إذا كان المقصود بالحداثة الاستعلائية تلك التي تصوغها النخب، فالحداثة استعلائية بالضرورة. هناك سياقات تاريخية توجد التفاعل بين الرؤية الفكرية للحداثة والمجتمع وهناك سياقات أخرى لا توجده. عربياً، المسألة أكثر تعقيداً لأن مفهوم الحداثة نفسه في الخطاب الفكري، فضلاً عن الخطاب السياسي، ملتبس لأنه مختزل ومجزّأ وليس له حامل ثقافي قوي يحمله. وفي المناسبة، فهو لا يكاد، علمياً، يخرج عن نطاق الفلسفة وتاريخ الأفكار إلاّ عرضاً. لهذا لا يمكن القول إنه مفهوم مركزي في الخطاب العربي. الاهتمام الأكبر هو بالتحديث. وهو غالباً ما يكون تحديثاً بلا حداثة. وأعتقد بأن أصل الإشكال هو في أن الفكر العربي، إجمالاً، لا يقبل مفهوم القطيعة، ولا يُقدم على بنائه، في حين أن الحداثة هي، أصلاً، قطيعة. صحيح أن بعض الفترات مثل فترة ستينات القرن الماضي عرفت إعلاناً للقطيعة التغييرية أو الثورية ولكنها لم تتراكم وانتهت، دائماً، بانتكاسة.
الخطاب العربي السائد لا يزال يعيش ثنائيات تقليدية لا هو قادر على حلّها ولا هو قادر على التخلي عنها، من نوع الأصالة والمعاصرة أو التراث والحداثة وما إلى ذلك مما جعل هذا الخطاب مجالاً تتقاطع فيه وتتداخل العصور والمرجعيات والأنساق والمفاهيم، من دون الإحساس غالباً بما بينها من تباعد أو تناقض. يبدو أن المهم هو أن يكون هناك جمعٌ بين طرفي المعادلة ولو كانت معادلة مستحيلة، فكرياً وعملياً. في الإمكان أن أوضح فكرتي أكثر: عندما يضع الإنسان إشكالاته في مستوى الثنائيات فهو يحكم عليها، مسبقاً، بعدم الحل. وإذا كان تعوّد على ذلك فلأنه لا يرى المسافة الكبيرة والخلاقة بين الشيء وضده، بين الخير والشر، بين الحب والكره، بين الصواب والخطأ، باختصار، بين الأبيض والأسود. هذا في حين أن في إمكانه أن يتصور مثلاً، أنّ الصواب خطأٌ لم يكتمل وأن الخطأ صوابٌ لم يكتمل. مجرد هذا التصور يفتح لفكره أبواب الاجتهاد.
من دون قطيعة فكرية ومعرفية مع الثنائيات التقليدية قد يكون هناك تحديث ولكن لن تكون هناك حداثة. اللجوء إلى الخصوصية لا ينفع لأن التمسك بها قد يعني التمسك بخصوصيات التخلّف. أما إذا كانت الخصوصية بالمعنى التاريخي فالخصوصية ليست حكراً على العرب. كل المجتمعات لها خصوصياتها، بما فيها تلك التي أحدثت قطيعة في تاريخها أدخلتها الحداثة. باختصار، من التوهم القول إن الحداثة في الفكر أو في المجتمع العربي لها دخل في ما آلت إليه الأوضاع. هذه الأوضاع، على رغم كل أشكال التحديث، هي أوضاع ما قبل حداثية، تماماً مثل ما يسمى مجتمعاً مدنياً عربياً وهو لا يزال مجتمعاً ما قبل مدني.
Discussion about this post