجم لذلك صرّحت” لن أكتب لكم قصة تريدونها… سأبدّد لغة الذكور بهذياني البهيج… حتى السواد عندي فرحة كبرى…وشيدوا مآتمكم بأنفسكم.” مدام لا شيء وفق المقاس، ألم فوق المستطاع وذراوة في الموت فوق المقاس فكيف للكتابة أن تكون وفق المقاس؟
يسرنا لنا صوت من الأصوات الهائمة في الرواية” سألتقط كل الرؤوس المذبوحة…وسأبني بهم معبدا للجماجم… هناك ستتناسل حكايات الآلهة من جلود جديدة” ربّ تناسل سردي تأريخي نقدي يجعل من الكتابة ضربا من ضروب المقاومة الفعّالة ضد كل أشكال النسيان وأصحاب الذاكرة القصيرة. لا شيء يُفلت من شبكة كاتبة مغرمة بتجميع واقعها المرير في حبكة قصصية غير معتادة لأن حجم الألم الذي تقتفيه أحداث الرواية ولج إلى مالا طاقة إنسانية تحتمله. وكأنّما كتابة الرواية في هكذا وقت تطلب من فظاعة الفنّ أن تزايد على فظاعة الواقع. ليس تصويرا لقبيح أدرنو، بل المفزع في حدّ ذاته يتربّع على أكثرية المشاهد”جماجم منثورة على طول الطريق المؤدية إلى أطفالهم”، ” في القرية التي ابتلعها الجبل في بطنه…وبقى يقهقه عاليا دون اكتراث للرؤوس التي قطعت فوق تلاله التائهة في هذه التضاريس الحزينة”
إنّ طوفان من حلوى … في معبد من الجماجم أثّر فنّي صدامي، يثير صدمات للمتلقي بشكل سحري عجيب ويرسم صورا وصفية تخلق توترا فائقا ليؤكد انتماءها إلى الفنّ المعاصر الذي يعرّفه مارك جيمنيز بالإزعاج”علما أنّ الإزعاج هنا مرادفة للفضح، والصدام والمواجهة والتحدّي. فالفنّ المعاصر لا يتستر على مريع الواقع بحلاوة الأدب، بل يصنع من الرواية فضاءً للانصات لهسهسة سياسات القفر واغتيالات الحياة والإنسانية على قدر من المساواة. فلا مجال للتواطؤ وتزيف واقع ينزف جماجما ويتنفس هواءً مختلطا بالدم لكن هل يمكن للدم أن يكوّن خليطا لزجا للبناء والمقاومة؟
إنّ الرواية لا تحرمنا من خلق العالم الذي نشتهي حتى وإن حاصرنا “واقع لا نجيد قراءته” خاصّة وإن كانت الكاتبة محكومة بالأمل والفلسفة المرحة وقد عبّرت عن ذلك بقولها “يوم واحد يكفي لجمع شتات العالم… ولمنع جدار المعاني من السقوط”، يوم واحد من المقاومة التي تنبثق من طعم خبز الحلوى الذي يتكاثر في ضرب من الطوفان المرح معيدا للحياة مذاقها “ستواصل الضحك صمتا كآخر مهدرة تدل على أن النهار سيعود كل يوم.” وستشرق شمس الحياة حتما على سطح الوطن. والأمل في عالم مغاير تبثّه ميارى الشخصية الأنثوية التي تعود لنا من سدّ المسعدي لتفتح أفق الرواية على الانتصار للفنّ والحبّ، انتصار لنور الحياة البهيج فتصدح بصوتها الذي يأبى الدفن”نحتاج إلى استعادة قدرتنا على الحبّ” كآخر ضروب التشبّث بالحياة حتى وإن كانت سردية داخل قصة أخرى وأفق آخر نعيش فيه دون أجسادا.
إنّ الرواية تنتهي ولا نيّة لها في الانتهاء لأنّها مازالت قابلة للانصات إلى شخصياتها وربّما إلى شخصيات أخرى لم يلدهم الواقع السردي بعد، غيرأنّها تعلمنا حكمة كل الحكم أنّنا محكومون بالأمل والحريّة على حدّ السواء في هذه الأسطر “وأبصر عبد الباقي طيف خديجة وشبح ميارى وهما يتجاذبان أطراف الحديث:” إنّه طوفان من الحلوى…سأظلّ أوزّعه على جميع الرؤوس حتّى يستعيدوا أجسادهم”.
Discussion about this post