ومازال العراق ينزفُ شعرا، وينحتُ بإزميل أوجاعه شاهِدةَ نثْرٍ يُرصِّصُ على جسدها المصلوبِ في ميدان القصيد أسماء الممسوين بريشة من جُنحِ جنيّة الشعر التي انسلّت ذات فاصلة وسطرين على حين تفعيلة وزحّافين، ومزَّقت شريعة وادي عبقر المُدسترة منذ الخطيئة الأولى في ذاكرتنا المثقوبة، لترفع لافتة اللاءات المحرّمة في تلمود الفراهيديّ المحرّف، وعلى خطاها خرجت حفيدتها ليلى عبد الأمير ترفع لواء التجديد وتربّت على أكتاف نسوة يخبزن القصائد في تنانير مصلية بالحنين، وتترجّل في شوارع مرصوفة بالقوافي، وتحطِّم الأصنام المنصوبة خلف أبواب ذواتنا المؤصدة، ونحن غافلون لا ندري أنّ مِنسأة الوله بالقديم المقدّس، والمتوارث المُدنس قد أكلتها من أطرافها.
[(أنا التي لم تُسمِها الشرائعُ القبليةِ/ولاعشتار/لستُ زنوبيا ملكةُ الآثار المتربة/أنا سيدةُ الأرضِ/وكلُ مُسميات التأريخ/سقطتُ سهواً /إلى أعماقِ كوكبٍ غريق/مثلَ نقطةِ عرقٍ/سالت من جبينِ السماءِ/أنا المسيحُ المعلقُ/في أطرافِ ذاكرةٍ متآكلة/أنا دارون الذي أعادَ أصلَ الخليقةِ/قبل مسخِها المثير لشهيةِ الوجود/أنا كُلُ تلكَ الحَكايا/المخزونةُ في بطونِ الأديرةِ/أنا الحلاجُ الذي نخرَ دسائسَ السكونِ /وأعلنَ العصيانَ)].
جاءت ليلى عبد الأمير لتعلن قطيعة مع كل ثابت لا يمتد في الزمن، ويتأبى على التغيير، ويتصلّب في شرايين القصيدة، بل تستدعي التراث الذي مازالت تسري حُمّى ماضويته في جسد الشعر، بعد تدجينه ليمارس مفاعيله في نسيج إبداعها، بعد أن تنصب له محاكمة عادلة من مطلع القصيدة إلى أن تترجّل عن صهوة الكلمات في مشهد ثقافيّ رسمت خارطته بسن قلمها بعد أن غمسته في محبرة قلبها، مشهد يسع الجميع ولا يمارس جريمة الإقصاء ويحتفي بالاختلاف، ويمزق كفن الانكفاء على الذات الذي ارتدته ممياوات القصائد القديمة في متحف اللغة.[(لستُ عرافةً تُلملمُ الأقدار/من كفوفِ التائهين/ولا نادلةً تسقي الثمالة/للواهمين في صحواتهم/ولا سبيةً تُجيد الرقص /على أسوار الجلادين/ولا شاعرة تتيمم بأناشيد الرثاء/ولا حكاءة في أساطير شهرزاد/ ولا كذبة تهدهد شهريار حدَّ الغباء/ولا وصيفة لملكات النحافةِ/لست سوى ظلٍ يخشى الظهور/كصفرٍ في المعادلات الخاسرة/لا أحب أدوات النصب والأحرف الضالة/والقواعد العاطلة عن التنبؤ)].
وردة الشعر التي تتفتّح في بستان ليلى عبد الأمير، تنزع إلى تغيير بِتلاتها التي تتوّج رأس القصائد، وتنثر عبير أفكارها حبوب لِقاح على بساط ريح؛ لتستنبت رؤى شعرية مغايرة في المحتوى، تتناسل من أفكارها أشكال مستحدثة، ويتخلّق من تحت سِنّ قلمها ربيع شعري جديد يستعصي على التأطير والقولبة.[(فالمبَجَّلون الكبار يُحلّقون بلا أجنحةٍ/في عنانِ السماءِ/يحصدونَ القُبَلَ/يدورونَ حول حورياتٍ/عارية عن الأقدامِ/حول أنهار الخمرِ فاكهينَ/لاتُخبروهم عن الوشايةِ/عن مزاداتِ المُدِنَ/عن رائحةِ الأزقةِ/ها هُم يدخلونَ الحصون المنيعةَ ثانيةً/يُرعبون أُمي في مضجعها/أمي الحبيبة/لا تعرفُ غير الحُبِ/كُل همها/رصفُ الأحذيةِ المقلوبةِ على قفاها /قلبها الغافلون عمداً/كُل أحلامها/مقعدٌ مُتهرئٌ في الجنةِ/رسمهُ أبي كذباً/حينَ سرق عُذريتها)].
تنبعث ليلى عبد الأمير طائر فينيق من تحت رماد التفاعيل، وتنفض غبار القوافي، في مشهد عراقيّ حداثويّ عابر للزمن وللأجناس الشعرية تقوده مع ثلة من أبناء جيلها ومن سار على منهاجهم رافعين صولجان قصيدة النثر ومرتكزين على التجريب والإدهاش، وإنتاج نصوص ثوريّة عبر طبوغرافية توظّف البياض والهوامش والخطوط وتقطيع الوحدات الصوتية وتزاوج بين الفقرات والأسطر، وتحتفي بالسرد، وتنتقل في حركات مكوكية من الإجمال إلى التفصيل وتغيير مساره العكسيّ، وتقنية الفلاش باك، وإسقاط العناوين من فوق رؤوس القصائد، أو تمديد مفاعيلها داخل بهو النص، والاتكاء على استراتيجية المفارقة.[(تَعرَّ من رغباتك /المُندسة في شرفاتنا عبثاً/ فما عدتُ أكترث لأقوال العرافةِ/ على دكة العاطلين عن الجيوب/ وهي تتلعثمُ بجوعِ التقبيلِ/ وتُردد/ اتركي الأوطان تتدثر بعظامها جانباً/ وانتبهي/ ستتعثرين بأذيالِ نصٍ/ يتسكع في الهواء بلا عصاه/ وفي خطوطِ كفكِ/ أنهارٌ من الرفضِ الثقيل/ تسكنُ أعرافَ قبيلتكِ/ المدججة بالعواصفِ الغبيةِ/ فراودني الشك في شيطاني/ وهو يطلُ من بواطنِ الرؤوسِ/ المتدثرةِ في المآذن/ ومن أعلى صدى الزعيق/ صرخت/ لا لخارطة الاستبداد المختومة بالفطرةِ/ قبل الآف التنهدات/ وهي تلتحفُ الحقيقة التي/ ترعب كذبكم/غادروا مضاربكم بلا رأسٍ/ بلا زيفٍ/ كي تتعرى بلا خجلٍ/ فالحقيقة كذبةٌ صادقةٌ / آيلة للحب)].
Discussion about this post