الصورة السينمائيّة للقبلة الحداثيّة..
———
النصّ الشعريّ
———
وعنها نضوتُ النّقاب.. وعاتبتُها: كيف لم تأتِ بالأمس عندي؟!
وكنتُ ، قطفتُ لها من حدائق (سان فلتين) باقة زهرٍ ووَرْدِ
فمدّت يدا عند أزرار ثوبي وأخرى تعالج ما كان خَطَّهُ دمعي بخدِّي
نسيتُ العتابَ.. وعَلَّقْتُ في نحْرِها قُبُلاتٍ تناسقن في مثل عِقدِ!!
———
لو نُوَصّفُ المشهد الشعريّ في مقطعٍ سينمائيّ عند ركح ..
وأخذًا بالاعتبار أن ّالاتّكاء على المشهديّة السرديّة بالشعر إنّما هو سرد قصة في مشهد يوحي بشعريّته بحيث لا يكون مجرّد تسجيل للحدث وتدقيقه، إنّما تتبدّى آثار الحدث في جماليّة تكوين المشهديّة فيه من خلال كيفيّات التقاط الصور واتّساقها معًا، لتخدم التجربة الشعريّة..وهو ما نطلق عليه في عالم الأفلام والسينما والتلفزيون بالتصوير السينمائيّ..
لو اعتبرنا الشاعر هو المسؤول عن إنشاء الشكل واللون والإضاءة وتأطير كل مشهد بقصيده…
أين نرى اللّقطات البعيدة للغاية؟
أين نرى لقطة عين الطائر؟
أين نرى اللّقطة البعيدة؟
أين نرى اللّقطة المقرّبة؟
أين نرى التكبير؟
بمعنى ما الاتّكاء على التصوير عوضًا على السرد الحكائيّ من جانب تنويع التّصوير لا من جانب إقرار الحدث وزمكانه حتى تصير عناصر التصوير السينمائي المختلفة كـــ ( الإضاءة/ حجم اللّقطة/ تركيز الكاميرا /وضعها وحركتها) بحثا في كيفيّات استخدامها لنقل المعنى أو الحالة المزاجيّة في المشهد… بالأخير تصبح بعدًا تأويليًّا لدى القارئ المتلقّي ومنه يكون المتلقّي مشاركًا بالقصيد ومنتجًا فاعلًا بالمعنى..
لذلك ومن هذا المنطلق سنعتمد مصطلحات سينمائية للبحث في جماليات القصيد الّذي لم ينتبه إليها بعض أصدقائي من القرّاء والمتابعين..
1- مصطلح قاعدة الأثلاث ( إيجاد أربعة الفاظ) مفاتيح النص.. كيف؟
لنعتبر النص لوحة او كادرًا … و نقوم بتقسيم (النص كاملًا ) إلى خطّين أفقيّين وآخرين عموديّين، بحيث يشكّلان شبكة مكونة من 9 مستطيلات، تتقاطع هذه الخطوط في أربع نقاطٍ تعتبر نقاط القوّة..
آخذ لفظين من السطر الشعريّ الاول عند تقاطع الأفقي مع العمودي
آخذ لفظين من السطر الشعري الثالث عند تقاطع الأفقي مع العمودي الثاني
يعني آخذ من السطر الأول لفظين(النقاب /لم تأت)
ثم آخذ من السطر الثالث لفظين(يد على أزرار/ خطّه دمعي)
سنجد مشهدا يكوّن هذه الحكاية ( الحبيبة تخفّت بنقابها ولم تأت ؛ فتفككت أزرار قلب الحبيب وخط الدمع أنهارا)..
أليس هذا مشهدًا دراميًا فائق الدّقة والتسريد فيه الصورة والخيال الجامح والعاطفة المرهفة.. !؟؟
———
2- مصطلح التّأطير
———
التّأطير هو خلق إطار معين ضمن الكادر، يحصل ضمن هذا الإطار الأحداث المهمّة، فتكون الفكرة قائمة على حدّ المشهد ضمن إطار في المشهد.. إستعمال الكاميرا الثابتة تقريبا وإبعادًا…
مثاله بنصنا ً تأطيران..
الإطار المكاني الأوّل عند حدائق (سان فلتين) أين حركة قطف باقة زهرٍ ووَرْدِ لها بعيد الحب هناك بالبعيد إطار مشهد بعيد ..
اما الإطار القريب الثاني فهو الآن وفي الهنا وهي بحضنه استعمال زووم التقريب بالكاميرا تكبير مشهد الأنامل وهي تفكّ أزرار القميص و حركة الكاميرا الثابتة على اليد الأخرى التي تمسح ما سال من دمع..
———
3- الهيدرووم
———
الهيدرووم هو المسافة ما بين حدود الصورة/المشهد وبين الشخصيّة (رأس الشخصيّة أو الممثّل)، من المهمّ جدّاً الإبقاء على مسافة الهيدرووم بمقدار متوازن دون الإفراط فيها او قطعها نهائيّاً.
ومثاله بالقصيد التوازن الدلالي بين ما قدمه هو من عتاب ومقدار الحجة التي أسكتته عن أي صنف من عتاب..
———
4- لوكينغ رووم
———
تتمحور فكرة اللوكينغ رووم حول إعطاء الممثّل الأريحيّة في الكادر نحو الجهة التي ينظر إليها، إذا كان الممثّل يتكلم أو ينظر إلى اليسار فعلينا جعله في يمين الكادر(المكان المعاكس تماماً)، كسر هذه القاعدة يعطي إحساساً للمشاهد بالراحة والأريحيّة بالمشاهدة..
- فمن حيث أراد الشاعر أن يقول كلمة مباشرة بجملة تقريرية (قبلتها أي الحبيبة) او عانقتها سلك طريقا مشهديًا آخر قلب فيه زاوية النظر ..
فأين تتمحور فكرة اللوكينغ اي أريحيّتها…
———
أ- زاوية النظر
———
تعتبر ، بتقديري زاوية النّظر أن يقدّم الشاعر ذخيرة نصيّة وخطاطة وسجلّا دلاليًّا يشترك فيه مع قارئه ولكن يقدم الشاعر وجهة نظره مع إصافة نوعية في اتخاذ موقف يكون بمراعاة كيفيّة صوغ مشهد القبلة؟
———
ب- المصدر التراثي للقبلة
———
لئن أوحى لنا الشاعر باستراتيجيّة نصيّة تنطلق من رؤية القارئ التراثيّة ومن الاّأدب عامة إنّما سيكون مشهد القبلة أيضا من مقولات التراث… بمعنى أن القارئ سيجد تمثّل تلك القبلة من الكنايات النادرة التي يعبّر بها العربي عن التقبيل: مثلًا نجد في ألف ليلة وليلة “قبّلته في فمه مثل زَقّ الحمام” ..
هنا للقارئ يقدم الشاعر الحبيبين مثل فرخيّ الحمام جنبًا لجنب.. وأدار الكاميرا لوجه الحبيبة لنرى كيف تزقّه الحب كيف هو ثغرها ؟ تتبدّى لنا الحبيبة فيصف ثغرها ومبسمها .. من ذائقته الأدبيّة مثلًا من نزار قباني، حين وصف في قارئة الفنجان فمها قائلًا عنه “المرسوم كالعنقود”.
وقارئ آخر للسرد سيفكّر في توصيف ثغرها وهي تتأمل حبيبها كما لو انه حبّة الكَرَز مأخوذا من عنوان روايةٍ حنّا مينه “الفم الكرزي”..
———
ج- الحجاج والتورية والاخفاء
———
القارئة الشاعرة ستنظر من زاوية الأنثى التي تنصب الشباك والأحابيل لحبيبها…
القارئة ستنظر من زاوية كيف تحافظ على الحبيب حتى وان أخطأت ستلتجئ الى حيل تحافظ من ناحية على كبريائها ومن ناحية أخرى على حيائها وتطلبها للقاء الحبيب …
وهنا ستحضر المتلقيّة ما كانت تهديه. لبشّار بن برد عاشقته فلكي تذيقَ حبيبَها رضابها، تهديه مسواكها.. مبلّلا بريقها وجليل رضابها… فـ “يصبح المسواك بديلًا من الثغر دالّا على قُبلةٍ وهميةٍ بإمكانها لوقتٍ وجيزٍ الإنتصار على المسافة الفاصلة بين الجسدَين”.
يقول بشّار بن برد:
لمّا أتتني على المسواك ريقتها *** مثلوجة الطعم مثل الشهد بالراحِ
قبّلتُ ما مسّ فاها ثمّ قلتُ له *** يا ليتني كنت ذا المسواك يا صاحِ
———
د- سجلات الأدب الشعبيّ
———
وبما أنّ القارئ بالنص يبحث عن حقيقة المعنى المضمر بالنص فإنّه سيتفطّن إلى أنّ هناك طقوسًا شعبيّة للعبور إلى فردوس الجسد،.. كيف سلك الشاعر ذلك ؟!
فلا بدّ يذكر المتلقّي الأمثال بالأدب الشعبيّ من المثلٍ الشعبي المصري الذي يتحدث عن االقبلة..
“جوازة من غير بوس زيّ الجنازة من غير ورد”.
———
و- الحجّة والدليل
———
يلجأ القارئ حين إنتاج النص الى تمثّل ما شاع عن امرؤ القيس الذي ظلّ يقبّل حبيبته مئة قبلة، واحدةً عند كل تحريكٍ لقطعة شطرنج، وذلك في قصيدته:
وقد كان لعبي كلّ دَسْتٍ بقُبلةٍ *** أقبّل ثغرًا كالهلال إذا أطلْ
فقبّلتها تسعًا وتسعين قبلةً *** وواحدةً أخرى وكنتُ على عجلْ…
————
خاتمة
———
نص باذخ للشاعر حمد حاجي .. يقلب الطاولة على الأدب الكلاسيكي وعلى شعر العمود..
ولئن كانت القصيدة بتفعيلة المتقارب فعولن فعولن …فإنّ الشاعر لم يكن فاعلًا فحسب بل صار مخرجًا ومنتجًا سينمائيا .. بقي سؤال عالقٌ بحلقي …
فهل قبّل الشاعر حمد حاجي حبيبته على عجل مائة وزاد أم صنع على نحرها عقدًا أم أنّ العنقود كان الكرز ثم نام للصباح؟
Discussion about this post